أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    حذاري أن يكون خروج الدعم السريع من بيوت المواطنين هو أعلى سقف تفاوضي للجيش    مدير المستشفيات بسنار يقف على ترتيبات فتح مركز غسيل الكلى بالدندر    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    مناوي ووالي البحر الأحمر .. تقديم الخدمات لأهل دارفور الموجودين بالولاية    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    نشطاء قحت والعملاء شذاذ الافاق باعوا دماء وارواح واعراض اهل السودان مقابل الدرهم والدولار    لم يقنعني تبرير مراسل العربية أسباب إرتدائه الكدمول    وزير الخارجية السوداني الجديد حسين عوض.. السفير الذي لم تقبله لندن!    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    شاهد بالفيديو.. بعد فترة من الغياب.. الراقصة آية أفرو تعود لإشعال مواقع التواصل الاجتماعي بوصلة رقص مثيرة على أنغام (بت قطعة من سكر)    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    ترتيبات لعقد مؤتمر تأهيل وإعادة إعمار الصناعات السودانية    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. فتاة تنضم لقوات الدعم السريع وتتوسط الجنود بالمناقل وتوجه رسالة لقائدها "قجة" والجمهور يسخر: (شكلها البورة قامت بيك)    شاهد بالصورة والفيديو.. بأزياء فاضحة.. الفنانة عشة الجبل تظهر في مقطع وهي تغني داخل غرفتها: (ما بتجي مني شينة)    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    حمدوك يشكر الرئيس الفرنسي على دعمه المتواصل لتطلعات الشعب السوداني    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    محمد وداعة يكتب: حرب الجنجويد .. ضد الدولة السودانية (2)    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    تنسيقية كيانات شرق السودان تضع طلبا في بريد الحكومة    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثلاثية البلاد الكبيرة: الوادي والبندر.. (الجزء الثاني) رواية
نشر في سودانيات يوم 30 - 09 - 2011


[b]ثلاثية البلاد الكبيرة:
الوادي والبندر..
(الجزء الثاني)
رواية
في شأن الوادي والحب والأسلاف
أحمد ضحية
[email protected]
I
على قيف الشاطيء الوحيد, المتوحد في عزلته المجيدة, كان "جقندي" لا يزال مستلق يتقلب ذات اليمين وذات الشمال, كأنه يقضي ما تبقى من حياته بتقليب نفسه على جمر الذكرى الحارق. وعندما يلامس طشاش ماء النّهر جسمه النحيل, يرتجف لبرهة تكفي لإستعادة حياته مع "سوميت" والمشردين وجلساتهم في الكهف السِّرِّي لجبل "كارناسي" المهيب, فتتخلل خياشيمه المجهدة رائحة "سوميت" الدافئة, وهي تجلس على ركبتيها في قلب الكهف تشعل نارا صغيرة.
الآن فقط ينتبه لرائحتها ودفئها. علمها الكثير من الأشياء. حدثها عن "العوالم السبعة".. الدمار الأول.. و"كارناسي" الشاب العاشق اليانع الجميل, الذي قتله "الخازوق" بسم أبو الدرق القاتل, فأنتقلت روحه لتسكن الجبل وتحمل إسمه.. عرفت منه حدود النهر, ومن أين ينبع, ولماذا القبلي بهذه القسوّة والجبروت.. يلسع وجوه الناس وأقفيتهم, بذرات التراب الساخنة, وكم هي سموم نيران الغيرة, التي نهشت وجدان "الخازوق".. وكان وجهها يستحيل إلى شديد السمرة, كالأرض القردود, فينتبه للمرّة الأولى أيضا لتلك الوردة الحمراء المرشوقة بأناقة, في جديلتها الكبيرة. تحدثا عن الأزهار والورود السامة, التي يستخرج منهاصيادي دار الريح السُّم..
"يعالجونه بطريقة معينة, ويغمسون فيه رأس الكوكاب أو النشاب أو الحربة.."...
"لكن عندما يصطادون فريسة ألا يكون لحمها مسموما؟!"
"النار.. النار تعالج كل شيء"
كانت تعيد على مسامعه كل ما يقوله, كأنها تقرأ أمامها على لوح محفوظ, وجقندي الذي تتأرجح أفكاره الآن, منحدرة من ينابيع التاريخ العكرة, دون وعي يطهره النسيان, يتذكر أدق تفاصيل حياتهم المشتركة.. فتتأرجح هي الأخرى على مهل, فيبدو كل شيء حوله مهتزاً: الشجيرات على الضفة الأخرى من النهر.. المراكب الراسية على شفة النهر.. نباتات عشبّة معونّة النيل الكسولة.. عصفور "ودأبرق" وعشيقاته "المشاطات وقدوم صفيرة", وكل زرازير وزرزورات الحيشان الغارِّقة في إهتزازات الصّمت.. حتى ضوء الشمس الكابي, في آخر منعطفات الأفق خلف كارناسي, وهو يتسحب خلف غمامة عابرة, مهتزّة, سرعان ما ستتبدد وتفنى هي الأخرى.. وإلى الأبد, عندما ينفتق رتق السماء إلى قسمين, ويبدأ المطر في الهطول بغزارة..
كان المطر يشتد أكثر.. يشتد شيئا فشيئا...
ترك جقندي الجميع وخرج من الكهف وحده.. تأمل بندر الوادي المحترق في أسىً عميق.. تأمل الغيوم الكثيفة خلف خيوط المطر المنهمر. التي بدت كستار كثيف.. غطى الماء كاحليه .. شرب من ماء المطر حتى إرتوى.. خلع جلبابه .. ترك المطر يغسل جسمه العارِّي.. وصل الماء ركبتيه.. شعر بجدر الدور المحترقة تتهدم مع صواعق "البرق العبادي".. أخذ يتنفس بإنتظام وقلبه مفتوح على المطر.. غطى الماء صدره.. تهدّم قصر السلطان.. تهدّمت كل بيوت الوادي.. وبدأت الأشجار المهددة بالإقتلاع من الجذور تهتز بشدة.. أخذت أصوات الأهالي المرتاعين, تختلط بأصوات بهائمهم وهدير السيل المنحدر من أعلا "جبل كارناسي", وتمتزج في أصوات الطيور الهاربة من الأشجار, التي أخذت تتلاعب بها الرِّيح.. طارت بعيدا حاملة معها حفيف أوراق الشجر.. ندى الفجر.. وشمس صباحات الوادي الباكرة, ورائحة النباتات البرِّية وحتى الدعاش والغيمات العابرة, ورائحة الجروح المعطرة بالمخاوف والأسى الأبدي..
لملمت كل شيء وأطلقته في صرخة واحدة إخترقت حجب الفضاء البعيد, لتلامس كرسي الروح العظيمة وهو مستوٍ في مهابة, يراقب أحوال "عياله الضالين والمغضوب عليهم".. توحدت الصرخة في صرخات الأهالي الحادة كصرخة طفل لحظة الولادة.. طفّت الأشجار التي إقتلعها المطر والسيل من جذورها, وأصبح الوادي كله طافيا في الطوفان.. أصبح إمتدادا للنهر والبحر الملوّن.. غطى الماء عنق جقندي.. رأسه.. ومن أعماق النهر سبحت قطع الشك. وضعته على ظهرها, وسبحت به بعيدا إلى مدن لا يهددها الفناء..
كيف بدأت الحكاية؟!
