شاهد بالصور.. الرابر "سولجا" يقتحم مران المنتخب الوطني بالمغرب    المذيعة والصحفية ملاذ ناجي تتلقى التهانئ والتبريكات من نجوم السوشيال ميديا بمناسبة عقد قرانها    شاهد بالصور.. الرابر "سولجا" يقتحم مران المنتخب الوطني بالمغرب    المذيعة والصحفية ملاذ ناجي تتلقى التهانئ والتبريكات من نجوم السوشيال ميديا بمناسبة عقد قرانها    بالصور.. المريخ يعلن رسمياً التعاقد مع نجمي التسجيلات    رفيدة ياسين تكتب: دروس عام اختصر عمراً    السودان يهزم غينيا الاستوائية وينعش حظوظه في التأهل    وزير الثقافة والإعلام بنهر النيل يلتقي وفد منتدى وطنية الثقافي، ويؤكد رعاية الوزارة لمبادرة "علم السودان في كل مكان تزامناً مع ذكرى الاستقلال    شاهد بالفيديو.. تحسن أم استقرار أم تدهور؟ خبيرة التاروت المصرية بسنت يوسف تكشف عن مستقبل السودان في العام 2026    شاهد بالصورة.. نجمة السوشيال ميديا الحسناء أمول المنير تترحم على زوجها الحرس الشخصي لقائد الدعم السريع بتدوينة مؤثرة: (في مثل هذا اليوم التقيت بحب حياتي وزوجي وفقيد قلبي)    عثمان ميرغني يكتب: مفاجأة.. أرض الصومال..    الجامعة العربية: اعتراف إسرائيل ب"إقليم أرض الصومال" غير قانوني    الجزيرة .. ضبط 2460 رأس بنقو بقيمة 120 مليون جنيهاً    بنك السودان يدشن نظام الصادر والوارد الإلكتروني عبر منصة بلدنا في خطوة نحو التحول الرقمي    زيادة جديدة في الدولار الجمركي بالسودان    معتصم جعفر يعقد جلسة مع المدرب وقادة المنتخب ويشدد على ضرورة تحقيق الانتصار    رونالدو بنشوة الانتصار: المشوار لا يزال طويلًا.. ولا أحد يحسم الدوري في منتصف الموسم    البرهان يطلق تصريحات جديدة مدويّة بشأن الحرب    الصادق الرزيقي يكتب: البرهان وحديث انقرة    الأهلي مروي يستعين بجبل البركل وعقد الفرقة يكتمل اليوم    عبدالصمد : الفريق جاهز ونراهن على جماهيرنا    المريخ بورتسودان يكسب النيل سنجة ويرتقي للوصافة.. والقوز أبوحمد والمريخ أم روابة "حبايب"    الوطن بين احداثيات عركي (بخاف) و(اضحكي)    السودان يعرب عن قلقه البالغ إزاء التطورات والإجراءات الاحادية التي قام بها المجلس الإنتقالي الجنوبي في محافظتي المهرة وحضرموت في اليمن    مدرب المنتخب السوداني : مباراة غينيا ستكون صعبة    لميس الحديدي في منشورها الأول بعد الطلاق من عمرو أديب    شرطة ولاية القضارف تضع حدًا للنشاط الإجرامي لعصابة نهب بالمشروعات الزراعية    استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وراء تزايد تشتت انتباه المراهقين    مشروبات تخفف الإمساك وتسهل حركة الأمعاء    منى أبو زيد يكتب: جرائم الظل في السودان والسلاح الحاسم في المعركة    «صقر» يقود رجلين إلى المحكمة    شرطة محلية بحري تنجح في فك طلاسم إختطاف طالب جامعي وتوقف (4) متهمين متورطين في البلاغ خلال 72ساعة    بالفيديو.. بعد هروب ومطاردة ليلاً.. شاهد لحظة قبض الشرطة السودانية على أكبر مروج لمخدر "الآيس" بأم درمان بعد كمين ناجح    كيف واجه القطاع المصرفي في السودان تحديات الحرب خلال 2025    إبراهيم شقلاوي يكتب: وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    تراجع أسعار الذهب عقب موجة ارتفاع قياسية    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    "سر صحي" في حبات التمر لا يظهر سريعا.. تعرف عليه    فيديو يثير الجدل في السودان    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    الكابلي ووردي.. نفس الزول!!    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    اكتشاف هجوم احتيالي يخترق حسابك على "واتسآب" دون أن تشعر    قبور مرعبة وخطيرة!    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة
نشر في الراكوبة يوم 28 - 06 - 2013


عبق مهن
(قصة طويلة )
اهداء : الى روح د. جون قرنق دي مبيور
والى الارواح التي صعدت في ذاك اليوم
والى الماسكين بحلم الوطن الجميل.
