جاء (المحل). تيبست أفنان الأشجار، وشحبت أوراقها ثم تساقطت متكسرة.. فانحسرت الظلال الوريفة !!؟... أمحلت الأرض.. وطفت ملوحتها ملونة التربة بالإبيضاض، زحفت الرمال، فابتلعت العشب.. جاء (المحل). خلت المراعي من السوائم، لم تعد ثمة دابة ترتع في مرعى، لقد نفقت جميعاً، فنزح الرعيان. إختفى الإخضرار.. وطغت (الحمرة) حارقة الزروع والثمار، فهجر الزراع مزارعهم، لائذين بأزقة المدن وأرصفتها. جاء (المحل) !!؟... كيف جاء؟ جاء مسبوقاً بأعاصير ترابية، غطت وجه المدينة بلون الغبرة. القحط والغبرة، وسما كل الكائنات حتى صارا علامة فارقة لأهل مدينتنا. ستضل بك المسالك، وتقع بين براثن المتاهات، إذا حاولوا البحث عن غير (الموسومين).. لن تجد أحداً.. داخل هذه المدينة، لا يحمل هذا الوسم.. إلا قاطني البنايات الشاهقة.. والقصور (العشوائية).. الرعب والخذلان.. كانا يتسللان برفقة الفاقة والإملاق، إلى الأنفس الرخوة، والعزائم الهشة !!؟... منذ بوادر المحل الأولى، ظل (حكيم) يسعى سعياً دؤوباً ألا.. يستحيل الوسم وشماً ، يتجذر في الوجدان ويترسخ في الأذهان قبل أن ينطبع على البشرة. الحزام الأخضر، الذي كان يحف بخاصرة المدينة.. درء للمخاطر.. ويقف متصدياً في وجه الريح الغازية.. ويصون بيئتها من التلوث والتدمير.. ويصون نقاءها ضد الإعتكار.. إستحال إلى بؤرة تجمع سكنية.. تستقطب الآبقين من ربقة الجوع والوباء.. وتأوي الفارين من آلة الحرب الطاحنة.. لم يلبث بفعل ممارسات اللاجئين الجدد الناشزة وضلوعهم في جعل الخضرة اصفراراً.. والسموق إنحناء.. فلم تعد ثمة مصدات للرياح.. بل ثقوب متسعة تجتذب الأعاصير الترابية وتسربها نحو الداخل !!؟... طال موسم المحل وبدا للقاطنين كأنه سيطوي كل المواسم بين إبطيه.. ويظل سائداً بلا إنتهاء.. فلم يلبثوا أن خنعوا.. وكفوا عن النظر نحو السماء.. بينما أخذ (حكيم) يحرض الآخرين ويحثهم على مداومة التحديق نحو وجه السماء.. لرصد ما يطرأ عليه من إعتكار أو تلبد.. لكنه يظل صحواً.. تتباعد عنه السحب.. وتنأي.. ولا يسمع صدى رعد.. ولا يلمح وميض برق!. * * * جمع (حكيم) مستعيناً ببعض الرجال حزماً من أعواد الحطب الجاف.. وصنع منها كوماً ضخماً يتخذ الشكل الهرمي.. ثم أضرم فيه النيران.. كان موقع الحريق يتوسط قلب المدينة.. كان حريقاً هائلاً.!!؟.... كادت ألسنته أن تلامس عنان السماء.. ودخانه تعامد متعالياً.. حتى اخترق عمق الفضاء.. ولم تمض هنيهات، حتى انفجر الركود، وقامت الدنيا.. ولم تقعد.. وازداد العود اعوجاجاً ... ففقد الناس الماء والكلأ.. وها هي النار.. آخذة في الخمود بعد أن بلغت أوج توهجها.. ولم يبق إلا ثمة جذوات مخبوءة تحت الرماد.. بين الحين والآخر.. تلتمع في تخافت.. بينما أخذت الجموع الغفيرة في الانفضاض.. وهي تلعق جراحها : - الحريق.. إلتهم كل شيء !!؟.. - أثمة خسائر في الأرواح؟ - أجل.. لكن لا أحد يدري من هم الضحايا!!؟... - كلنا ضحايا للمحل.. هذا الموسم الذي يبدو أنه لن ينقضي على المدى القريب. - المواسم.. ليس من طبيعتها صفة الثبات.. لذلك سميت مواسم. - مشعلو الحريق.. ألم يعثر لهم على أثر بعد؟!!... - كأنهم ملح ذاب. - لقد فجروا الركود.. ثم ذابوا وسطنا..!!؟.. - لقد تأسس هذا الركود طويلاً... وكان لا بد له أن ينفجر. - لكل شيء نهاية.. لكن النفوس الهشة.. سرعان ما تتفتت عند أول خطوة في بداية الطريق الشائكة. - أفقدت شباكهم؟!!... - بل أضاعوها!!؟؟.. - وما الفرق؟.. إذا كانت الشباك في كلتا الحالتين ليست بحوزتهم. - فرق خطير، في الأولى الأمر لا يعدو أن يكون عدم حرص وتساهل في التشبث بالحق العام.. أما في الثانية فالأمر جسيم، ويدخل في منطقة الكبائر..!!؟... - أين تكمن الخطيئة الكبرى ؟ .. أفي حريق المدينة ، أم في إضاعة الشباك ؟ - لا تخلط الأوراق، حريق المدينة، كان يستهدف تفجير الركود الآسن.. من أجل التكتل في وجه القحط .. أما إضاعة الشباك ، فهو كسر للمعاول ، و خنوع لطارئات الخطوب..!!؟... - أتعني أن المحل خطب طارئ؟ - ينبغي أن يكون طارئاً. وإلا..!!؟... - وإلا ماذا؟ - ستذهب ريحنا.. ونطوى بين الحقب والدهور كما طويت عاد وثمود!!؟... * * * (حكيم) في المنفى، ينسج من أشعة الشمس.. طوق نجاة.. عله يفلت من شباك مطارديه.. وهادري دمه.. ولكن عبثاً ، ثمة كمين هنا وآخر هناك.. وحبائل وبراثن وأنشوطات.. تنتظره هنالك.. ورغم كل الإخفاقات التي لحقت بمساعيه للنفاذ نحو الداخل إلا أنه ظل طوال سنين النفي.. مسكوناً بعشق شساعة السهول وتراميها على مدى البصر.. على الرغم من المحل الذي أصابها.. وجعلها كجلد السائمة الأجرب. .!!؟... لكنه كان متيقناً أن الأرض الطيبة مهما علا تربتها الجرب.. يمكن أن تستصلح.. وتستمطر السحب الشاردة إذا أدمن الناس التحديق صوب صفحة السماء!!؟... ها هي السهول تبدو جرباء ومعزولة وتمضي سنوات المحل في وحشة مميتة.. لقد هجرها الزراع حينما انقطع عطاؤها.. وصارت ًعقيماً!؟... ومع القحط توالت الكوارث.. وظهر بين الماشية مرض غامض.. ثم انتقل إلى البشر.. وقد اتخذ شكل الوباء في بعض الأصقاع النائية بينما كان الكهول في المدن الكبيرة يموتون من فرط الأسى والحسرة على سنين الحياة الزاهرة التي أفلتت من بين أصابعهم بلا عودة. كانت أسراب الطيور تحلق تحت وهج الشمس الحارقة دون غطاء من غيوم فالسماء عديمة الغيوم.. ودائمة العري.. والنساء عنوان الصبر والتجلد، هن الأخريات ضربهن المحل وقصم ظهورهن، فأسقطن أحمالهن من فرط الضعف الحاد الذي امتص كل قدراتهن على المقاومة والصمود..!!؟... ومع الحرب والجوع والموت.. يستوطن اليأس في النفوس ويوصد في الوجوه أي منفذ يفضي إلى بارقة أمل، بينما الكارثة قد خيمت بثوبها الرمادي على كل مناحي الحياة.. وجثمت على صدور الناس وكتمت على أنفاسهم.. فلم يعد ثمة من يفرفر إلا المذبوح!!؟... * * * جنح (حكيم) إلى بؤرة العنف.. مشتططاً.. فأفرز هذا الجنوح.. وذلك الشطط خلافاً كاد أن يؤدي إلى انقسام خطير في لحمة صفوفهم. لولا أنه استدرك متراجعاً ، عن الضلوع في هذا الإشتطاط.. وأخذ يبث دعوته من جديد في إدامة النظر إلى السماء.. طوال ساعات النهار وثلثي الليل.. محرضاً على التواتر وعدم الانقطاع.. حتى تستلين صلابة القحط.. وتنكسر شأفته.. ومع مرور الأيام.. أدمن الناس إطالة التحديق في السماء.!!؟.... كانت العيون المحدقة.. قد أكسبت هامات الرجال الرفعة والعلو.. فلم تعد تعرف الطأطأة والانحناء.. رغم البطش الذي لحق بها.. وحاول أن يحجب السماء عنها.. لكن عبثاً.. فصوت (حكيم).. كان صداه لا ينقطع رنينه عن آذانهم أبداً... في نبرته اليقينيه..!؟.. - موسم المطر قادم. - أحدهم ينتحي بآخر جانباً .. و قد كاد أن يساوره الشك في حتمية قدوم المطر. - نحن ننتظر السراب. - أنظر إلى زرقة السماء. - نحن لا نكف عن إطالة التحديق إليها.. و ليس ثمة ما يرهص بفعل القدوم..!؟... - ألا ترى؟.. إرفع رأسك إلى أعلى.. وانظر إلى هناك بإمعان.. ماذا ترى؟.. ألا ترى ما أرى؟ - أنا.. لا أرى سوى فضاء من الزرقة الشاسعة. - وهذه الغيمة البيضاء الآخذة في الامتلاء.. ألا تراها؟ - أجل.. أجل أراها.. إني أراها الآن كضربة فرشاة فنان حاذق ينداح لونها على فضاء اللوحة.. إنها تتسع.. وتزداد دكنة وامتلاء.. إنها تتناسل.. بل تتكاثر بالانقسام!!؟... * * * بينما كانت السحب تتزاحم متكاثفة في تلبد.. كانت هامات الرجال تتشامخ محدقة نحو السماء لتترصد متحفزة وميض البرق الخاطف.. الآخذ في الإلتماع بين الفينة والأخرى.. لكنه لا يلبث أن يتواتر ويستحيل إلى بؤرة من الوهج.. مشفوعاً بدوي راعد.. يكاد يصم الآذان.. إلا أن الأبصار لا ترمش.. بل تزداد تحديقاً وولهاً بوهج البرق.. الوامض.. والآذان. تشرئب إلى أعلى طامحة في انفجار المزيد من الرعد الداوي. وعند انفجار لحظة الصفر.. كانت الأرض تبدو مجلوة كإمرأة تتهيأ لعودة بعلها الغائب خلف التخوم !!؟؟... فيصل مصطفى [email protected]