كان جقندي قد جمع عددا من الأهالي بمساعدة من تبقوا أحياء من المشردين, ومضى قاصدا بهم المخابيء السرِّية أعلا كارناسي. إكتظت كهوف كارناسي بالأهالي والمشردون الذين تبعوه, ولاذ الجميع بالصمت المطبق. وضع الشايب جقندي الصندوق الأبنوسي الموروث من جده الجنزير التقيل على الأرض.. وضع "قربة المريسة" من على كتفه.. وتمدد على الأرض القردود. أغمض عينيه وحاول إسترداد لهاثه من الهواء, الذي أخذ يتموج أمامه. كان متعبا ومنهكا لأقصى حد. تحسس بنظره أرجاء الكهف المكتظ.. تتراءى له الآن بوضوح كل الأقنعة, التي تغلف الوادي وهي تسقط واحدة تلو الأخرى, فيجرح سقوطها الصّمت الحزين..
لعشرات السنوات ظل الوادي "متقنعا". يعيش خلف هذه الأقنعة مخاوفه الخاصة. هواجسه وظنّونه ورعبه المزمن. كانت كل ظلال القتلى والمغتصبات والمغدورين, تخرج من سراب الحياة: لاهثة ظمأى يحرقها جمر إنتظار القصاص. ثنى جقندي ركبتيه شعر بها منملة, مخدرة. فردها. ثناها.. فردها.. وأتكأ على مرفقه الأيسر, وهو يتناول من ود التويم الإزميل.. ومضت يده اليمنى تحفر في جدار الكهف, يحاول تدوين آخر الوقائع والأحداث ونبوءات النهايات الوشيكة, فيما مضى ود التويم يحاول فتح كوة في جدار الكهف, لربطه بسلسلة الكهوف الأخرى أعلا جبل كارناسي.
إستوى جقندي على الأرض القردود, محاصرا بالصمت الذي تمدد ليلف كل شيء داخل شرنقته الكئيبة. الصمت الذي كان يتبدد بصورة متقطعة تحت ضربات الإزميل على الجدار الصلد. كان جقندي يسعى جاهدا في فتح ثُغرّة في ذاكرة الوادي.. الأهالي.. المطاليق.. الشجر.. الطّير والمطر وريح القبلي. بدى له لحظتها أن كل شيء يفكر على النحو نفسه, الفرق فقط – ربما – في إختلاف الشّكل, لكن جوهر أفكارهم كان واحدا. حاول ترتيب ذاكرته, وجاحدا نعمة النسيان مضى أقصى تلافيف الوعي, حيث تكمن التفاصيل الخفيّة, منزوية بعيدا بقلق شقي في قاع الذاكرة, تراوغ الأسئلة السِّرية المسكوت عنها وغير المفكر فيها.. الأسئلة التي يطرحها الإزميل بضرباته المنتظمة, التي تشتد حينا وتنطفيء حينا آخر, مدفونة في الصّمت, مفسحة للرماد والغبار الذي يخلفه الطرق دائرة غير مرئية, يقتفي في تؤدة أثرها الحراري.
توقف عن الطرق عندما تناهى إلى سمعه صوت "أم كيكي" من بعيد, يعزف مزيجا من أغنيات عن "طير الرّهو" والعنقاء وسواقي الوادي والعصافير المهاجرة, من بلدات بعيدة إلى بنادر لا تعرف الشمس.. فقط العتمة ما يغلفها , كرّحم كبير يضم جنّين غير مكتمل النمو.. لفظ أنفاسه في منتصف المسافة..
جقندي الآن يواجه سؤال عزلته الداخلية, ليكتشف في عزلة الوادي العامة آخيرا أن ليس ثمة ما يميزه – كما ظل يعتقد دوما- ليستحق عليه الإحتفاء, فغّفى كالميت لتخترق أحلامه جدار العزلة.. قشرّة الصّمت الذي لم ينجح الإزميل في ثقبه..
"ليس ثمّة شيء خلف الجدار سوى المتاهة!"
قال ود التويم, تملى جقندي في وجهه النظر, وخياله يبحر في متاهة الوادي.. الشجر.. الطير.. الأهالي وريح القبلي السموم شقيق الصحراء.. ريح القبلي الذي يجري في عروقه مجرى الدّم.. صوت "أم كيكي" التي تتلوى على زراع راعٍ متعب موبوء بالحنين, يملأ فراغات الحلم, فتتردد أصداؤه بين جدران الكهف, دفقة من بوح كارناسي الشاب العاشق لحبيبته "القندول".. دفقة من بوح سوميت.. بوح قطع الشك وكل العشاق والعاشقات الذين تمر ظلالهم الآن لتتخلل كل شيء: الإزاميل.. الجدار.. عشبّة معونة النِّيل وهي تتهادى على سطح الماء المعكر بالطمي ونباتات المستنقعات المتطفلة.. معزوفات أم كيكي المدفونة في رمل الوادي وجذور القمبيل, تخرج إلى السطح. تبحر في النّهر. تنادي صيادين السمك والمراكبية المسطولين عند الفجر. تتهادى على الماء كمراكبهم وتستسلم لأحضان عاشقها الموج, وهو يقذف بعشبّة المعونة بعيدا إلى رمل الشاطيء, ليختفي خلفها عاشميق وست البنات إلى الأبد.
وتنقذف العشبة بعيدا على رمل الشاطيء, تعيدها أنغام "أم كيكي" إلى مستقرها الأخير: الرّحم الذي خرجت منه لتسمد الأرض, وتنمو في ثمار القمبيل, وتعطي "القضيم" لونه الأحمر القان.. لون قلب كارناسي النازف.. تنكسر "أم كيكي" على زراع الراعي, إثر ضرباته القوِّية على الوتر, وتتفجر كفقاعات تنتشر في الفضاء الفسيح, يستنشقه الأهالي المحاصرين بالمياه في الكهف أعلا كارناسي, فيستبد بهم الحنين والشجن, ويظل الجدار صلدا دون كوّة.. دون ثُغرّة.. دون تاريخ.. دون ذاكرة...
على إيقاعات "أم كيكي الحزينة", أثث "بندر الوادي" حضوره الطاغ في وادي الذهب.. في البلاد الكبيرة.. وعلى إيقاعاتها إستقبل الدمار الأول.. و.. والثالث وهاهو يشرع الآن نافذة أخرى لدمار وشيك, دون أن تعلن "أم كيكي" عن أسرار الخراب الدائري المستمر كحلقة شريرة, في مجرى الزمن, تنطوي على كوابيس الوادي المرعبة.
إذن عندما صعد المشردون والأهالي خلف جقندي قمة كارناسي, كان كل شيء في الوادي بائس. رَّث. ينطوي على كوابيسه الذاتية المرعبة, فقد فقد كل شيء طراوته ونداوته على نحو مباغت, وأصبح فزعا من أن تبعث الحياة في هذا الفضاء الكئيب, أن يتخلق من جديد وتنمو فيه وتعيش أوبئة الكوليرا, الملاريا, والجدري..
وضع جقندي الإزميل على الأرض الصخرية. فتح الصندوق الأبنوسي العتيق. سحب مخطوطا من جلد الماعز تم حفظه منذ عشرات السنوات بطريقة مجهولة, وأخذ يقرأ الرموز التي خطت عليه.. ثمة شيء مفزع يصعب تصوره.. تآكل تام يجعل كل الموانع في ذاكرته تتهاوى, كطوابي النّهر القديمة.. يهيمن عليه يقين بأن كل ما كان يوما هينا قريبا يصبح الآن صعبا بعيد المنال.. كانت الحقائق تهرب من بين الرموز, مفسحة لعشرات الأساطير الصغّيرة والكبيرّة في عالم ينمحي من الوجود.. فينمحي من الوادي الذي لم يكن يوما مهيئا كفاية, كبندر للبلاد الكبيرة ولذلك بدأ سلاطينه على الدوام, كالذين يسرقون البكارات خلسة من الفتيات المسكونات بالطفولة والخوف والخيبات.. يسرقون حتى دمعات اليتامى ويحاصرون الوادي بجبروت الصّمت والعزلة والحروبات الخفيّة والمعلنة, التي لا تنتهي سوى بالخسارات العظيمة.