(غرق هذا الوطن مازال في خيال كاتبة تتمنى رؤية واقع افضل للجميع ) .
ضوء خافت داخل مركبة عامة ، انتهى عمرها الافتراضي ، وتاهت معالمها لانها تحمل كل معالم المركبات الارتجالية التي تنجبها المنطقة الصناعية . من الخارج اشبه بشاحنة متوسطة الحجم من الداخل بص بمقاعد مرتجلة وضيقة ، السائق معزول في كبينة القيادة مما يجعلها اقرب الى شاحنة نقل صغيرة . شخير ماكينة تنذر بعطب مفاجئ ، دخان اسود يخرج هزيلا ثم يتكثف مثل ذيل سنجاب .
السائق يظهر جزء من وجهه خلال نافذة صغيرة لا يرون منه سوى وجهه المدبوغ وشعيرات ناتئة بيضاء تتوزع متفرقة على ذقنه وجنبات وجهه اشبه باشواك الصبار ، كاملة الاستعداد للقفز نحو لحم حي .
آخر المركبات تحمل آخر الاتون ليلاً ، اجمل الاوقات يقضونها وهم في طريقهم الى البيوت ، والمركبة تزدحم بهم وروائحهم وعبق مهنهم .
ابكر يتصبب عرقاً وزيت وتفوح منه رائحة البنزين والجازولين تشعر وانت قربه بصعوبة في التنفس ، يلتصق بجسده بالطو فقد الطريق الى لونه بعد ان وقفت البقع السوداء البترولية بينه والنصاعة ، يعول اماً ثرثارة واخوة مشاغبون .
حاجة آمنة والتي لم تحج ابداً ، ثقيلة الانفاس والجسد ، تفوح منها رائحة الكسرة الرهيفة والحلومر والويكة وبقايا اطمعة لم تبعها فتشتم رائحة الفسيخ والتقلية والخدرة المفروكة وملاح الروب الابيض ، مخترقة تماما ً برائحة الشطوط الخضراء والكول وبقايا عصائد الدخن والفتريتة ، قفتها التي تعاني الانقراض ولا تستطيع الصمود امام غزو رقع جوالات السكر البلاستيكية الى جسدها النباتي ، حاجة آمنة تدعي معرفتها بكل شئ وكثيراً ما تفتكر وتعتقد وتكثر من على ما أظن في ابسط الامور عندما ينتابها نوبة التثاقف ، لان روادها الاساسين من الموظفين الحانقين والمثقفين المحبطين والطلبة الغاضبين والشماسة الذين تسميهم اولادها وذلك عندما انقذوها ذات كشة من مصادرة العسكر لاوانيها حيث حمل اي واحد منهم آنية الاطعمة والقفة العجوز واختفوا في ازقة المدينة ، عندما وصل العسكر كانت تجلس على بنبرها العتيق مثل ملكة قديمة ، وبعد ان اجهزو على ستات الشاي والباعة المتجولين وذهبوا ، حينها اتى الشماسة الواحد تلو الآخر يعيد إليها اوانيها بكامل محتوياتها فكافئتهم بوليمة حقيقية بدل الفتات التي يتركها الزبائن بعد الامتلاء ، وليمة لم يحلموا بها يوما ، أكلوا المرارة بالعتي والشطة واستلذو تماما بالتقلية بالعصيدة .
