* يتملكنا فزع خفيف لما آلت إليه الأغنية السودانية، مقروناً ذلك بخلفية رحبة عن الأمس الذي زحفت عليه غبراء الراهن ف(شهق) قتيلاً..! وفي هوجاء شغلنا بأمور لا علاقة لها بالإبداع، تطرأ علينا كثيراً لحظات شجن كلما أمسك أرواحنا غصن طري من شجرة الألحان الخالدة.. ونحن نعبر مع غربة ثوانينا كم أزاهر تفتحت أكمامها مع أمل باتساع الأفق مبْعَثُهُ أغنية.. أو قصيدة.. خاطرة.. قصة.. رواية.. أو مسامرة من ظريف في المدينة فتح الله عليه بمشهيات الحلاوة في اللسان..! * من بين كل دهم حياتنا الآنية، يحاول الجمال أن يتسلل في صورته المثلى نحو غرفة سرية باهرة في القلب، فالعين للعارف لا تَرَى.. أقول ذلك بحق من فطر الحسن في عيون العذارى قديماً وحديثاً..! وكذلك الأذن لا تسمع ولو تعالى همس شعراء هطّالين لم يكن آخرهم صاحب الأطلال إبراهيم ناجي، في قصيدته "الخريف": كم نداءٍ خافتٍ مبتعدٍ؛ تشتهي أُذن الهوى أن تستعيدَهْ عاد منساباً إلى أعماقها هامساً فيها بأصداءٍ جديدَهْ وهكذا نظل أسرى الأصداء وروائح الأزمنة في تعلقنا بالنصوص التي لا ترأف بحمامة الوجدان.. وكادت أن تهلكنا لتحيينا..! ومن سيرة النصوص ذات الطلاقة تحتار ذائقة الاختيار من أين تبدأ؟ فمنذ الجاهلية وإلى يومنا هذا مرّت أسراب كثر من الحسان، كانت دائماً تمثل ثورة وجد للشعراء، إلى أن أدركتنا بداية الستينيات ومشهد ذلك العاشق الذي أجلسه الشلل لعقدين من الزمن.. هو حسن عوض أبو العلا، صاحب المقام في القصيدة الغنائية السودانية، ففي ذلك الزمن من العام 1960 كان وحي الشعر يتنزّل عليه وهو يرى حسناوات تلك المدرسة بزيِّهن المميز.. كان في كرسيه أمام بابه السعيد يتفجر ببصيرته في الوصف وطاقة عشقه الميمون تتجاوز لعنة المرض، لتنعم الأمكنة بخلود اللحن الذي نفح فيه الفنان سيد خليفة وهجاً زاده للركبان عبيراً في حدائق العشق: أي سرب يتهادى.. بين أفياء الظلال يتثني في جمال.. ويغنّي في دلال مثل عنقود تدلى.. بشغاف القلب مال كطيور حالمات.. سابحات في العبير وصلاة ودعاء.. وابتسام في سرور فتنة تمشي الهوينا.. بين منثور الزهور يا ملاك الحسن مهلاً.. أنت في زهو الشباب وأنا قد صرت كهلاً.. من جوى الوجد المذاب لو هوانا كان عدلاً.. ما جفا ثغري الشراب إن في عينيك سحراً.. ملأ عينيّ سراب دمعة حرى هتون.. وكؤوس من عذاب هذا ما نلتُ، فهاتو ما تبقى يا صحاب اتركوها في ذراها.. ودعوني للجوى شغل القلب هواها.. وهي لا تدري الهوى كم تمنيت لقاها.. وتمناني النوى * شغله السرب كاملاً.. ثم هيّجه ملاك حسنه منفرداً.. والصبابة لا عمر لها.. لا يفتَّها سقم أو كهولة.. إن حال أبو العلا كحال الحاردلو أبو سن 1830 1916م نراهُ فوق السبعين يقظاً للفاتنات ويأبى فؤاده أن يتصحر باليأس.. ها هو يحب ويا للعجب: بعد سبعين سنة وبَيَّضْ سَبيب عينىْ ما بَحْسِبْ بَسَاهِر من طوَارْقْ الغىْ شوق زينب تَرَى خلاّنى مِنٍّى ولَىْ أشكي على الغصون لَىْ مَنْ يَعَرْفْ البَىْ * أسراب الحسان هي ذاتها أسراب الظبا التي تغزّل فيها الحاردلو حتى سحقه الهيام: لونِن من بعيد مِتْل البليبلي نْضاف حُرْدْ ومَعَصَّرات من شَبَّةْ الأكتاف للناس البِغَنّولِن يجرّو القاف ماليات الخَشُم من كامل الأوصاف * وأسراب الحسان ليست قصيدة واحدة، إنما أرخبيل ممتد عبر تواريخ خصيبة تخص العشاق المبدعين جميعاً؛ ومن تبعهم بإحسان أيضاً..! الأهرام اليوم [email protected]