منذ أصبح الوادي وطنا "للمطاليق" شذاذ الآفاق ومعتقلات الكهوف والمنبوذين.. منذها يهرب من مواجهة ذاته بسؤاتها, فغرِّق النّاس في الخوف من الكلام.. الخوف من القول والصراخ بصوت جهير وعنيد ضد المظالم.. ضد إنسداد الأفق وإنهيار الأحلام.. ضد الحماقات والجرائم في دار الريح..
منذها والوادي يستحيل شيئا فشيئا إلى مكان موحش, مبتذل وكئيب تتعطل فيه المواهب الطبيعية والحواس.. مكان لا يصلح سوى للنحيب, فقد إمتلأ بالغربان وغادرته الحياة.. فبدى شاردا في شمسه الغاربة, المتهاوِّية.. الهاربة.. معزولا على شاطيء النهر المهجور, وعشبة معونة النيل تغزل في موجه, آخر رسائلها للمراكب التي لن تعود إلى مرافيئها.. كان كل شيء يعلن بداية النهاية الوشيكة, لأطول تاريخ من الأحقاد والضغائن والعداوات والإحن الأنانية والإستعلاء والتهميش وقلة الذوق والأدب.. كل شيء تم إعداده بدقة: مخلوقات دمار العالم.. العزلة.. النّار.. الليل.. المطر والسيل.. فأنهارت في البدء كل الأبواب المغلقة تحت وطء زعر الأهالي.. إنهار قصر السلطان بكامله.. كان كل شيء قد أختزل في برق العبادي الخاطف بصواعقه الرهيبة, التي أحرقت كل شيء, ليرى الأهالي أنفسهم للمرّة الأولى: نساءَ ورجالاً.. أطفالا وشيوخاً.. كانوا جميعا عُراة "يتدافرون" في أمواج الزحام القاصدة الساحة التي تتوسط بندر الوادي, بينما مخلوقات دمار العالم تتناهشهم..
لحظتها صعد من أعماق التاريخ السحيق, إلى سطح حياتهم في رمقها الأخير. إحساسهم للمرّة الأولى بالهشاشة, على أنقاض الكبرياء الموهوم والإستعلاء الزائف.. تحرروا بموتهم من عقدة الذنب الخفيّة.. الدفينة التي لم تخذهم يوما...
إستمر ود التويم في محاولة فتح كوّة في الجدار, كان كالمغمّى عليه في غيبوبة التاريخ.. غيبوبة الجغرافيا.. خارج الزّمن.. إنزلق الإزميل على سطح الجدار, مثلما أنزلق هو في غفوته, حيث لا مسارب للضوء.. فقط الغبّار والذكريات والحنين.. تساءل من بين أحلامه الوسنانة: (هل يتوجب الآن حدوث الدمار الرابع.. تمزيق التاريخ المشترك والجغرافيا الأم.. تبديد الأقنعة والأساطير, كيما يتمكن الناجون من الحياة بسلام بعيدا عن إلحاقهم الأذى ببعضهم البعض, كما ظلو يفعلون دائما دون مبرر مقبول!..)...
كيف بدات الحكاية إذن؟!
بندر الوادي ظل طوال تاريخه يتصور دار الريح والصعيد, على النحو الذي "يريح ضميره" ليبرر غاراته على القرّى و"الفرقان والحلالات", فأهالي دار الريح والصعيد بنظره ليس ثمة ما يجمع بينهم ويماسكهم في كيان واحد قوي, فضلا عن تدنيهم العرقي والثقافي والعقدي, ولذلك عمد إلى ضرب ستار كثيف حول حياتهم, مكنّه من إستنزاف ثرواتهم ومواردهم, وبينما كان هو يزدهر, كان الصعيد ودار الريح يغرقان في ظلام كثيف من القهر والفقر والجهل والمرض والحروب الدائرية كحلقة جهنمية لا تنتهي.. فهذه سنة الكوليرا وحرب سهل القضيم, وتلك سنة الملاريا وغارات وادي القمبيل, وبينهما سنة الجدري ومعارك الحرازة أم قد.. هكذا كانت الحروبات والأمراض المنقرضة تاريخيا, تنهش أجساد أهالي الصعيد ودار الريح ودارصباح البعيدة الفقراء المتعبين..
لم يحاول البندر إذن تطوير فهم نبيل, يساعد على إزدهار الصعيد ودار الريح, بجعل أهاليهما شركاءً في هذه الأرض الواسعة وليسوا عبيدا عليها, ما جعل الأصوات التي كانت خافتة تتعالى شيئا فشيئا طلبا للتغيير وتقرير المصير.
"دار الريح في طريقها للإنفصال"
قال ود التويم.. رفع جقندي بصره إليه وقال بصوت بطيء لكنه واضح :
"كيف يمكن للسلطان والمطاليق أن يرغبوا في بقاء دار الريح جزء من البلاد الكبيرة, في الوقت الذي ينظرون فيه إلى أهلها "كدون" ذوي عقائد وسحنات مشبوهة, ولا تجري في عروقهم دماء مقدسة أو نبيلة كالدماء التي تجري في عروق أهل دارصباح.. الأفضل أن يمضي كل في طريقه بسلام"
وقبل ذلك بوقت ليس قليل, كان بعض المغنون والمشردون وعقلاء كثر قد إستشعروا الخطر المحدق بالبلاد الكبيرة, فرفعوا أصواتهم. وعندما طالتهم يد المطاليق الباطشة, هربوا إلى مملكة الجوار أقصى السافل, وتتالت موجات الهرب من الصعيد ودار الريح وبندر الوادي, ثم تداعت الأحداث بإنفصال الصعيد.. وفي خضم هذه الظروف تآمر المطاليق على ود التويم ودسوا له عند السلطان, وزعموا أنه وراء تهريب الأهالي إلى مملك الجوار في السافل الأقصى, ليقودوا ثورتهم على البندر من هناك, فأصدر السلطان أمرا بإعتقاله ومصادرة كل ممتلكاته, وعندما إلتقى ود التويم جقندي بعد إطلاق سراحه مباشرة أخذ يبكي ويقول:
"الما عندو جماعة ولا مال هل يبكي عمره عمال على بطال؟"
فهدأ جقندي من روعه قائلا:
"الجماعة ما بتنزل على رأيك والمال ما بيدوم والما عندو ذكر للروح العظيمة يموت مغموم"
فرد ود التويم:
"إنما أبكي على الوادي.. هل يستحق الوادي كل هذه الأحزان والإحساس بالضياع؟ هل يستحق أن تغتال ذاكرته ويترك للموت وحيدا ؟"
"لكنه صنع هذه النهاية لنفسه.. نسجها بعناية ودقة.. كان كل شيء متوقعا.. كان يعلم انه يمضي إلى حتفه بإصرار"
رمى جقندي كلماته بوجه ود التويم ومضى.
صعد والأهالي والمشردون خلفه إلى شرفات جبل كارناسي, وأخذ الوادي المنسي من بعيد ومن أعلا يتضاءل شيئا فشيئا, والنيران تشتعل في كل شبر فيه, فتستيقظ الأرواح الضالة والظلال المعذبة وتحترق..
فيتبدى درب يفضي إلى نقطة البدء في الرحيل والتنقل المستمر.. يختبرون يقينا لا يفتر بعد أن شيدوا من الرماد النقي ذاكرة, وغزلوا عزلتهم من غبار الشهب.. كانوا عزلا إلا من ذكرى عتيقة وحنين قديم ثاو في أعماق الذاكرة المنهوبة, التي تعيدهم الآن في حياتهم الأخرى إلى جراحاتهم الغائرة التي لا تندمل.. جراحات بلاد غادرت نهرها.. واديها.. قمبيلها.. طيورها.. بلادا إحتجبت في الحضور الوهمي لأكاذيب النقاء العرقي والسلالات المقدسة للشرق السعيد, وبقايا أقاصيصه القديمة ك"أنا" ليس بعدها في الخلق أنا!.. الذكرى التي لا تستحق أن يحزن لأجلها أحد..