حاجة آمنة رغم ادعائها الثقافة والكلام المهذب ، لكنها سرعان ما تتم حديثها بانتصاب اصبعها الاوسط في وجه الجميع وملحقة اياه بكلمة ( طز او انلعن ابو كدا ) هذا الختام هو ما يجعلها تحس انها حقاً انتقمت من احدهم اكثر من كلمات المثقفين وجمل الطلبة التي يجعلها تحس بالضعف وابتلاع الغضب ، مميزة بشلوخها الثلاثة الطويلة والعريضة مصبغة بلون ادكن قليلاً من لون بشرتها على صفحة كل خد وشفاه بلون القطران القديم ، عندما يتجمع العرق في حوض عينيها تنساب باحدى تلك الاخاديد لتتميز بدموع صيفية دائمة لاتنضب ولا تشير الى حزن ، كانت تطلق ضحكات معدية بعيونها لتهزم المأساة في عقر وجهها .
نافوني ، تفوح منها رائحة فول سوداني مسحون (الكايموت او الدكوة ) ولحوم الصيد المجففة على نار هادئة والاسماك الجافة المملحة التي يرسل لها من الجنوب فتملأ الانوف برائحة العفونة العتيقة واللذيذة فتشهي الكجيك وملاح الكايموت واللوبا بالعصيدة الساخنة .. تربط راسها بمنديل صغير وتترك اذنيها خارجاً مثل الاجنحة ، ذات لثة داكنة تجعلها لؤلؤية الضحكات وعندما تفرح ولؤلؤية الشتائم عندما تستفز ، يدها دائمة الانشغال بنسج شراشف الطرابيز واغطية الكراسي والملاءات وتشكيلات السكسك الجميلة والملونة ، مستعدة للمشاركة في المعارض لبيع انسجتها اذا ما اتيحت لها فرضة .
تيًة .. قصير ومفتول العضلات تفوح منه رائحة السنابل المحصودة تواً ، كثير الحركة والمرح لا يكف عن الغناء لذنوبة حبيبته التاريخية ، اصبحت ربابته تشغل حيزاً في الحافلة لا يستغنى عنها ، عندما يلمس تيًه وترها الوحيد اليتيم تقشعر وتتغنى باجمل الانغام وكم ساهمت في تقريب المسافات وابتلاع المرارات عندما ينطلق تيًه على صهوة وتر ويهز رأسه المتوج بالقش والالياف والاتربة طرباً ومن ثم يغرق في ضحك بصوت عالي وعميق حتى تدمع عيناهو عندما تحاول حاجة آمنة ارتجال رقصة (كرنق) ممسوخة فتتبدو اقرب الى قفزات قرد مذعور عندما تجهز آلام المفاصل وثقل جسدها وسنين عمرها على الحركات الاساسية للرقصة ، حينها تحبط وتجلس ورقصتئذن يتحرك نحوها تية مشجعاً ويرقصا معاً ضاربين صفائح المركبة الهرمة في تناسق بديع وينسجم الجميع في تصفيق وضحك خفيف وشفيف غير مفخخ بالازمات إلا السائق الذي يوقف البص ويشتكي دوما من ازعاجهم ويوصفهم بالسكارى والحيارى وعندما يتلفت لقيادته ينتصب اصبع حاجة آمنة الاوسط خلف اذنيه كالرمح .
سميرة.. صغيرة ولعوب ، تطقطق لعة لزجة باستفزاز وتحرك شفتيها في غنج معلنة عن انوثتها الفطيرة التي اكتشفتها ساعة انتهاك احد ما على طفولتها عندما كانت تعمل خادمة نظافة في احد البيوت ، فظنت انها امرأة كاملة ، ذات صوت حاد اقرب الى الضجة ، لا تحترم احد ولا تخاف من احد الا الله كما تقول ، الكل يخشى غضبها او اثارتها لانها حينها تتحول الى عاصفة من الغضب تضرب وتشتم وتبكي الى ان يغشى عليها متشنجة . وجهها الدامي ساحة معركة عنيفة بين لونها الاسمر الداكن ومساحيق تبييض البشرة الرخيصة والفاسدة فضاعت ملامحها بحثاً عن نموذج الجمال الابيض الذي تراه على التلفاز ووجوه الفنانات الائي تتحولن الى بضات وبيضاوات بعد اغنيتين وحفلة ونصف اعلان سخيف لكريمات التفتيح .. تفوح منها رائحة التسالي وحلاة فولية وسمسية والحلويات المحلية الصنع ، نارية الالوان وشديدة الحلاوة .. وبالطبع رائحة رجل او رجلين .
