*حينما يشعر الناس بأن ما يعتبرونه وطنهم لا يعتبرهم مواطنيه أو يعتبرهم مواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة فإنهم يسعون لإنشاء وطنٍ خاصٍ بهم أو العيش في وطنٍ آخر يبرهم ويبرونه ويرعى حقوقهم ويمكّنهم من مراعاة واجباتهم تجاهه* في خطاب "حالة الاتحاد" الذي ألقاه في الثاني عشر من الشهر الماضي، تطرق الريئس الأمريكي "باراك أوباما" إلى بعض مفاهيم مصطلح المواطنة وتناوله من ثلاثة جوانب أو زوايا مختلفة: ما تعنيه المواطنة، ما تفرضه على السلطة الحاكمة تجاه المواطنين، وما تفرضه على المواطنين أنفسهم تجاه بعضهم البعض وتجاه الوطن في حاضره ومستقبله. عن المواطنة ذكر "أوباما" إنها "الكلمة التي لا تصف فقط جنسيتنا أو وضعنا القانوني ولكنها تصف كيف تمت صياغتنا وما نؤمن به". عن ما تفرضه على السلطة الحاكمة تجاه المواطنين أفاد "لقد أُرسلنا إلى هنا لنبحث كيف نهتم بمواطنينا الأمريكيين بنفس الطريقة التي يهتمون بها ببعضهم البعض، كل يوم وعادة دونما ضجة، وفي جميع أنحاء هذا البلد. ينبغي علينا أن نحذو حذوهم"، وعن ما تفرضه على المواطنين أنفسهم تجاه بعضهم البعض وتجاه الوطن في حاضره ومستقبله، أشار إلى أنها "الكلمة التي تجسِّد أن هذا البلد يعمل عندما نقبل التزامات معينة تجاه بعضنا البعض وتجاه الأجيال القادمة، وندرك أن حقوقنا مكفولة بحماية حقوق الآخرين" ومضى ليقول "علينا أن ندرك أنها تبقى مهمتنا جميعاً أن نكتب الفصل العظيم المقبل في قصتنا الأميركية". في حديثه عن المواطنة، لم يعِد "اوباما" اختراع العجلة ولم يأتِ بجديدٍ لم تستطعه الأوائل وإنما كان، كما أحاول أن أكون أنا أيضاً، مُذِّكراً والذكرى تنفع المؤمنين بأي شيء كان ذلك الإيمان حتى وإن كان الوطن والمواطنة. بالنظرِ إلى حالنا من منظور المواطنة، فإنه من نافلة القول أن عدة عوامل تضافرت لأن توصِل وطننا السودان ومواطنيه نحن السودانيين إلى الحالة المزرية التي نعيشها اليوم والمنذرة بويلٍ وثبورٍ عظيمين في غدٍ، وما أقرب اليوم من غدِ. قد كان من بين تلك العوامل فقداننا أو إفقادنا الحس الوطني وفشلنا في أن نعمِّق ونرسخ ونكرِّس الشعور الواعي، الايجابي والعملي المتطور بالوطن وأن نجعل من ذلك المادة التي تقوي التماسك بين لبناتنا، الأرضية الثابتة التي تقف عليها وحدة أمتنا، السقف المتين الذي يزدهر في ظله تنوعنا، الوعاء الذي يتستوعب كل طموحاتنا وتطلعاتنا المشروعة والحصن الحصين الذي تتكسر وتنكسر أمامه كل دعاوى الفرقة والشتات ونزعات التشظي والتشرذم. دون أن نسفِّه أحلام من يريد أن يجمع الأمة أو العالم بأسره على قلب رجلٍ واحد أو نصادر أشواق من يريد أن يرى كل البشرية وقد أصبحت تحت مظلة واحدة دينية أو أيدلوجية، أيَّاً كانت، وأن يسعى لذلك دون إكراهٍ أو مكرٍ وخداع وبالطرق المشروعة والأساليب المقبولة ويدعو له بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، فإن