* للكاتب السناري العتيق مبارك الصادق قصص مشبعة بخريف المعاناة وحليبها..! هذا الأديب أطال الله عمره برع أيضاً في كتابة "الاستراحات الصحفية" التي طالما تلهفنا لإعادة قراءتها؛ وتحضرني واحدة للكاتب بعنوان: (عشوائي فاخر للتومة بت كلتوم)، يسرد فيها عذابات فئة من الشعب السوداني داخل السكن العشوائي.. فبعد أن هيأ الله بيتاً من الطين لأحد عباده الفقراء، تبقت له الأبواب والشبابيك، فهداه التفكير المضني للاستفادة من الموتى..! بدأ المواطن يسرق شواهد القبور لعمل اللازم حتى اكتملت (التقفيلة).. وذات يوم زاره صديقه مباركاً الدارالجديدة المتواضعة، فهاله المشهد على الأبواب والشبابيك: (هذا قبر المرحومة خديجة بت دراج هذا قبر التومة بت كلتوم هذا قبر المرحوم فلان الفلاني) وهكذا.. بعد أن أكمل الضيف قراءة الشواهد التي تتكون منها النوافذ والأبواب، التفت لصاحبه معاتباً باندهاش: هل بلغت بك الجرأة أن تعتدي على حرمة الموتى؟ فردّ صاحبه ببرود: (ياخي الحي أفضل من الميت)..! * انتهت الحكاية باختصار؛ أما المناسبة فهي حديث قصير دار أمس بيني وبين سعادة اللواء عابدين الطاهر مدير جهاز حماية الأراضي الحكومية وإزالة المخالفات بولاية الخرطوم، وهو جهاز ابتكر حديثاً لتجفيف السكن العشوائي القديم ومنع المغامرين الجدد من الاقتداء بأسلافهم..! وابتداء لابد من ملاحظة حول طول (اسم الجهاز) ومشابهته لعناوين وكالة (سونا) المملة.. فماذا لو اختصرناه قليلاً ليكون: جهاز حماية الأراضي الحكومية.. ذلك لأن إزالة المخالفات ذاتها تندرج في (الحماية)..! * سعادة المدير تحدث بواقعية لا تعرف "اللّف" عن حجم المشكلة الخاصة بنمو العشوائيات وصعوبة محاربتها في ظل النزوح المستمر لمدن العاصمة الثلاث.. فتحت ضغط الأسباب الطاردة في الأرياف الفقيرة ومناطق النزاعات لابد للخرطوم من (الحمل) مهما استنكرت كآبة المشهد.. ومسؤولية الحكومة أن تعدل في استقرار المناطق حتى لا تشكو أجهزتها من (الضغط)..! الجديد في الأمر أن المدير تحدث عن أرق آخر بالنسبة للجهاز؛ ممثلاً في العشوائيات داخل (السكن الفاخر) فأحياء مثل كافوري، المعمورة والمهندسين على سبيل المثال، تزخر بخليط عشوائي عبارة عن أسر كاملة أجبرتها الحاجة لتعيش مطيعة تحت رحمة صاحب العقار، وفي الغالب يظل هؤلاء المطحونون مصدر خدمته وليس (شفقته).. فلو كان الغني شفوقاً رقّ قلبه لأطفال غايتهم أن يكون الطوب بديلاً للكرتون والخيش..! فكيف حال المرقد وقد عز الاسفنج على الجسد المحروم؟! إن العدد هائل في ممالك بني عشواء حفظتهم عناية الله؛ ففي سوبا وحدها حوالي 25 ألف شخص وفي أمبدة 40 ألف وفي جبل أولياء ضعف هذا العدد.. وقد بدا سعادته مطمئناً على ذكر لجنة مشتركة (سكنية زراعية) كونتها الولاية لتخصيص 50% من الأراضي حول بعض القرى للحكومة ولتكن البقية للمواطنين.. وفي رأي الأخ عابدين الطاهر أن الحكومة من حيث تدري أو لا تدري قنّنت (الشغل الغير قانوني) هكذا قالها.. ولكن القانون الآن رادع في مواجهة المعتدين على الأراضي الحكومية (كررها مرتين).. أما قولنا كمواطنين فهو أن تردع الحكومة نفسها إذا اكتشفت تعديها على أرض (زول عادي) هذا هو العدل؛ فأحياناً الحاجة للمال تصحبها غشاوة.. وربما إذا أحسنت السلطة الإدارة ظهرت العاصمة خالية من العشوائيات بحلول عام 2004م.. أو كما وعدت الولاية.. وفي الحلم أيضاً أن تكون خالية من الجوع الصامت والمرض الضاج وتخلّف الصحة والبيئة والأسفلت والمجاري... فليس من اللائق هذه الحرية الفضفاضة للأكياس والفوارغ..! أعوذ بالله عثمان شبونة [email protected] الأهرام اليوم