الآن يشرع الناجون الذين يشقون بعصيهم في نهر النار دربا للضفة الأخرى, يشرعون أنفسهم على الفراغ العريض للخلاء الواسع.. تضع خطواتهم على تراب الطريق, أولى الخرافات الجديدة, التي تأثثت بمخلوقات دمار العالم والريح والحرائق.. يضعون بصماتهم على سطح الماء ليحملها, وبعد أن ينحسر السيل, يرمي بها إلى شواطيء بعيدة.. يدفنها بالرمل. ليجدها العشاق والمغنين ورواد الأندايات, بعد عشرات السنوات, محبوسة في قمقم يفتحونه على آلاف الحكايا, عن وطن تم تشييده في المنفى وأنين أم كيكي؟
لكن الحكاية لم تبدأ لتنتهي هكذا.. بدأت بالحب وفي الحب؟
من أكثر الأمور التي لفتت إنتباه جقندي في هذا الوادي هي علاقة الناس بالحب, فسكانه الذين يعتقد أي منهم بسخاء مريب, في أنه أفضل من الآخرين, ويبدو كريما وشجاعا وودودا لأقصى حد. في أغلب الأحيان هو ذاته من يتسرّب كل صديد الأرض وديدانها من نفسه الخرِّبة المتهرئة, وبينما يتحدث عن الفضيلة ياتي بكل أنواع الرزائل والشرور وهو يلوك بلسانه السلام والمحبة حتى لتخاله الجنزير التقيل؟!
كان أهالي الوادي إذن على الدوام, حتى في مشاجراتهم العائلية, يسعون لمضاعفة إحساس بعضهم البعض بالذنب والإيلام, بالمبالغة في تصوير الأخطاء الصغيرة والجرائر العابرة, وذلك لم يكن يؤدي سوى إلى إحياء المرارات والأحزان والآلام القديمة بقوة, مرة أخرى ومن جديد. حتى أن الوادي يبدو كمكان عتيق لرعاية الأحقاد المتجددة.. لذلك توقف جقندي فيما يعنيه الحب لهؤلاء الناس.. وفي الحقيقة كان الحب الذي يمارسونه نوعا غريبا من الحب.. إذ يبدو أحيانا كشمس ساطعة هادئة الحرارة, في خميلة تضوع فيها كل الروائح العطرة, وتجري فيها الجداول الصغيرة, التي تروي أزهارها وأشجارها وورودها.. خميلة مسكونة بعصافير الجنّة الملوّنة, التي لا تكف عن الغناء.. ويبدو له في أحيان أخرى كعاطفة ملعونة تتسرّب نيران الهجر والأحزان فجواتها التي تتسع ببطء مرعب, يُغذي المخاوف وإنفلاتات البلوغ, التي تصنع بقعا صغيرة متعفنة بين الأفخاذ الجائعة..
كان إذن و غالبا يبدو أسوأ من "أنداية" كبيرة يشقها النّهر قسمين, مثلما يبدو أحيانا المكان الغامض نفسه الذي ألفه الرحل وأدركوه كما أراد لهم الروح العظيمة تماما! رغم الإنحطاط الأسطوري الذي يزرع أسئلة حائرة في الأدمغة, التي تنتمي لكل سلالات الأزمنة الغابرة, الغارِّقة في أسرار المادة والروح, المجردة من أي نزوع ألوهي تطمئن له النفس!
أنه الوادي إذن كما تكون في التشظي, وتمزق عالم يؤول للإنهيار.. عالم تنهض فيه القبل الأربعة لبندره, مغموسة في النقع والغبار, حيث تبدو ملامح الأهالي والمطاليق شبحية, كشخوص مجهولين, جاءوا من كل مكان يحملون أحزانهم.. حرمانهم وهزائمهم.. إحباطاتهم وخذلاناتهم العميقة..
فالمطاليق الغرباء لم يأتون كالمغنين الجوالة, المرتحلين بغنائهم الرومانسي المعذّب حتى في اللانهاية, كأبونافلة المغني الأسطورة..
فأبو نافلة ما أن بلغ الثالثة من العمر توفي أبوه, فتربى عند "خواله" في دار الرِّيح, ثم ألتحق بالرُّحَلْ ولم ينل من علومهم شيء!, ولذلك لقب بأبي نافلة, فقد كان شغوفا بالغناء والمسادير والدوبيت والجراري والمردوم والشاشاي.. ولهذا السبب وجد معارضة شديدة من أهله, فهرب إلى بندر الوادي..
هكذا مثل الآخرين جاء عابرا بخياله "طابقا على ظهره القوقو", يحمل وعثاء الطريق داخله. ليعبر المدى الواسع, الذي تعبأ بكل ما توهمه الأهالي والمطاليق من حب وراحة بال.. كان غريبا مثلهم. إتكأ على صدر البندر ينفض عنهم وعن نفسه العذابات, لينهار وجدانهم مثلما نهض في الإنهيار بفعل الغربة والحنين.. غربتهم عن الشرق السعيد.. وغربته عن الصعيد ودار الريح...
وجدان الأهالي هو بندر الوادي نفسه لحظة الميلاد, في قلب سوق العناقريب. حيث يستمرأ الجميع تعاطي الأحاجي وحواديت البلاد الكبيرة, عن الذي يأتي ولا يأتي, وميلاد عصر جديد تفتتحه "الأندايات براياتها الحمر" المميزة, ليتغلغل التواصل بين الجزر المعزولة في الوجدان بعيدا عن الجغرافيا, فيخرج الأسلاف المزعومين ألسنتهم ويهزون أذونهم..
الأسئلة في بندر الوادي عادة مضرجة بالدماء والنزيف, كالنزيف على جبل كارناسي.. هذا النزيف الذي لم يشيد شيئا وهدم كل شيئ..
كيف لهم أن يفهموا أن جبل كارناسي خارج إطار الفيزياء, وأنه مهما نزف –مع ذلك- سيظل أخضرا في فضاء البندر الملتاع بأحجيات المهاجرين القدامى والجدد.. مبتدأ التمزقات والمطاليق والفوضى.. ربما ينفي كارناسي نفسه كأبونافلة.. يزحف عميقا في طبقات اللاوعي القصوى, ليحرر الناس والطير وبندر الوادي وأشجار القمبيل.
حافرا في مزيد من الأسئلة الحرجة والحارقة, حيث يمر الرُّحَلْ في ثيابهم الجديدة عبر ثقوب الآيديولوجيا, ليحتدم سؤال الهوية ويلف ويدور حول نفسه.. وحول ما إذا كانت ونيسة الحنانة أجمل أم جليسة المشاطة أجمل.. أو أن ما قتل المغني أبونافلة هو الحب وليس سم أبوالدرق.. و كل المدلين بدلائهم والدلاء ذات نفسها تتدلى في الفراغ!..
إلى بندر الوادي يأتي القلقين والموتورين, الذين لا يستطيعون التخلص من حساسيتهم المفرطة, التي تجعلهم يبدون كمشئومين مهددين بالغربة والإغتراب حيث هم وأينما حلوا!.. وربما توهم بعضهم المنافي بعيدا عن الوادي.. كانوا مصابين بأدواء الغربة والحنين يغمدون تأوهاتهم في مزيد من الجراحات, أقصى تفاصيل الفجيعة والدمار.. الواحد منهم على الدوام يمضي بإحساس محارب منقرض..
