أطبق الليل جفنيه على أنفاس حركة الحياة.. في تلك المدينة التي كانت قبيل سويعات تموج بالصخب.. وتضج بقرقعة المراكب ولغط مجالس الإنس.. وإسقاطات حارقي البخور وصدى مكبرات الصوت المحمول على متن الأثير.. مضخماً لذبذبات أصوات حفلات الأعراس ومآتم الراحلين.. ومواسم الخطاب السياسي الصارخة؟‼ .. ثمة علامة فارقة تفسر نقائض الأحوال.. إلا أن الأستاذ (طاهر عابدين).. كان لا يأبه كثيراً بظواهر الأفعال.. ولا تستوقفه الأحداث المألوفة.. بل كان يسعى سعياً دءوباً لسبر الأغوار وكشف المستور.. دون أن يخدش شرعية الأعراف..!!؟... .. أكان حصيفاً؟.. هو لا يملك حصانة هذا الإدعاء.. فقط الآخرون يشيرون إليه بالبنان.. لكنه لا يعير الأمر التفاتاً.. إنما يقول كلمته ثم يمضي.. قد تحدث كلمته ضجيجاً.. ربما دوياً هائلاً.. إلا أنه كعادته لا يكترث؟‼ .. عيناه دوماً تمارسان رياضة التحديق.. أبداً لا تكفان عن التحديق.. يحدق في الأشياء.. والكائنات حوله.. حتى يكاد أن يثقب الأولى.. ويخترق الثانية؟‼ .. من يراه هكذا.. يقيناً سيقطع بأن ثمة خفايا مختزنة خلف هاتين العينين.. ربما ظن آخر عبثية البحث عما وراء هذه التخوم.. كأن هنالك منطقة محرمة تناصف المسافة بينه وبين الآخرين.. مباحة له.. ومحجورة عليهم.. ولعل ثالث يساوره الشك في كنه هذا الرجل.. أهو كما يبدو.. أم أن المخبر يباين المظهر؟؟ .. من جانبه كان حائراً.. إنه يحبهم.. ولكنهم يتجنبونه.. يقترب منهم فيتباعدون عنه‼ ما أغربهم‼.. أو على الأصح ما أغربه‼. أهو الغريب.. أم هم؟؟ .. الغربة صفة المفرد.. فكيف يكونون هم الغرباء؟؟! .. ها هو.. مرة أخرى.. يحاول الاقتراب منهم.. لكن بطريقته الخاصة التي يفسرها تميزه بالفرادة.. (أهو طراز فريد من البشر.. كما أدعت إحداهن.. ذات مساء.. إبان زهارة الحياة؟‼) .. صفة الأستاذية التي تقترن باسمه.. لم توهب له.. إنما انتزعها انتزاعاً ..فأصبحت لقباً يشير إلى رسمه.. دون أن يلفظ اسمه فحينما يقال الأستاذ فهو المعني بين أوساطهم.. هيئته ومشيته يدلان دلالة قاطعة على ذلك.. النحالة والفراعة والشعر المجعد الذي يبدو دائماً كحقل من الأشواك الابرية.. كأن آلة التمشيط.. لا تعرف طريقها إليه.!!؟... والعيونات الزرقاء بسماكة عدستيها.. تكاد تحجب تماماً بياض عينيه.. فلا أحد يستطيع أن يقرأ معالم وجهه.. فهو كالكتاب المغلق.. حتى العنوان يظل عصي الإدراك.. ومحفوفاً بالإيهام. !!؟... .. منذ أن أقتحم الأستاذ (طاهر عابدين) تخوم هذا الحي وأقام بين أهليه.. لم يُرى إلا وقد تأبط حافظة أوراق سوداء فهو والحافظة لصيقان.. كالاخضرار والزروع لا يفترقان إلا لماماً‼.. ما يشغل (الأستاذ) ويدور في خلده بعيداً كل البعد عما يعتقده الآخرون.. فظل بينهم كعضو بديل ترفضه خلاياهم وفي ذات الوقت لا يمكن الاستغناء عنه للعطب الذي أصاب العضو الأصيل..!!؟.. .. في تلك الليلة.. ضاقت به جدران الغرفة التي يقطنها وحيداً لا يؤانسه إلا صرير الجنادب.. فخرج لا يلوي على شيء.. يدب بين الأزقة