مع بداية حياته الزوجية في السبعينات، اقتنى حاج (عمران) قطعتي أرض .. حصل على إحداهما حسب الخطة الإسكانية في أحد أحياء الدرجة الثالثة الشعبية. وبما أن لوازم البناء وقتها كانت في متناول يد كل صاحب ضراع أخضر، فقد قام حاج (عمران) ببناء القطعة دون الحاجة ل (قومة نفس) بسلفيات ربوية أو مرابحات بنكية منزوعة البركة، فمن دخله اليومي في كشك بيع عصير الليمون بموقف المواصلات في السوق، استطاع بكل يسر أن يبني غرفتين (خلف خلاف) بمنافعهما وأوى إليها مع أسرته الصغيرة. أما الثانية فقد هداه تفكيره وحسه الاستثماري السليم لشراءها في أحد الأحياء الطرفية (بيع أهالي) وب (تراب القروش)، ولحسن الحظ مرت رياح التغيير بتلك النواحي، وقامت جهات الاختصاص ب (تخطيط المنطقة)، فحصلت القطعة على حقها من الشرعية بالأوراق الثبوتية. مرت السنوات وأعقبتها سنوات كبر فيها الأبناء وزادت الأعباء، وقلّ الرزق وتناقصت البركة وتغير حال الناس، وتغيرت معه حالة حاج (عمران) من حال إلى حال. بعد أن كان دخله من الكشك يكفيه ويفيض، جارت الكافتريات الحديثة وسياسات ناس البلدية الغميسة على كشكه ومصدر رزقه، فتحول مجبراً من تجارة حاجات البطون لحاجات العقول وحول كشكه لمكتبة تبيع الصحف والأدوات المكتبية والكتب الثقافية، وتلك بدورها سرعان ما عانت من البوار بسبب انصراف الناس من الثقافة الورقية إلى الشبكة الإلكترونية، مما جعل حالة حاج (عمران) (تضيق تاااني)!! عندما تخرج (أمجد) ابن حاج (عمران) من الجامعة، ظن المسكين أن سنين معاناته مع الشظف قد انتهت بهذا التخرج الذي دعا إليه الأهل والأصحاب، وزفته يومها الموسيقى (يعرض ويبشر) وأم العيال مع دخري الحوبة في روبه القشيب إلى المنصة لاستلام الشهادة، ولكن مرّ العام الأول والثاني والثالث وبلغت أعوام عطالة (أمجد) الخمس سنوات دون بارقة أمل في وظيفة، مما جعل حالة عمران تضيق (تااااالت!!). بعد المشاورات والكثير من الاتصالات، والتواصل مع المغتربين من الأهل والأحباب، قرر حاج (عمران) بيع قطعة الأرض (الحيلة والدخيرة)، وشراء مستقبل ابنه من ثمنها الذي تمثل في عقد عمل وإقامة في إحدى الدول البترو – ريالية. وقد كان وها هو حاج (عمران) ما زال على حاله (يلوك في الصبر)، ويرجو من الله أن يربح بيعه الأخير وتفرج عليه حوالات أمجد وتحويلاته بعد أن طال استحكام حلقاتها عبر السنين. سفرية (أمجد) إلى ما وراء بحر المالح هرباً من قعاد الضللة، ومزالق الضلالات التي تدفعه إلى مهاويها ساعات الفراغ الطويلة ونظرات أبيه الكسيرة وعبرات أمه الحسيرة – سبحان الله – جعلته رقماً في الإحصائيات التي تدق نواقيس الخطر بسبب تزايد معدلات الهجرة وسط السودانيين. كلما قابلتني تلك الإحصائيات المتصاعدة، سرحت بخاطري مع (لو) مفتاح باب عمل الشيطان، وسألت نفسي: ماذا (لو) لم تتحول أرضنا الخصبة إلى أرض يباب طاردة تهاجر منها الطيور النادرة إلى أرض الغربة لتبحث عن الحب والماء؟!! وكم حرمتنا فجاج الغربة من إبداع وكفاءات وعقول نيرة لربما حولت يباس أيامنا لخضار (لو) وجدت من معاول البناء معيناً لها على البقاء؟! أذكر مطالعتي لمقال كتبه أحد عقولنا المهاجرة يسترجع فيه ذكريات عهد المغتربين الذهبي، عندما كانت الخبرات والعقول السودانية تمسك بزمام الأمور في بلاد الجزيرة العربية، ومفارقة طريفة حدثت له عندما كان يقود وفداً عالي المستوى من الدولة الخليجية التي يعمل بها، للتفاوض مع وفد شركة قادمة من دولة خليجية أخرى للاستثمار في ذلك البلد، فكان أعضاء الوفدين المجتمعين من السودانيين! المشكلة أن الحال تغير بطيورنا وضاقت بها المهاجر وحاصرتها حتمية توفيق الأوضاع.. (آآخر الزمن) صارت العقول والخبرات السودانية مجبرة على التوافق مع عقودات عمالة يدوية ورعاية المواشي و(السرحة وراء القطعان)! السوداني