في الأيام الأخيرة من رمضان وإلى ما قبل وقوع كارثة السيول والأمطار التي غطت بخسائرها ودمارها على غيرها من معاناة ومكابدة، كان الناس في تلك الآونة قد عانوا مُر المعاناة من غلاء الأسعار وخاصة تلك المتعلقة بحاجيات العيد واحتياجات الأطفال واستعدادات الأسر لاستقبال هذه المناسبة السعيدة، ولكن لأن رُبّ مصيبة أهون من أخرى، تناسى الناس ما عانوه من غلاء فاحش وانشغلوا بما هو أفحش وأوحش وأشرس وأمرَّ من المُر، وهذا طبيعي فلا صوت ينبغي له أن يرتفع الآن فوق صوت الكارثة وكيفية احتوائها وإنقاذ المتضررين - ولا بلاش إنقاذ - ولنقل إسعاف أو نجدة أو أية عبارة أخرى ليست في حساسية عبارة «إنقاذ» التي لو سمعها الآن أحد المتضررين لقال «رجعونا محل لقيتونا»، ولكن دعونا وبحسن نية مفرطة نفترض أننا بقدرة قادر قد استطعنا تجاوز المحنة رغم أن في النفس ما يزال باقٍ شيء من حتى، وبدأت حياة المنكوبين والمنكودين تعود إلى طبيعتها، هل سألنا أنفسنا عن طبيعة تلك العودة وماذا تكون، غالب الظن أنها عودة عنوانها الأبرز «الغلاء بعد البلاء» خاصة إذا علمنا أن التوعدات بما يسمى «رفع الدعم» ما تزال قائمة ويمكن إنفاذها تحت أية لحظة، ولا أدري كيف يمكن للناس أن يتعاطوا مع هذه المعادلة المستحيلة، دخول هزيلة مثل الطريدة الضعيفة وزادتها الكارثة هزالاً ويتربص بها لالتهامها وحش كاسر هو السوق والغلاء... ربما لا ينجح مع هذا الحال سوى اتباع أحد تكتيكين كما في الطرفتين أدناه... عامل بسيط لا يتعدى راتبه الشهري الثلاثمائة جنيه، التقته في عرض شارع الله أكبر مذيعة فصيحة ولضيضة كانت تجري استطلاعاً مع عامة المواطنين حول غلاء الأسعار وكيف يجده المواطنون وإلى أي مدى يستطيعون التوفيق بين دخولهم المحدودة والأسعار المنطلقة والمنفلتة، استوقفته وسألته بعد أن شرحت له مهمتها، قالت كم يبلغ راتبك الشهري، قال ثلاثمائة جنيه، قالت هل تسكن في بيت ملك أم ايجار، قال إيجار، قالت وكم تبلغ قيمة الايجار، قال ثلاثمائة جنيه، قالت وقد فغرت فاها من الدهشة وسألته مستنكرة، مرتبك تلتمية ومؤجر بي تلتمية؟! قال نعم، قالت طيب نخلي أي شيء العلاج والمواصلات وحق الكهربا والموية والمدارس، بتاكل شنو، قال وقد بدت على وجهه كل ملامح الجدية، باكل سيد البيت... مسؤول كبير في دولة تقع في التصنيف الذي يشمل دولتنا، التقى على هامش أحد المؤتمرات بمسؤول كبير في دولة من الدول المصنفة بالمتقدمة، ودار بينهما حوار شبيه بذاك الذي أدارته المذيعة مع العامل، سأل مسؤول الدولة النايمة - عفواً النامية، المسؤول الآخر، كم يبلغ متوسط المرتب الشهري للموظف عندكم، قال حوالي خمسة آلاف دولار، قال وكم يصرف من هذا المرتب، قال حوالي ألفين وثمانمائة دولار، قال يعني حيوفر ألفين وميتين دولار وديل بسوي بيهم شنو، قال نحنا دولة ديمقراطية ما بنسأله، بعدها انتقل المسؤول إلى خانة السائل، وقال كم يبلغ راتب الموظف عندكم، قال حوالي ميتين دولار، قال كم يبلغ مصروفه الشهري، قال ألف دولار، قال ومن وين بغطي هذا الفرق الكبير، قال مسؤول الدولة النايمة والله برضو نحنا دولة ديمقراطية ما بنسألوا يجيب الفرق من محل ما يجيبو!!.... الصحافة