أنه وادي المطاليق.. وفي الوقت نفسه هو وادي المشردين والأهالي, الذين يبدون كقوم بسطاء.. وادي الباحثين عن وطن دفء.. يفيقون الآن من سكر دام لعقود طويلة على وقع الدمار الرابع.. عندما تتسع مديات الألم والرعب إلى حدودها القصوى وتبلغ منتهاها في العيون الخبيئة الكابية. ففي فراغ البندر تمر الصور.. الذكريات والأخيلة التي عاشوها متمزقة بالأسى والحرمان, فيما روح كارناسي الشاب تحفر على جدار الكهف المقدس, أحداث ووقائع العذابات اليومية, بوحدتها ووحشتها وأساها, في الخط الفاصل بين عالمين, ينطوي كلاهما على نبؤة المأساة..
شعب الوادي الذي يتكون في التمزق الشامل للناس والحياة والوادي ذاته.. الوادي بطبيعته وناسه وإحساساته الغامضة.. الوادي الشاهد على إندثار الأجيال الملاحقة بأسئلة الوجود الكبرى عن المصير والمصير؟!..
حياة الوادي المتبدلة هي حياة الأسئلة الحارقة نفسها, منذ كان السؤال هاجسا في خاطر الكون, في لحظة دقيقة تفصل بين عالمين, ينهض على ركامهما وادي آخر, كشاهد على عواصف الدمار الرابع.. لحظة الخروج من ظلمات الوادي, بزوابع التاريخ. إلى نور الطوفان الذي أغرق الوادي في الأسى..
و.. و.. و بعد أن مضت على جقندي عدة أيام منذ آخر لقاء له بالسلطان, جاءه ود التويم وقال له:
"زوج أختي مات وتركها صغيرة وغنية وجميلة, لكن رجال الوادي لا يحبون المطلقات, أمشاك معاي.. نزوجها ليك, وتعطيها وتعطي كل أهل الوادي علمك.. هذا هو مهرها"
فرفض جقندي العرض وأخبره أن على أهل الوادي طلب العلم من المشردين, الذين كانت حلقات بعضهم, ممن إتخذوا "العصا أو القرف" أو.. شعارا.. قد بدأت في العمار, إذ إجتمع عليها "خلق" كثيرون, إذ كانت "نار سوميت" موقدة طوال الوقت, والمشردون قائمون على خدمتها, وبعض الأهالي قد تنامى فيهم "عشّم".. خصوصا ود التويم, الذي كان منذ طفولته الباكرة يشعر بقوة خفيّة, تشده بقوة لإعتلاء قمة جبل كارناسي. فكان يتسلل خفيّة من عيون الأقران والأهل والعشيرّة.
يشق طريقه عبر جنقل السلطان, ويمضي دون أن يوقفه شيء: لا المخاوق التي تملأ الوادي فيما يحكي الأهالي عن الجن الذي يسكن الجبل, ولا شياطين الظلام.. ولا الأرواح الشريرة ولا المطاليق.
يبدأ ود التويم رحلته متشبثا بالحجارة الناتئة, مرتكزا بقدميه على شقوق الجبل وبروزاته الحادة. يصعد.. يصعد مدفوعا برغبة بلوغ القمة, وإكتشاف أسرار الجبل في ذروته, التي تلامس السحاب, حيث تبدو أشجار القمبيل والوادي من هناك, كظلال تختبيء خلف ضباب رطوبة الوادي المتلفع بعتمة التاريخ.
في عروق ود التويم تجري دماء بلوغ القمة! المنحدرة من الجد الكبير "سراج البيت", الذي عاصر المطلوق بادي, في ذلك الزمان البعيد من ضلالات الوادي.
كان "سراج البيت" قد تزوج بإمرأة من الرُّحَلْ, أنجبت له"حرّاس العقاب" و"ست الدار" التي إختطفها بادي وأنجب منها المطلوق الدود أبوحجل.
من دماء حرّاس العقاب جاء ود التويم بعد عشرات السنوات, مثلما جاء أبو شوتال من دماء الدود أبوحجل من بعد.
في تلك الظهيرة البعيدة. الملأى بأسراب الجراد, التي حجبت قرص الشمس, مما عمق الخوف في فضاء الوادي, ولد حرّاس العقاب, ولما كان والده "سراج البيت" شيخ أحد عشائر الوادي ذات الشوكة, والتي تحتكم على الكثير من العبيد والجواري والقطعان, ومشاريع الزراعة والأراضي, فضلا عن نفوذها التاريخي الذي جعل أفرادها دائما وفي كل العهود, أعضاء في مجلس العشائر والأسر, الذي هو مجلس السلطان نفسه!..
إهتم سراج البيت كثيرا, بأن يتلقى إبنه حراس العقاب, كل ما يمكن أن يحصل عليه من علوم, تفيده في وراثة موقعه في مجلس السلطان بعده, فبعث به إلى دار الريح, ليعرف لغات القبائل هناك. وكان حرّاس العقاب بذكاءه الوقاد, قد إستطاع تعلم أربعة من لغات دار الريح, وعندما عاد إلى الوادي لم يلبث إلا قليلا حتى بعثه والده إلى الصعيد, وهناك تعلم ثلاتة لغات أخرى.
فكان حراس العقاب من دون كل أقرانه ورغم صغر سنه, الوحيد الذي يتحدث سبعة لغات حيّة؟! من لغات الوادي؟!, وعندما توفىي والده سراج البيت, الذي كان يجمع في عشيرته بين الزعامتين: الروحية اللازمنية والدنيوية الزمنية, حرص حرّاس العقاب دونا عن اشقاءه وأعمامه, على وراثة كل شيء, فقد كان يتصور أنه الأفضل, دون أن يطلع على ما يفضله أهالي الوادي في حياتهم اليومية.. وورث الزعامتين!.. ورغم كل الإعتراضات الكثيرة داخل عشيرته. لم يأبه لأحد. وتمكن من فرض نفسه على الجميع, كزعيم روحي لا يأتيه الباطل من شنآن وكزعيم مادي مفوّه..
إذن تمكن من فرض نفسه عبر سلسلة معقدة من الإجراءات والمناورات الماكرة, التي مكنته من أن يتجرأ على معارضيه داخل الأسرة, بتنحي شقيقه الأكبر عن مكانه داخل الأسرة ومجلس السلطان وكل شيء.. وإنزواءه بعيدا في إرشيف الوادي البائس.. وهكذا ملأ حرّاس العقاب الأمكنة التي أشرف بنفسه على شغرها. بعد أن قام بترتيبات عديدة مع السلطان والمطاليق, وبعض أعضاء مجلس السلطان الذين كان قد أغرى بعضهم بتزويجه من شقيقته الصغيرة "ست الدار" لتكون حلقة الوصل بين بين.. وفي ذلك الوقت, وعند موت السلطان "الكرباج", إنقسمت العشيرة الملكية, وأستولى بادي الأخ الأكبر للسلطان "جبل الحديد" على الملك, فقاد "حرّاس العقاب" بمساعد المطاليق وعشيرته, معارضة جسورة لإسقاط بادي وإعادة أخيه الأصغر "جبل الحديد" الملك المخلوع.
في سنوات مراهقته, لازم حرّاس العقاب الشايب الجنزير التقيل ردحا من الزمن. وقتها كان الشايب الجنزير التقيل قد وطن نفسه على البقاء في الوادي, فقد كان الناس عندما يعرفون في ذلك الزمان, أن قوافل الرُّحَلْ تمر ببلدانهم الآن, يتقاطرون عليها من كل مكان لزيارة الجنزير التقيل.. يأتون دافرين منهم من يحمل العسل ومنهم من يحمل السمن, ومنهم من يحمل القماش ومنهم من جاء برقيقه:"كل واحد يقع قدر قدرتو.. الجمل بشيلو والحمار بشيلو".. جميعهم يأتون لزيارته, فيستقبلهم لابسا "شملته الرباعية". ناره موقدة طوال الوقت وقداحته ستون قدحا, والكسرة مديدة تسوطها نساء الرحل في البرام, شادات وسطهن بالمناطق.. ووصفة الكسرة دقاقة. نجيضة. وخميرة الماء عليها مثل الفلفل, تارة تكون بالملاح وتارة تكون بالماء(ثخينة).