والمنعطفات.. مأخوذاً بالسكون المطبق على أرجاء المكان.. وعلى مجرى عادته كان يتأبط حافظة الأوراق السوداء.. قادته قدماه.. دون أن يدري إلى خارج تخوم الحي.. لعل هاجسه في إصلاح حال الناس وإعادة ترتيب علائقهم.. هو الذي دفعه للخروج في تلك الليلة.. بدا له الموقف مركباً وبالغ التعقيد ورئتاه تمتلآن بالهواء النقي.. فالرؤية هنا.. في هذا الفضاء الرحيب.. تبدو أكثر وضوحاً (لست واهماً إلى هذا الحد.. إن صدى همسه يخترق هدأة السكون المطبق.. بينما وقع كعب حذائه الجلدي على شارع الإسفلت يزحم الأثير الشفيف بطرقات خطوه المنتظم.. بينما ذهنه ينسج من غزل هذا الصمت أفكاراً.. تتجانس.. ولكن عبثاً.. فخيوط النسيج سرعان ما يصيبها الإهتراء.. فتتقطع متباعدة قل أن تتخلق.. (كيف أحتفظ بتفردي ونبرة صوتي.. ومساري القديم.. وفي ذات الوقت أنصهر في بوتقة الآخرين؟‼). .. توقفت قدماه.. وكف ذهنه عن الإعمال.. حينما تناهى إلى سمعه صوت هدير موتور سيارة قادمة.. استدار إلى الخلف في مواجهة الهدير الآخذ في الاقتراب مع التزايد في حجم تضخمه.. .. وفي لحظة ما لم يكن ثمة مناص من الانسحاب متراجعاً إلى الجهة اليمنى من الشارع.. فاسحاً السبيل لقوة الكتلة الحديدية المندفعة.. وفي الحسبان إنها لن تسمح لأي كائن أن يعوق تهورها.. ولكن لدهشته.. بل ذهوله.. سماعه على حين غرة.. صرير إحتكاك إطارات السيارة بسطح الإسفلت الأملس.. نتيجة لثقل قدم ضاغطة على الكابح ...وقبل أن يفيق من ذهوله.. كانت السيارة تتراجع إلى الوراء.. ويترجل منها رجلان.. ويبقى الثالث.. داخل السيارة وهو يتراجع إلى الوراء.. وقبل أن يستعيد وعيه.. وينتبه لاستيعاب ما يدور حوله.. كان الرجلان قد طوقاه.. وعطلا قدرته على المقاومة بضربه على أم رأسه بهراوة.. ثم حملاه وغيباه داخل السيارة مع الشخص الآخر.. ولم يلبث الموتور أن عاود الهدير مجدداً.. وفي لمح البصر كان صداه يتباعد نحو الاتجاه الذي أتى منه.. ليختفي منقطعاً تماماً خلال بضع دقائق.. كأنه ضوء وليس صوتاً؟‼... * * * .. منذ إستكمل الوعي.. ومن ثم اكتسب الرؤية الشاملة لمجريات الأحداث ومستجداتها.. كان (مالك الحسين).. يجد نفسه وسط الجماعة.. ويتضخم لديه الإحساس بإثبات الذات.. بينما يتشرذم متقزماً ويجترحه شعور صارخ بالعزلة إذا إنفصل عنها.. لذلك نادراً ما يرى منفرداً أو تبصر أحداً من قاطني الحي بجانب ناصية الشارع.. ولا تبصر بينهم (مالك الحسين).. فهو العلة والمعلول. والدافع والفعل على السواء !!؟... .. مواقع الصدارة.. كانت من نصيبه.. من يتصدى لها غيره؟؟.. مناسبات الأفراح والأتراح.. يشرف على كل صغيرة وكبيرة فيها.. منذ البدء حتى المنتهي.. وإذا نزلت بأهل الحي نازلة من نوازل الزمان.. أو ألمت بهم طارئة من طارئات الدهر.. فهو الذي يدعو الناس ويجمعهم ويجعلهم يتحاورون ويقلبون الأمر وجهاً على ظهر حتى يخرجون بقرار جماعي يجابهون به ما نزل بهم أو طرأ عليهم.!!؟... .. وحينما يكون الشأن يتعلق بإنشاء حانوت تعاوني يقدم السلع