(1) من يعتقد أن التغيير القادم في السودان سيأخذ نفس نهج وشكل التغيير الذي حدث من قبل في انتفاضة أكتوبر 64م وابريل 85م الشعبية فهو حالم ومغترب عن الواقع الماثل، التغيير القادم سيكون ذا سمات وخصائص خاصة تشبه عمق الأزمة التي ضربت البلاد بانقلاب الجبهة الإسلامية على السلطة الشرعية في يونيو 89م وسيحمل كثيراً من ملامح العنف والبطش الذي مارسته الجماعة الإسلامية على الشعب، ومن المرجَّح أن يكون زلزال وطوفان كاسح يجرف مجمل المنظومة السياسية القديمة، ويزري بمسلمات كثيرة عفا عنها الزمن، فصراع الأضداد اليوم في قمة تفاعله وعوامل باطنية كثيرة تنشطُ وتتفاعلُ لتنفي بعضها البعض وتنتج عناصر المنظومة السياسية الجديدة التي ستحكم السودان. (2) مظاهر كثيرة وكثيفة تشي وتؤكد هذا الأمر منها السياسية والاقتصادية والاجتماعية حيث لم تبرح الجماعة الإسلامية الحاكمة منحى من مناحي الحياة إلا وعاثت فيه فساداً ودمرته دماراً شاملاً غير رحيم، بينما القوى المعارضة من أحزاب تقليدية ومنظمات قد فقدت القدرة على الصدام ومقاومة التعسف والبطش الذي يمارسه النظام، مما يشير بوضوح إلى أن كلا المنظومتين الحاكمة والمعارضة قد فشلا وفقدا القدرة على التعاطي مع مجريات الأحداث، والمقدرة على ضبط إيقاع الحياة السياسية، وحلحلت تعقيدات الأزمة الوطنية التي تتعمق باطِّراد. (3) لقد تخطى السودان اليوم مرحلة الدولة "الرخوة أو الهشة" المتعارف عليها في العلوم السياسية، ودخل رحاب الدولة الفاشلة من أوسع الأبواب والتي تتلخص معالمها في ست خصائص هي : 1- الانفلات الأمني 2- الاصطفاف السياسي الحاد 3- الأزمة الاقتصادية الشاملة 4- ظهور المليشيات المسلحة 5- فقدان الشعب الثقة في السلطة الحاكمة 6- تفشي الفساد دون رادع قانوني، بينما طرفا المعادلة السياسية التقليدية عاجزان عن تقديم الحلول . (4) كان لابدَّ أن يقود هذا الوضع المرتبك لطرفي المعادلة السياسية "سلطة ومعارضة" قوى جديدة للانبثاق وتقديم أطروحات مختلفة صادمة ومناقضة للتي اعتادها المشهد السياسي طوال نصف القرن الماضي، ومثلما لا يقبل الواقع السياسي الجمود والسكون فهو أيضا لا يحتمل الفراغ، لذا فقد انحازت قطاعات مقدرة من القوى الصاعدة في الأطراف لقضاياها المناطقية والجهوية وحملت السلاح رافضة للظلم والتهميش وهضم الحقوق، بينما جميع الأحزاب السياسية تعاني من تمرد قطاعات الشباب داخلها على مجمل النهج المتبع الذي تسيِّر به القيادات من الحرس القديم دفة الحياة الحزبية. (5) هذا الحراك الجاد في أوساط القوى الجديدة -الذي تبلور واتخذ الأطر التنظيمية- أرهب طرفي المعادلة السياسية اللَّذَين يستمدان شرعية استمرارهما في الساحة السياسية من النهج والأطروحات القديمة البالية في عدم وجود البديل، وخوف ورهبة طرفي المعادلة التقليدية مبرر ومرده يعود لإيمان الشارع المتعاظم وثقته المتزايدة في قدرة القوى الجديدة على تقديم أطروحات وتسويات تاريخية شاملة لحل الأزمة الوطنية أكثر جراءة وحيوية. هذه المفارقة أصابت المراقب العادي لبانوراما المشهد السياسي بالدهشة وتركته نهب الحيرة وهو يرى أن قيادات الأحزاب التقليدية التي تدعي جهرا معارضة النظام تمارس سرا سياسات في جوهرها داعمة لبقائه والشواهد على ذلك كثيرة ويعلمها الجميع. (6) أبرز هذه الشواهد كانت الخطوة الدراماتيكية المدهشة التي قام بها "السيدان" في العام الماضي وهما يدفعان بالأبناء في عز الحريق و"زنقة" النظام الحاكم للقصر الجمهوري مستشارين للجنرال الذي انطفأت وهج سلطته، وقد قرأ كثير من المراقبين هذه الخطوة على أنها متهورة وخارج السياق، بَيْدَ أن قراءتهم كانت متعجلة وخدعت بالظاهر ولم تتأن في تحليلها وتنفذ لباطن الظاهرة التي تلتقي فيها مصالح المنظومتين التقليديتين في السلطة والمعارضة اللتان باتتا على قناعة تامة من أن أي تغيير قادم سيضر بمصالحهما معا وقد يؤدي لزوالهما تماماً من المشهد السياسي أو تقليص نفوذهما إلى الحد الأدنى في أحسن الأحوال. (7) كما يمكن قراءة فزع النظام الحاكم وردة فعل الأحزاب المتأرجحة على وثيقة "الفجر الجديد" والارتباك الذي أصاب مواقفها في هذا السياق أيضا، فجميع عناصر المشهد السياسي السوداني اليوم على قناعة بأن التغيير قادم لا محال مهما تأخر، وأنه لن يكون بأي حال من الأحوال تغييراً تقليدياً ومعتاداً؛ بل سيكون جذرياً وعميقاً يعيد ترتيب الأوراق وتوزيعها من جديد، لهذا ستحل قوى صاعدة جديدة محل قوى سياسية قديمة مضمحلة وفاقدة للرشد السياسي، ومن هنا جاء التطابق شبه الكامل بين مواقف القوى المعارضة التقليدية والنظام الحاكم الرافض لمجمل وثيقة "الفجر الجديد"، في حين أصابت الحيرة قوى المعارضة الحديثة بما فيها الحزب الشيوعي الواقعة دوما بين مطرقة وسندان الواقع السياسي التقليدي بقوانينه الباطشة ومسلماته الغبية، وإذا عرف السبب بطل العجب. ** الديمقراطية قادمة وراشدة لا محال ولو كره المنافقون. تيسير حسن إدريس 18/02/2013م [email protected]