وكان الجنزير يتقبل هداياهم ثم يعود فيعطيها "للعُشام" بعد أن يقضي غرض كل الزوار بمطالبهم المختلفة, ففيهم من يطلب المال وفيهم من يطلب الولد وفيهم من يطلب الصحة والعافية أو تقريب البعيد, لكن أكثرهم كانوا ممن يريدون أن تكف أيادي المطاليق عنهم.
لكن علاقة حرّاس العقاب بالجنزير التقيل لم تبدأ هنا في هذه اللحظة التي قرر فيها البقاء في الوادي, فقد قضى حرّاس العقاب من قبل ردحا من الزمن في مضارب الرُّحَلْ, لينهل من علومهم وأسرارهم, حتى عدوه واحداً منهم, وزوجوه من إحدى بناتهم.
حياته في مضارب الرُّحَلْ فتحت ذهنه على الكثير من الأمور الغامضة, في تاريخ الوادي والحياة والناس وأسرار الروح العظيمة, ما حفز ذكاءه الوقاد وأرتقى بمهاراته, التي تبدت بوضوح في قدرته على حسم الصراع على الزعامة الروحية والدنيوية, داخل أسرته لمصلحته بعد وفاة والده بقليل, وبدأت تلك المهارات تعلن عن نفسها بوضوح أكثر عند إستيلاء بادي على الملك ومقاومة حرّاس العقاب لهذا الإنقلاب ونجاحه في إعادة السلطان جبل الحديد مرة أخرى.
تفتح وعي حرّاس العقاب على الصراعات, التي تجري في الوادي في مرحلة معقدة وحرجة من تاريخه, إذ وقتها كان الصراع محتدما بين تيارات عدة: فهناك من يمثل أفكار الرّحَلْ بقيادة "العنتيل".. وهناك من يمثل أفكارا قريبة الشبه من أفكار حرّاس العقاب, في جوهرها لكنها تختلف عنها شكلا, وهذا التيار كان يقوده "أب زنقلة"الذي كان ينادي بوحدة الوادي مع مملكة الجوار في السافل الأقصى, بينما كان حرّاس العقاب يرى ضرورة بقاء وادي الذهب مستقلا.
هذا الإنقسام في التوجهات, كان متمكنا أيضا من الأهالي الذين كان عقلاؤهم بقيادة العنتيل, يسخرون من أب زنقلة وحراس العقاب معا, فبينما يعتبرون الأول جاهلا جهلاً تاما! يعتبرون الثاني زائف الوعي, بصورة لا حدود لها, وأنه لم يأخذ من أفكار الرحل سوى القشور. وفي الوقت نفسه كانت العلاقة بين عشيرة حرّاس العقاب وعشيرة أب زنقلة, التي لا تقل عن عشيرة حراس العقاب نفوذا على الوادي.. كانت علاقة مضطربة, تسودها المنافسة والمكايدات, رغم صلات المصاهرة والنسب والعقائد الطائفية العميقة التي تجمع كليهما.
رغم ذكاءه إلا أن حراس العقاب, كان طموحه يفوق حدود قدراته ومواهبه الطبيعية, كما أن أب زنقلة كان بطبعه ميالا للخلافات والإنقسامات منذ وقت مبكر في سنه, فقد إنقسم على أسرته وهو صغير, وعندما كبر قسم الأسرة التي كونها, وعلى الرغم من حرصه على أن يبدو دائما كمنشغل بهموم الوادي, إلا أن معظم النظريات الخطيرة, التي عصفت بالوادي كان هو من يقف خلفها. لذلك كان مطاليق كثر يعتبرونه كخادم متطوع لأجندتهم الخفيّة, بل مضى بعضهم لإعتباره زعيما روحيا سريا لهم, رغم كراهيتهم المضمرة العميقة له.
وبينما كان أب زنقلة يدعو لفرض تعاليم الروح العظيمة, كان في الواقع يستغل هذه التعاليم, لإحداث الإنقسامات والإنشقاقات في الوادي, بما كان يلبسه لها من لبوس عنصرية, أسبغت على عشيرته صفة النبالة والملوكية, لكونها نقية العرق كما يزعم!.. الأمر الذي جعل جماعة العنتيل يعتبرونه مفسدا ومشوها لتعاليم الروح العظيمة, ومصابا بجنون العظمة ضمن أدواء مزمنة أخرى لاحصر ولا عد لها.
فأب زنقلة لم يكن يتورع من نسب نفسه لشعوب الشرق السعيد, التي هيأ له خياله العجيب أنها أرقى؟! وهكذا أمعن في التعالي على الإنتساب لشعوب وادي الذهب, وأهاليه. وهو الأمر الأساسي في تفكير أب زنقلة الذي جعله مقربا من سلاطين كثر حكموا الوادي, وعاصرهم على عهد سطوة المطاليق. حتى أنه عندما قام بادي بذلك الإنقلاب الشهير, كان أب زنقلة أول من دعمه!, ورغم محاولاته الظهور بمظهر الداعية, إلا أن كلا من العنتيل وحرّاس العقاب, كانا يريان فيه شخصا مخادعا عاشقا للسلطة ولا أمان له. صاحب طموح لا يحد وخبرة لا توصف في حياكة الدسائس والمؤامرات. أفصحت هذه الخبرة عن نفسها, في علاقته المريبة "بلاكو أتو" أحد أعيان الصعيد.
في الوقت ذاته الذي ولد فيه "لاكو" كان الوادي قد تغير كثيرا. أصبح سكانه عندما ينامون ويستيقظون في الصبيحات الباكرة, يجدون على فراشهم حيث ناموا رائحة غريبة وبقايا بلل, كأنهم يعودون لطفولاتهم المفقودة في غمرة الفجائع والأحزان.
في غمرة مثل هذه الأحاسيس الشائعة ولد لاكو في إحدى كبرى قبائل الصعيد, ومنذ طفولته الباكرة كان مغرما بالتأمل, وتلقى علوما ومعارفا محلية كثيرة خلال تجوال أسرته لسنوات عديدة بين قبائل الصعيد, كما تلقى العديد من المعارف عندما بعثه والده إلى الجوار, ما وراء منابع النهر الذي يتوحد ليشق بندر الوادي إلى قسمين.
هذه المعارف العديدة, جعلته يرى بوضوح: أن أهل الوادي على إمتداده لا يعرفون بعضهم البعض جيدا, لكنهم بلغاتهم وعقائدهم المختلفة, يصلون للإله نفسه: الروح العظيمة, الذي يعرفهم ويفهمهم جميعا, مهما إختلفت لغاتهم والأماكن التي يعيشون فيها.. يعرفهم واحدا واحدا.. لكن فجأة تغير كل شيء, فكان من السهل عليه أن يرى الآثار التي خلفها فساد السلطان والمطاليق مرسومة بوضوح في كل شيء في أركان الوادي الأربعة, فالوادي أصبح كالمستنقع. يطفح بالوحل والروائح النتة والزنخة.