دانيال بشلوخ عظيمة على جبينه يحملها كتاج منذ يوم تنصيبه رجلاً من رجال القبيلة الاشداء ، وصديقاه رحمة وسعيد .. اللذان لم يرحم شبابهم احد ، تفوح منهما رائحة الاسمنت والرطوبة الخفيف فتخالهم غيمات متعطرات بالدعاش ، شذى التقاء الماء بالارض تلك الرائحة التي تفتح شهوتك لحب الطين ، لقد انهكهما تماماً بناء المدينة وتسلق البنايات العالية وفي خواطرهم اسئلة مثل متى تصبح قراهم المدكوكة بالحروب والمحتضرة بالنزوح والامراض والمجاعات والاهمال ، الغارقة في الظلم والظلمات مثل هذه المدينة الساحرة اللامعة بالاضواء والنعيم والتي لا توجع رأسها وضميرها بالسؤال عن من هم على بعد ساعة من قلبها الاسمنتي المتحجر ؟؟ .
رامبو الصغير هو لقب اختاره لنفسه لانه معجب ببطل في فلم ما يحمل بنادق ويطلق رصاصات وينقذ الضعفاء.. هو كمساري البص الخرب ، عباء طفولته في زورق من ورق ورماه في بحر المعيشة الصعبة عندما اجبر على ان يكون ناضجاً وهو لم يبرح ازقة الطفولة بعد ، يحكي: بان الكفار في الجنوب اسرو والده سنين طويلة وفي يوم هرب منهم ولمن وصل ، كتلوهو ناس الديش قايلنو متمرد لكن بعد داك قالوا شهيد وحيدخلنا الجنة كلنا .
هكذا هو طفل يحكي مأساة بلغة الاطفال ، لا تفارق القبعة رأسه الذي تزاحم في فروته دوائر قاحلة بسبب القوباء آكلة الشعر .
رمضان مشهور بالافندي ، لانه دائما يعبر عن نفسه بلغة لا يفهون كيف يرًكبها ولكنها جميلة ومشبعة ومترعة بالامل ، مفرط في الاناقة والنظافة رغم احتضار هندامه بفعل الشموس والصابون والعرق ، مرعوب من فكرة ان يموت بالكوليرا والملاريا والعرقي الفاسد ، لا تخلو يده من ورقة او كتاب وقلم بغطاء ازرق على جيب قميصه ، في الاغلب الاحيان يتشاجر مع رامبو بسبب انه لا يملك نقود ، يضطر في النهاية على استدانة حلاوة فولية او سمسمية من سميرة لاسكاته ، دائم التحدث عن زمن لا يأتي وعن وطن لا يظلم فيه احد ، وطن يحترم فيه ابنائه بعضهم البعض ، وطن موعود بقادة رحمين وموعود بخيرات كثيرة ، تفوح منه رائحة الجرائد والحبر والصعوط .
الدرويش معروف بالفقير .. جالس هناك في ركن قصي ، يرتدي الالوان .. هائماً في فلوات ساشعة ، زاهداً في دنيا تتعذب بالاسئلة ، كان متوازناً اكثر من الجميع رغم مظاهر الجنون التي تظهر عليه ، يحمل ابريقاً ومسبحة طويلة من الخرز ، عندما يغرق الجميع في الاحباط والتبرم كان يغرق في الذكر والغياب السماوي .