الواقع الذي يعيشه العالم أو من يدينون بالإسلام وغيره أو ينتمون تاريخياً وجغرافياً للوطن الذي يسمى السودان، بعيدٌ الآن كل البعد عن ذلك ومغايرٌ له بدرجةٍ وصورةٍ تجعل دعاوى الصهر أو التذويب في صيغة واحدة سياسية، عقائدية أو اجتماعية أطغاث أحلامٍ وانفصاماً عن الواقع ومجافاة للحقيقة وشططاً يضر ولا يفيد بل قد يولد نفوراً حتى من تلك الدعاوى وردة فعلٍ مناهضة لها. لقد شاءت ظروف التاريخ والجغرافيا، ولسنا وحدنا في ذلك، أن نكون نحن، الأمة السودانية، أمةً شديدة التنوع تتعدد فيها الأديان والمعتقدات والأعراق والسحن والألوان والتقاليد والعادات والأمزجة والثقافات واللغات وما إلى غير ذلك، وكلٌ بما لديهم فخورون وفرحون. ولو أنه ثمة ما يمكن أن يجمع الآن بين هؤلاء وأولئك ويؤلف بين قلوبهم قدر الإمكان فهو بوتقة وصيغة المواطَنة في وطنٍ، أو بقاياه، يُدعى السودان. لا صيغة أو تركيبة يمكن أن تجمع بين إساقة، أدروب، ملوال، سر الختم، كودي، دهب وجورج وغيرهم وبين حليمه، تريزا، الساره، سوسن، عاشه، داليا ونور وغيرهن وتوحَّد بينهم وبينهن هدفاً وصفاً سوى صيغة مواطنةٍ تتساوى فيها الحقوق والواجبات والفرص ويتساوى فيها الناس قاطبة أمام ميزان العدالة وتحكم الصلات بينهم مواثيق وأحكام يتراضون عليها ويشاركون جميعاً في صياغتها ومن ثم العمل بها والدفاع عنها ضد كل من تسوَّل له النفسُ الأمارة بالسوء ومرضُ الغرض التطاولَ عليها. لو أن ما سبقت الإشارة إليه كان منذ أن خُلق الكون وينبغي أن يكون إلى أن يرث الله الأرض حقاً لا خلاف عليه ولا مساومة فيه ولو أن مراعاته تمت عبر مختلف الحقب والأزمنة بدرجات متفاوتة، فإننا نعيش الآن طوراً جديداً من أطوار تقدم البشرية لم تعد فيه أية فئة قابلة لأن تُغتصب حقوقها أو تُساء معاملتها أو يتحكم غيرها في مصيرها يمنحها ويمنعها كيفما شاء ويقربها ويبعدها حين يري مهما كان ذلك الغير ومهما كان ما يدعيه ويسوقه من مبرراتٍ للاستغلال وموجباتٍ للاستعلاء. إننا نعيش عصر صحوة الشعوب وكرامة الإنسان وإصراره على نيل كافة حقوقه غير منقوصة وسوف يسعى الناس لأن ينالوا حقوقهم بالحسنى وأن يمدوا في ذلك حبال الصبر ولكن حين تعييهم الحيل وتسدُّ أمامهم السبل فإنهم يدركون أن السيف أصدق إنباءا من الكتب وأنه لن يضيع حقٌ وراءه مطالب. ربَّما يكون مناسباً في هذا الصدد أن نضيف أنه كلما استفحلت المعاناة وطال أمد الغبن، كلما كانت ردة فعل المتضررين أكثر تطرفاً وكلما كانت محاولات رأب الصدع أشدَّ صعوبة بل ربما تغدو غير ممكنة. حينما يشعر الناس بأن ما يعتبرونه وطنهم لا يعتبرهم مواطنيه أو يعتبرهم مواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة، حينما لا يراعي أبسط حقوقهم بل يستنكف أن يكون عليهم ما علي غيرهم من الواجبات ويرى أنهم دون التكليف بذلك، فإنهم يسعون لإنشاء وطنٍ خاصٍ بهم أو العيش في وطنٍ آخر يبرهم ويبرونه