خلال سنوات تجواله الطويلة إكتسب لاكو الكثير من المعارف والخبرات, وأثبت كفاءة عالية وبعد نظر في الخلافات القبلية في الصعيد, والخلافات بين الصعيد وبندر الوادي, والتي قادت في نهاية المطاف إلى إصرار أهل الصعيد على الإنفصال, يقودهم لاكو أتو نفسه.. فمواهبه كمحارب جسور أيضا كانت قد بدأت في التفتق, وأخذ أهل الصعيد يعتبرونه زعيما قوميا, بل أن الكثيرون من أهل دار الريح ودار صباح البعيدة كانوا يستلهمونه, وكذلك ناس السافل الأقصى أعتبروه زعيما قوميا..
وهكذا كان لاكو ملهما لشعوب الصعيد ودار الريح والسافل الأقصى ودار صباح البعيدة حيث تبدأ الشمس رحلة الشروق. إلى أن نجحت سلسلة من المؤامرات المعقدة, التي حاكها أب زنقلة بمهارة في القضاء عليه مسموما بسم "أبوالدّرق" وغريقا في المركب التي كانت تقله من بندرالوادي إلى حاضرة الصعيد. "حتل به الجاسر" في منتصف المسافة وهو يحاول بلوغ الضفة الأخرى للنهر.. كان السُّم قد تمكن منه ولم يمهله.
هؤلاء الرجال: العنتيل, أب زنقلة, حراس العقاب, و.. من دمائهم بعد عشرات السنوات, سيأتي أحفادهم ومريديهم الذين يجلبون المزيد من الدمار لوادي الذهب.. ويتسببون بسياساتهم المختلة في الدمار الرابع بعيد إنفصال الصعيد بقليل.
المفارقة هنا أن هؤلاء الرجال مثلما ولدوا هم وأحفادهم وتابعيهم كقادة, ظلوا يصرون على الموت كقادة, ولن ينجح أحد داخل طوائفهم في زحزحتهم من مواقعهم القيادية أبدا طيلة حياتهم الطويلة, إذ يلاحظ أنهم لا يموتون سريعا كبقية الكائنات.. وجميعهم بمختلف إتجاهاتهم كانوا مخادعين, وفي الحقيقة لا يختلفون عن بعضهم البعض كثيرا, مهما إدعوا التمايز عن بعضهم البعض أو حاولوا تمييز أنفسهم.
حاضرة الوادي, التي إعتاد الرُّحل منذ عشرات السنوات أن تكون إحدى محطاتهم الأساسية, في مختلف عهود هؤلاء الرجال وأحفادهم, كانت أشبه بأوهام التاريخ المريرة, فقد كانت أكبر سوق رقيق في الوادي, ولهذا السبب بالذات كان إزدهارها لا تطفئه إلا موجات الجفاف والتصحر والأوبئة الكارثية, التي يكون دائما أغلب ضحاياها من العبيد والغلمان والجواري.
كان هناك ما يشبه التحالف السِّري غير المعلن بين هؤلاء الرجال والمطاليق, الذين ظلوا عبر تاريخ الوادي يؤثرون في إستمرار هذا المكان (بندر الوادي) كحاضرة لكل وادي الذهب, فهذا البندر الرّهيب كان على الدوام مقرا للحكم وقاعدة للإنطلاق نحو الحدود الواسعة للبلاد الكبيرة, التي يتكون منها وادي الذهب في إتجاهات القبل الأربعة.
الحوادث والكوارث دائما مركزها هنا: بندر الوادي. حتى المركب التي أقلت لاكو وغرقت به, وكل المراكب الأخرى التي أقلت كثر عبر تاريخ الوادي, وغرقت بهم. كانت دائما تقلهم من هنا. فتنتشر الشائعات بعد كل حادثة غرق, أن المطاليق والسلطان هم من يقف خلف مثل هذه الحوادث المريعة.
وعندما يتأمل جقندي الآن سيرة حياة هؤلاء الزعماء وأحفادهم, يجد أنهم كانوا يعانون إحساسا غامضا بعدم الإنتماء, فجميعهم كانوا يعانون الإنتماء إلى أماكن غامضة خارج حدود البلاد الكبيرة.. ما قاد الوادي إلى نهايته الوشيكة. التي لا جدال حولها وهو ما لا يستطيع فهمه على الإطلاق!!.
ورغم تحضيره لروح جده الجنزير التقيل مرارا وتكرارا, لفهم هذا الأمر إلا أن الجنزير التقيل ذات نفسه لم يعطه عقادا نافعا!.. فأخذ يجتهد ليدرك أن هذا الوادي ما هو إلا مكان ملتهب بالمخاوف والهواجس والظنون, يعتصره نوع غريب من الألم البطيء العذاب والعِرّى الفاضح, حيث تحاصر الروائح الزنخة والنتنة بكل أنواعها, كل شيء فيه, وحيث تجيء الأصوات المتناقضة من الأندايات لتحاصر فضاءه الشاحب.
ومن بين كل هذه الأصوات يتعالى صوت أبو نافلة, الذي منذ حل ببندر الوادي ظل متمسكا بالغناء. و رغم قساوة ظروفه وعنت حياته أستطاع تعلم العزف على الربابة وأم كيكي والوازا, واتصل بالتنقار مغني الوادي الأشهر, فوجد فيه الأخير موهبة كبيرة فاق بها فيما بعد مغنين زمانه, حتى أن التنقار شعر نحوه بحسد شديد, أفضى به فيما بعد إلى الموت بصورة درامية, إذ وجد ميتا وأم كيكي المتكئة على صدره, تعزف لوحدها. ووفقا للأحفورات على جبل كارناسي, أنه هدد أبونافلة أما أن يخرج عن البندر, أو يسلط عليه المطاليق فيغتالونه. ففضل أبونافلة الخروج عن بندر الوادي, قاصدا مملكة الجوار على حدود السافل, حيث تعلم هناك الكثير من فنون الغناء وطرائقه وألوانه, حتى ماهو غريب عن وادي الذهب. وأصبح بذلك من أمهر وأشهر المغنين والملحنين..
وعندما تآكله الحنين إلى الوادي إتصل بالسلطان الكرباج, يستأذنه ويطلب حمايته. وهكذا عاد فجعله السلطان من خلصائه وندماءه. فحاول إعادة صلته بالتنقار, الذي كان لا يزال من أنصار الغناء القديم على عكسه فقد كان مهموما بتجديد أغنيات الوادي القديمة بما أكتسبه من معارف موسيقية ثرِّية.
شيد أبو نافلة بعد عودته إلى الوادي دارا كبيرة, جعل حديقتها أشبه بحديقة قلعة بادي, التي تشبه الحديقة السماوية السرمدية. كما قام بنقل الكثير من الأشياء من مملكة الجوار إلى بندر الوادي, كالأقمشة الزاهية والمزركشة والشيشة والكشري, وهو صاحب أول مقهى ببندر الوادي. كما تفنن في وصف الأطعمة والحلويات, وأحب العطور. بل وكان هو أول من إستخدم الصابون المعطر ومزيلات العرق, وزيوت الشعر المعطرة بزيوت كان يستخرجها من الريحان والسعدة, بدلا عن الودك والكركار وزيت السمسم أبوالولد. حتى أن الأحفورات تؤكد في كثير من المواضع, أنه إرتقى بالذوق العام. عندما تصف الطريقة التي كان يأكل أو يشرب بها, فقد كان يمضغ الطعام على مهل وفمه مغلق.. ويتحدث بأناقة. وكان جملة يلفت الأنظار بسلوكه الرفيع. ومع ذلك كان بهيميا جدا عندما يسكر وتغدر به المريسة أو العرقي.
وتذكر الأحفورات هنا, أنه أول من لفت نظر نساء البندر, إلى إستخدام المناديل كهدايا للعشاق وألف في ذلك أغنية سار بصيتها الركبان.. كما وأخبرهن أنه يتوجب عليهن أن يطرزن على هذه المناديل قلوب مطعونة بسهام ورماح, أو زهور محطمة, أو ورود منكفئة على الحرف الأول من إسمي الحبيب والمحبوبة, وأن تكون مختلفة الشكل واللون والطول والحجم.