ضوء خافت وحياة ضاجة بالداخل ، معركة روائح التي ليس فيها مكاسب او هزائم رائحة اناس كادحين وراوئح بقايا تجارة غير مربحة ، روائح لا تلغي بعضها البعض انما تتماهى وتتحد لتصبح رائحة واحدة ، رائحة البص . البص الذي يترنح بهم في الطرقات كأنه يهدهد الجميع ، ولكنهم يقاومون النعاس حتى لا تفوتهم الحوارات الساخنة والمحطات ، صخب وغناء جماعي وإظهار البطولة رغم هزيمة الوطن الفادح لهم .
البص الآن يحبو اعلى الجسر ، الجسر الذي يفصل بينهم والمدينة .. يفصل بين الطين والاسمنت .. بين النور والظلام .. بين الجهل والعلم .. بين الرفاهية والحرمان وبين الصحة والمرض ، حينها يشهر تًيه ربابته ذات الوتر الواحد في وجه الجميع ويعزف النشيد الوطني ويشاركه الجميع في صوت يبدأ ضعيفاً ثم يقوى ويقوى والكل يستعرض مفرداته ولكن حاجة آمنة دائماً بالمرصاد تحاول ترميم الكلمات التي لوت عنقها اللسن ذوي اللغات المحلية وعندما يفشل صوتها التصحيحي في دحر هدير الاصوات القوية ، تقذف اصبعها الاوسط في وجه الجميع ،وتضيع بذائتها سدى وسط تصفيق حار حول رأسها ذات المسائر المتشربة بزيت الكركار المعتق ، مطعم بعطر الصندل والقرنفل وقشر البرتقال وشحوم الضأن .
البص يودع المدينة ويرحل عميقاً في الظلام حيث يسكنون .
ذات يوم سمعوا بموت الزعيم المفاجئ ، قالوا ان طائرة كانت تقله اصطدمت بالجبال اثناء عاصفة رعدية ، كان البص يضمهم بحنو كأنه يواسيهم ، كان يلفهم صمت قاسي وغضب يعتمل بالدواخل وكل واحد منهم كان يستمع الى صوت الزعيم المحبوب يتردد في الفراغ وهو يحمل لهم وعوداً بيضاء بلون الروح والضوء ، وآمالاً ضخت فيهم الحياة والاستمرار في الكفاح بعد ان اصبحو انصاف نيام وانصاف اموات وكل واحد منهم يعتقد بانه وحده من اختص باعطاء الحقوق وتحقيق الاحلام كأنه يقول لكم جئت للاحرركم من كل هذا لانكم تستحقون . . هكذا شرعوا في الحلم دون كابح ، احلام واحلام هكذا ترتطم وتتحطم بجبال واقع ثلجي حزين ، ليغرق الجميع في احراج امام الوطن .
السائق غارق في القيادة يسوق احلام الجميع واحزانهم وغضبهم . كان البص قد فقد اعضاء اساسين لا يعلمون ما مصيرهم هل هم احياء ام موتى بعد احداث الخراب الذي تلا موت الزعيم ، حتى الحزن عليه كان مختلفاً ، صعدت ارواح كثيرة تسابق روحه نحو السماء ، موت غريب وجرائم غريبة ، قتل وضرب وخراب واغتصاب وانقسام بين الناس وحريق ، الشوارع مدججة بالسلاح والغاضبين .