ويرعى حقوقهم كما يمكِّنهم من مراعاة واجباتهم تجاهه. تطرَّق الرئيس الأمريكي في خطابه إلى ما تفرضه وتقتضيه المواطنة من السلطة الحاكمة تجاه المواطنين والذين من أولى وأوجب حقوقهم أن يكونوا هم من اختاروا تلك السلطة وحددوا كيف تدير وتدبر أمورهم. بطبيعة الحال لم يكن من بين ذلك أن تسلبهم أبسط حقوقهم، أن تصادر حرياتهم، أن تزجَّ بهم في السجون لمجرد اختلاقهم معها في الرأي، أن تفصلهم من وظائفهم العامة وتحول بينهم وبين مصادر رزقهم ومعاش أسرهم لتجود بها دون استحقاق أو وجه حق على الأتباع والمتسلقين، أن تقصر فرص التنافس على الأعمال والأشغال على سدنتها،أن لا تستشيرهم في أمورهم، أن تشردهم من مدنهم وقراهم وتقتلهم وتفشل في إدارة حوارٍ بنَّاءٍ وجادٍ معهم لحل مشاكلهم. إن السلطة بارتكابها ذلك لا تلحق ضرراً بالغاً بقطاعات كبيرة من المواطنين بل تسمم أيضاً علاقاتهم بالوطن وببعضهم البعض وتدق بينهم عطر منشم. يمهد ما تقدم ذكره لبسط ما ألمح إليه "أوباما" من أن البلد يعمل، سواء كان ذلك العمل صون استقلاله وأمنه والحفاظ على وحدة شعبه وترابه وتحقيق رفاه كل بنيه وبناته، عندما تعي وتحترم السلطة التزاماتها تجاه الوطن والمواطنين وحينما يدرك المواطنون التزاماتهم الوطن وتجاه بعضهم البعض ويعون أن حقوقهم مكفولة بحماية حقوق الآخرين ولا يرضون لغيرهم ما لا يرضونه لأنفسهم. يقول الله تعالي "إنما السبيل علي الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم" ويقول في الحديث القدسي "يا عبادي إني حرمت الظلم علي نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا". ذكَّر "أوباما" في خطابه بالمسؤولية تجاه المواطنين الذين ينتمون للأجيال القادمة وذلك يشمل الناشئة واليافعين والذين لم يولدوا بعد. تتعدد أوجه المسؤولية تجاه تلك الأجيال ويأتي في مقدمتها الاهتمام بصحتهم وتعليمهم وتنشئتهم محبين لوطنهم مبجلين لمواطنيهم وراعين لحقوقهم فليس لأي أمة رصيد أغلى من بنيها وبناتها أو استثمار أقيم من الاستثمار في مجالهم. تشمل تلك المسئولية إعدادهم لقيادة الأمة وتسليمها لهم حين يحين الوقت وليس الاستئثار بها حتى الموت بل بعده من خلال الأبناء والحفدة. تشمل أيضاً أن نعدهم لأن يكونوا سياسياً واجتماعياً وفي كل شؤونهم العامة قبل الخاصة أفضل منا قادرين على تفادي ما اقترفنا من أخطاء وهفوات وزلات وارتكبنا من معاصي في حق الوطن وغيرنا من المواطنين. ومن جهة أخرى، تشمل ضمن الكثير أن نخلف لهم وطناً أكثر معافاة وقوة اقتصادياً وأن نولي في هذا المجال جلَّ الاهتمام لقضايا البيئة وأن نصون ونعزز مصادر ثروات الوطن ومقوماته الطبيعية ولا نبددها أو نستنزفها في جشعٍ وأنانية. بهذا وذاك نكتب، فرداً فرداً وجيلاً بعد جيل، فصول أمة كانت عظيمة وتستحق أن تكون أعظم وتملك كل مقومات ذلك. ولم أرى في عيوب الناس عيبًا *** كنقص القادرين على التمام [email protected]