إقترح أبو نافلة على السلطان أن يتركه يعقد حلقة لتعليم الغناءوالرقص والعزف على ام كيكي والزمبارة والوازا والربابة, فكان له بذلك الفضل في تعليم جواري الوادي هذه الفنون, فبرعن في العزف على أم كيكي وعشقن الزمبارة كثيرا و أحببنها أكثر من كل الآلات الأخرى, وبرعت في تعلم العزف عليها كل من جليسة المشاطة وونيسة الحنانة, والإثنتين كان قد أهداهما له السلطان الكرباج, عندما أبدى إعجابه بجمالهما في حضرته في إحدى حفلات القصر الخاصة, وكان يكن محبة خاصة للمشاطة المغنية, التي كانت من أجمل النساء وأكملهن, وقد قال فيها من الشعر والغناء العذب, ما جعل إسمها على كل لسان. فهي حينا ملكة النهر وهي حينا إبنة التمساح العشاري و أسد البراري أو تمساح الدميرة.. وهي حينا آخر إبنة عشا البايتات كحل السراري.. وتذكر الأحفورات في هذا السياق أن المشاطة دعته يوما.. وهو في طريقه إليها إعترضته الحنانة, فأقام عندها. فشق ذلك على المشاطة, وشكلّت هذه الحادثة, منعطفا خطيرا في حياتها معه, إذ أصبحت لا تغني سوى غناء الحزن والحسرة والأسف لتنقص على كل العشاق حياتهم, الأمر الذي أدى إلى أن يبيعها في سوق دار الريح بأقل من ثمنها بكثير, لكن عندما طال به الحنين وفاض به الشجن, مضى يبحث عنها وإشتراها بأعلا من ثمنها بكثير, وعندما عاد بها -وفقا للأحفورات- أنه أقام معها في حديقة داره لا يفارقانها, يلهوان ويأكلان ثمار القضيم, حتى "شرقت" المشاطة بحبة قضيم فلفظت أنفاسها بين يديه.. فجن جنونه على موتها بهذه الصورة الدرامية, فأبقاها ثلاثة أيام يشمها ويقبلها ويذرف الدمع الثخين على فراقها, حتى عاب عليه معجبيه وندماءه ذلك. وبعدها بثلاثة أيام مات هو الآخر مقتولا بسم أبو الدفان, ولم تنتهي بموته حلقة تعليم الغناء, إذ إستمرت تثمر مغنيين ومغنيات غالبيتهم العظمى يخلون من الموهبة تماما!. لكنهم على أية حال لديهم معرفة عامة عن العرضة والصقرية والكمبلاوالمردوم والجراري والشاشاي, كفنون إخترعها أبو نافلة أثناء تدخينه الحشسش, إذ كان عندما يجري الدخان في دماغه يشعر بنفسه ضخما كالفيل, وهكذا أنتج هذا الضرب من الفنون الفيلية التي يرقصها ويغنيها الأهالي.
كان سلوكه اليومي تماما كشعره وغناءه ورقصه, فقد كان سباقا إلى العديد من المعاني والصور, وكان أصفياؤه يدعونه "بصعلوق آخر الزمان" نظرا لتهتكه أحيانا في سرد قصصه الغرامية, فهو اول من أدخل الغناء والرقص عناقريب النساء في بندر الوادي, كما كان في أوقات فراغه يحب التسكع بين الأندايات, وسمي وادي الغزلان بهذا الإسم نظرا لأنه كان يتسكع فيه لأيام طوال, فيولم ويشرب الخمر والحشيش, ويسقي ندمانه ويأمر جاريتيه المشاطة والحنانة بالغناء والرقص, ولا زال متسكعا بهذا الوادي حتى هجره "الوزين" والغزلان, وجفت غدائره وأشجاره, لكنه ظل يحمل إسمه القديم.
وكان أحيانا يغير مع المطاليق على القرى والفرقان في دار الريح, وفي الواقع حياته كانت قصيرة لكنها طويلة بسبب ما تراكم فيها من وقائع , وما عاصره من حادثات. وبسبب كثافة إنتاجه ونوعيته. فوفقا للأحفورات على جبل كارناسي أنه ألف ولحن وغنى أكثر من ثلاثة آلاف أغنية؟ صنفها في ثلاثة مراتب, الأولى: بديعة , والثانية: وديعةو والثالثة: رائعة.. وحاول إبنه الخزين من بعده إعادة تقييم هذا الإنتاج الكثيف, تحت وطء الثرثرا والسجالات والنميمة في الأندايات, ولذلك حفاظا على المقام الذكي لوالده تفرغ لهذا الأمر تماما, فلم يجد شيئا جديرا بنسبته لهذا المقام سوى ثلاثة قصائد بائسة ولحنين فظيعين وأغنية مريعة!. لكن ولإحقاق الحق أن أبونافلة تمكن من إدخال تحسينات كثيرة على الغناء وآلاته, حتى أن البعض كان لديه إعتقادا جازما أن الروح العظيمة شملته بعناية مباشرة وفائقة وخاصة جدا.
تشير الأحفورات على جبل كارناسي, أن من وضع ابوالدفان بين ثقوب "عنقريب القٍّدْ" الذي ينام عليه أبونافلة هو التنقار, لكن معجبيه يؤكدون أنه مات "حبا" فسم أبو الدفان.. وفقا لمزاعم الأحفورات, أهون من أن يؤثر في جسده الذي إصطفاه الروح العظيمة بالحيوية.. دليلهم على ذلك أنه كان مع المشاطة حتى الرّمق الأخير من أنفاسها الفائحة برائحة القضيم. وعلى كل حال شيد له الأهالي مزارا على الضفة الأخرى من النهر, أصبح من أهم أضرحة ومزارات الوادي, الذي دان له بالوفاء عبر التاريخ, الذي سينقضي بحلول الدمار الرابع.. ولا يزال أهل الوادي حتى تلك اللحظة الفاصلة, يتوقفون عند غنائه ويجعلونه معيارا لنهضة الشعر والغناء والألحان أو تدهوره, خصوصا أن أولئك الذين يرتادون الأندايات, قد عنوا به وعظموا من محاسنه وأقبلوا على نشره في كل الأندايات.
II
فتاة الرُّحَلْ التي تزوجها سراج البيت, كان قد رآها عندما حط أهلها رحلهم على وادي الغزلان, قبالة "جنقل السلطان". أنجبت له حرّاس العقاب, الذي ما أن بلغ سن المراهقة, حتى أوفده سراج البيت إلى خيلانه الرُّحَلْ, لينهل من علومهم ومعارفهم, التي أشتهروا بها. وفي الحقيقة كانت تلك هي فكرة زوجته بنت "أب دفرة", التي ظل يتآكلها الحنين لحياة قومها, فمنذ تزوجت سراج البيت وإلى أن أنجبت له ست الدار.. لم تخبو جذوة حنينها على تلك الحياة, التي تشعر فيها بكيانها المستقل, كنساء قومها اللائي لا تتأثر إستقلاليتهن حتى بالزواج. فالمرأة في مضارب الرُّحَلْ عالية المكانة, حتى أنها هي التي تسارع بتقديم وعاء اللبن للضيف, ترحيبا به. ونساء الرُّحَلْ لسن كنساء البندر, إذ ينسب أبنائهن إليهن وليس لآبائهم.. كان لديها الكثير من الخواطر التي تنتقل في مجرى الذكريات المرير, الذي تؤرق تدفقاته الحارقة إستقرارها وتقض مضجعها.
تغيرّت حياة بنت أب دفرة إذن.. ولم تعد حياتها في الوادي, هي حياتها ذاتها تلك الحياة ا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.