** بالنوبية ( قُسيبة)، وبالعربية (مطمورة).. وهي أوعية ذات سعات مختلفة تقف شامخة بجوار بعضها بطول جدار الحوش..( المطمورة)، لم تكن ترمز للثراء ولا الإكتفاء الذاتي، إذ هي كانت تزين حيشان كل البيوتات ( الثرية والفقيرة)، ولكنها كانت ترمز للأمن الغذائي والمخزون الإستراتيجي للأسرة.. أي، بالمطامير كانت عبقرية البسطاء تسبق موسم شح المحاصيل.. ولذلك، لم يكن هذا الموسم يفاجئ عقول الناس بمخاطر الجوع بحيث تموت أو تمرض أو ترتبك وتصدر ردود أفعال سالبة .. نعم، فالمطمورة - بكل بساطتها - كانت بمثابة تفكير إستباقي لكيفية مواجهة أزمة مرتقبة ..!! ** وبكردفان، لاتعرف أجيال اليوم كيف تم تجويف أشجار التبلدي ( الوفية والأمينة)،لتحتفظ بمياه فصل الخريف في جوفها طوال فصل الصيف ؟..لا يتغير لونها ولا رائحتها ولا طعمها، بل تزداد عذوبة ونقاء لتروي عطش الأهل..بهذا التفكير الإيجابي كانت الفرقان والوديان والأرياف - بكل كثافتها السكانية - تتجاوز أزمة العطش بلا موت أو مرض أو إرتباك يوحي أن بالناس جنون.. نعم، لحظة تجويف سواعد البسطاء لتلك الأشجار العظيمة هي لحظة التفكير الإستباقي لكيفية تجاوز أزمة مرتقبة،!! ** وبالجزيرة وغيرها.. عندما تنثر أيدي الزراع بذور الذرة و(أب سبعين)، تكون أيدي الأبناء مشغولة في ذات اللحظة في تنصيب منصات خشبية تحيط بها أسوار من الأشواك أو الأسلاك الشائكة، بحيث يصبح المكان آمناً لحفظ حزم سيقان الذرة بعد حصادها أو حزم أب سبعين بعد تجفيفها.. وبهذا التفكير الإيجابي تنعم أنعامهم بفضيلة الأمن الغذائي والمخزون الإستراتيجي - الكائنة في تلك الأسوار ومنصاتها الخشبية - طوال موسم الجفاف.. لحظة تشييد المنصات والأسوار - بغرض تخزين القصب الجاف – هي لحظة التفكير الإستباقي لكيفية إدارة أزمة مرتقبة ..!! ** و.. و.. كثيرة هي النماذج التي تعكس أن العقل الشعبي بالسودان كان - ولايزال - يتجاوز مخاطر أزمنة وأزمات مرتقبة بالتفكير الإيجابي، وهو المسمى في مراجع الإدارة ب( التفكير الإستباقي)..وهذا النوع من التفكير هو المفقود في عقول أجهزة وسلطات الدولة، ولذلك تتجلى - على سبيل المثال - في مثل هذا الخريف من مشاهد وأحوال الناس والبلد ما تبكيك دماً ودموعاً.. فالخريف لم يكن في موسم من المواسم، ولا في بلد من البلاد، رمزاً للخراب والموت ..بل، كان - وسيظل - هذا الخريف رمزاً للخير والنماء..ولكن هنا - حيث موطن عقول السلطان التي لاتتقن التفكير الاستباقي - صار الخريف رمزاً للكوارث..وليس في الأمر عجب، هكذا دائما الحال بالدول ذات الأنظمة الفاشلة والفاسدة .. !! ** نعم، بالمطمورة - على سبيل مثال لتفكير إستباقي - تؤمن أسر الريف ( قوت عامها)، بيد أن المخزون الاستراتيجي الحكومي عاجز حتى عن إطعام المنكوبين بالسيول، لتستقبل البلاد ( طائرات الإغاثة)، لأن عقول السلطات الإقتصادية لا تعرف معنى التحسب للأزمات.. وعلى ذلك ( قس).. ( نبصم بالعشرة)، لم تبادر أية سلطة حكومية – طوال اشهر الصيف والشتاء الفائتة - بالتفكير في تقديم نموذج واحد من نماذج التعامل الجيد مع مخاطر أمطار وسيول هذا الخريف.. كل السلطات - كالعهد بها دائماً - جمدت عقولها وإنتظرت الأمطار والسيول لتتعامل مع مخاطرها ب (ردود الأفعال المرتبكة).. ولن تغادر حياة الناس والبلد بؤس الحال - في الخريف وكل فصول العام - ما لم يحل ال (proactive) محل ال (reactive) في جماجم السلطات ..ونأمل أن يبادر خبيرهم الوطني ربيع عبد العاطي بترجمة ما بين الأقواس لسادته، فالرجل يتقنها أو كما قال في ذات سجال حول أفعالهم وليست لغاتهم التي بها يكذبون ..!!