الاستهلاكية بأسعار التكلفة مضافاً إليها أرباح رمزية تخصص كنفقات لإدارة الحانوت أو بالإسهام في ترميم وصيانة مدرسة الحي.. أو تجهيز وافتتاح ناد اجتماعي، رياضي، ثقافي.. يحفظ الشباب من الانزلاق في مهاوي الانحراف.. ويستثمر طاقات الشيوخ في الرعاية وإسداء النصح.. فإن (مالك الحسين).. هو القاسم المشترك الأعظم في متابعة هذه المشاريع وهي مجرد أفكار.. حتى تتجسد.. وتصبح واقعاً مشهوداً.. يعود بالنفع على كل ساكني الحي.. وربما لحق خيره الأحياء المجاورة.. ظل مالك الحسين يواصل عمله العام داخل حدود معلومة.. لم يفكر يوماً في اجتيازها أو تراوده مجرد رغبة في أن يفرد ذراعيه أكثر مما هو متاح لهما.. حتى جاءت تلك الليلة.. ثم انقضت وقد افتقد أهل الحي ابنهم البار فلم يعثروا له على أثر‼؟... * * * ... أدخلا سوياً إلى هذا القبو المعتم .. وكلاهما.. لم يسبق له معرفة الآخر.. وخرجا إلى الفضاء الرحيب.. وقد توثقت أواصر الرفقة الحميمة بينهما.. رغم تباين مشاربهما.. حتى لحظة خروجهما.. كانا لا يدريان على وجه الدقة سبباً واضحاً أو مبرراً مقنعاً في الولوج إلى غياهب هذا القبو.. وفي ذات الوقت لم يتقينا تماماً من هوية الشهادة التي أفضت بهما إلى إسقاط الشبهة عنهما.. ومن هو مصدرها؟.. الأستاذ (طاهر عابدين).. لا زال داخله مغلولاً رغم تحرر يديه من القيد. - لا توهم نفسك.. نحن لا زلنا مشبوهين.. - خروجنا.. دليل براءة قاطع.. لا يقبل الشك.!!؟... - أنت حسن النية.. سترى بنفسك في عيون الناس الذين دخلت من أجلهم القبو.. سؤالاً جارحاً (لماذا أخذ عنوة وصودرت حريته.. إذا لم يرتكب خطيئة كبرى).!!؟... وربما يقول آخر (إنها خيانة عظمى.. لقد كان يتخذنا ذريعة لتنفيذ مؤامرته‼). - يبدو.. أن عتمة القبو قد أورثتك سوء الظن.. ألا تعلم طبيعة العلاقة التي تربطني بهؤلاء الناس.. إنني ابنهم البار.. - الآن.. اذهب واسمع ماذا يقولون عن ابنهم البار.. حتماً سيخرق طبلة أذنك همسهم الصاخب.!!؟... .. ثم بعد فترة صمت قصيرة. - أنسيت الاستجواب؟.. ماذا قالوا عنك؟.. ألم يقولوا أنك عميل لجهة خارجية تسعى إلى إثارة القلاقل وعدم الاستقرار السياسي.!!؟... (مالك الحسين) مقاطعاً:- - هذا قولهم.. لكن ما أدراك بما سيقوله أهل الحي؟ - أحياناً تبدو ساذجاً‼.. لن يعجزهم استقطاب أحد أبناء الحي ليبث بينهم سر عمالتك وإلصاق كل صفة ذميمة بشخصكم الكريم.. وعامة الناس كما تعلم عليها بالظاهر للعيان.. لماذا نذهب بعيداً.. أنا مثلاً.. ألم يقولوا عني أنني أقود تنظيماً سرياً تحت الأرض.. لنذهب الآن سوياً إلى هناك وسترى بأم عينيك كيف يتعامل معي أهل الحي الذي كنت أقطنه.. يقيناً سأكون بينهم منبوذاً.. بل جسماً غريباً.. حاملاً لجرثومة وباء سريع العدوى؟‼ - كل ما تقوله.. مجرد افتراض.. أو بالأحرى مجرد توهم؟‼ - لكن حتماً سيحدث لنا إذا ذهبنا إلى هناك.. لأنه قد حدث لآخرين قد سبقونا‼ - رغم اقتناعي بتوقعاتك إلا أن المواجهة أفضل من الهرب؟‼... فيصل مصطفى [email protected]