لقد أستدار الزمان .. و استفاضت الأرض بفكرة الحدود و الأسوار السميكة و رسمت دروب علي الخرائط و قيل للأوطان كوني ، ثم كانت .. أمتدت الفكرة و أتسعت حتي أنشقت عن أطماع هائلة في التمدد في أوطان الغير لتكبير مساحة الوطن الأصلاني الأفتراضي ..مساحات شاسعة يسكنها أنُاس قليلون ..معظم غفارها خالية و لكن هولاء القليلون مستعدون دوما لترديد الأناشيد بأصوات تهدر ..مستعدون لخوض غمار حروب تأكل الأخضر و اليابس ..ليدفنوا في ذات الأتساع الأرضي و تبني حولهم الأضرحة الشامخة و يمنحون ألقاب الشهداء .. أنُاس ماتوا من التخمة و أنتحروا من الوفرة في كل شيء ..آخرون ماتوا من الندرة و الحرمان ..ماتوا فداءَ لأفكار عدمية لم تبقي شيئا علي ظهر الأرض .. تنتأبني هذه القراءة المختزلة لخطوات الأنسان علي الأرض .. تلك الخطوات المظللة بألوان داكنة لتنكبها الدروب و التجاريب . .. في المنطقة العربية أرعدت مشاريع فكرية و أيدولوجية لمدة أكثر من نصف قرن ..سادت أنظمة الحكم بدعوي محاربة الرجعية و العشائرية و الملكية .. وعدت الناس بجنة الأرض ..سحلت ..قتلت ..غيرت ..كممت الأفواه و أودت الي عجز مهول في الخيال و الفكرة ثم في اُخريات أيامها نكّست الي ماهو أسواء من الرجعية لأنها ببساطة أستلفت كل أدوات الرجعية التي قام كل مشروعها الفكري علي محاربتها ..هنالك كانت عشائرية ملكية واضحة لا تنكر أحقيتها في الأرض و التاريخ و هنا أضحت ملكية جمهورية أيدولوجية تسرق الأرض و التاريخ و الحاضر .. لذلك لم تكن صدفة أبدا أن تأتي النهايات ميلودرامية ..لم تكن صدفة أن تؤكل هذه المنطقة علي خلفية التناقض الذي ساد سنينا عددا ما بين الخطاب و الواقع و ما بين الشعارات و السلوك العنجهي الذي دمّر أهم بنية في صيرورة الكون الا و هي الأنسان ، ليتحول الأنسان الي شبح تائه الخطي ، نفسه تحدثه بالأرث العظيم و الأمجاد السماوية المنتظرة و لكن حاضره يسكنه الخواء و يتوعده دوما جحيم أرضي .. المرء في نهاية المطاف يتسائل كيف أستحالت عنده الرؤية الي هذا الحد ؟.. بل كيف أستعصي الحل و الأمل في أجيال و قطاعات واسعة ؟؟.. كيف أعتزل الناس نعمة الفكرة المتأملة ؟؟ .. هنا ساد ترسيخ بأن الأنسان يأتي في آخر السُلم لذلك فالذي يأكل طعامه في يومه و ينام متوسدا فراش زوجته يظل يتمتم بالحمد و يخيل له أنه أكمل أيمانه و بل ينتظر يوما يحصد فيه زرعه من جنان لا حد لها و حور و غلمان و لبن و عسل يشرب منه و يغتسل فيه .. هذي الفكرة المتقزمة للعهد مع الله ، هي فكرة ساذجة ..فكرة يجب أن ترّج رجاً و تفتح نوافذ التفكير فيها للتهوية و غسيل غرف المخ التي أشتغل علي مليئها باليابس رجال دين لبسوا القفاطين و تحزموا الكروش المتهدلة و أخذوا رواتبهم من القائد الأب و الملهم و المفدي و الأله الصغير .. تزاوج الدين مع السلطة و رضي رجال الدين أن يخدموا بخطابهم مشاريع الآلهة الصغيرة ..و هذا الأخير ساهم مساهمة كبيرة في تحطيم اي بنُي للعقل و أستخدامته ..فكرة تثوير الدين هو من أجلي رسالات الأديان للبشر ..ثورة في مناحي التفكير و الحوار و النقد للممارسة في ظل فهمها للنص الذي هو بالضرورة فهما يراعي ديمومة الحياة و مستجداتها ، لا تحنيطها في وظائف تخدم في النهاية السلطة الزمنية و تعطل ملكات الأنسان الروحية و العقلية و تحيل الأنسان للآلة مدمرة للحياة بدعوي رضا الأله ..لو نظرنا الي تجربة شعوب أمريكا و رجال الدين فيها ..تجد تجربة جديرة بالتأمل ..تجربة يجب التبحر فيها و التعلم منها ..هذا التطوير للفهم الديني و توصيله للناس بطريقة تشحذ هممهم و تفتح فيهم أبواب الأمل علي أشرعتها ، و يفجر فيهم الطاقات الكامنة ..هذه هي فلسفة الدين و جوهر رسالته "الأنسان " ، فعندما تغدو الأديان و الأفكار و الفلسفات مقيدة لطاقات الأنسان و محجرة لغرف العقل فيه يصبح لازما عليه أن يدخل في جب التاريخ ..يصير الحاضر و المستقبل معتم الزاويا و يدخل الأنسان زنزانته و يغلق علي نفسه و يلقي بالمفتاح في فم حوت مغادر الي أعماق سحيقة .. و هنا تنبعث كل كوامن القبح فيه ، يغدو كائن بشع ، يدمر حياته و حيوات الآخرين .. و يغدو العصر كله زنزانة كبيرة ، مظلمة ، قاحلة ، سجينها هو هذا الكائن الذي كان يسمي فيما قبل بالأنسان و المرجو منه عمارة الكون و بعث روح الحياة فيه في كل آن و صوب .. يجب دوما مراجعة هذا الخطي علي المستوي الفردي و الجمعي ..لابد من وقفات متأملة تنقذ ما تبقي من ركام ، و هذا لعمري، هو هّم و شغل المثقفين و المفكرين و كل من تسكنهم شهوة الأصلاح في هذه الأرض . [email protected]