الحافلة الآن تحبو نحو قمة الجسر في وجوم ، كان اطول يوم وابعد مسافة.. وتجارة لم يبيعوا منها شئ ، مد تيًه يده في تكاسل نحو ربابته ذات الوتر اليتيم وعزف النشيد الوطني بداء الجميع بوهن وكانت الاصوات تزداد وهناً وفتور الى ان انتهى بالنشيج والدموع طالما قاوم الجميع اخفائه وبكاء جماعي على امل خطفه الموت بقتة ، الكل غارق في مأتمه الخاص ، ينثر رماد آماله على صفحة النيل الساكن ، ويتسلل يده في الظلام بحثاً عن مواساة في كف الجالس قربه .. ثم صمت وهدير مركبة هرمة انتهى عمرها الافتراضي ويجرح هذا السكون شخشخة قلم الافندي على الورق ، كان يكتب بشراسة وكأنه يبكي عبر حبر قلمه ، كان يستدعي الجميع عبر خياله ويسمعهم وهم يملوه آمالهم ليخط رسالة طويلة لا يدري لمن يجب ان ترسل ولكنها رسالة وكفى ، القى نظرة الى حاجة آمنة كانت ضحكتها مهزومة تماماً امام جحافل الدمع المعرًق كان يسمعها تقول : لما الرحيل ونحن من ظننا اننا على اعتاب احلامنا ، كنت اريد مفارقة قفتي العجوز وافارق الشقاء واقضي بعض الايام قرب اولادي بعد ان انشغلت بالمعيشة الطاحنة اتركهم نيام واعود واجدهم نياماً اتفاجأ باطوالهم الزائدة في اسرتهم وعلاقتي بهم مثل علاقتي بالاشجار اسقيها واترك لها الباقي فاتفاجأ بظلها ، كل خوفي ان اكتشف يوماً انها لا تثمر ، واتمنى حج بيت الله حتى اصبح بحق حاجة آمنة ، هل هذا حلم يستدعي الفجيعة ؟ .
نافوني .. على صهوة خياله باذنيها الطائرتين خارج عصبة رأسها ، اختفت اسنانها اللؤلؤية في زمة ممدودة واثار دمع مالح على الخدود ، تنسج شكلاً غير مفهوم بابرة الكروشي بعصبية وافكارها تتعقد مثل الخيوط التي بين يديها وتسأل باتهام : لما قتل ؟ تمنت فتح مشغل لتعلم النسوة بعض حرف النسيج والتطريز وصبغ الملابس ، عندما انتهى من حلمها كان النسيج الذي في يدها قد تحول الى بندقية دون فوهة .
استدعاه رامبو الصغير بفرقعة من اصابعه الصغيرة ، حلم بالعودة الى المدرسة وعلاج آكلة شعره واستعادة زورق طفولته الذي ضاع في مراسم تنصيبه عائلاً للاسرة .
استدعى الشباب .. رحمة ودانيال وسعيد الذين يحملون بمدن مضيئة ونظيفة فيها كل ما يحتاجه الانسان ليعيش بكرامة في قراهم .
استدعى سميرة التي امنيتها ان تصبح بيضاء وست شاي ماهرة في احدى المحطات الكبيرة ، وربما تتعلم الكتابة والقراءة ، لتقراء عن كيفية ان تصبح بيضاء لتصبح اكثر جمالاً .
نظر الى الدرويش ووجد ذقنه تشرب من دموع عينيه ويتمتم باسماء الله .
وهكذا استمر في الكتابة بشراسة ، الى ان اصبح البص يترنح بهم يمنى ويسرى ، وهم لا يعلمون بان قلب السائق قد مات وتوقف في آخر محطات حياته قبل قليل بنوبة قلبية مفاجئة ، واصبح البص يجري وحده دون سائق فعلي ، الى ان قفز بهم من فوق الجسر نحو صفحة المياه الهادئة تماماً إلا من ضجيج موتهم الجماعي .
وفي اليوم التالي .. تجمهر المتفرجون على الجسر ، ودائماً لا بد من وجود متفرجون ، انظارهم مثبة على صفحة الماء ، قفة حاجة آمنة المنكفئة و اواني الاطعمة ، منديل راس نافوني يسبح وحيداً دون اجنحة ، وقبعة رامبوا الصغير وعلبة مسحوق سميرة التي لم يمهلها الموت المزيد من الوقت لتشويه وجهها ، ابريق الدرويش ومسبحته ، قلم الافندي ورسالته غير المكتملة ، كانت اشيائهم تسبح متراقصة وتبتعد عن الجسر رويدا رويداً بفعل الموجات الخجولة الناعمة كأنها تزفهم نحو العدم .
الشمس قوية تلعن انبلاج فجر جديد وتضرب سطح الماء ليتبخر ويصنع طبقة رقيقة من الضباب فيبدو النيل كأنه طبق حساء ضخم ساخن ينذر بالغليان ، اعتدته الاقدار على نار هادئة وقودها وطن باكمله ومكوناته آمال وشعب وعبق مهن .
ستيلا قايتانو
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.