متى ما تلتقيه ينتابك الاحساس بأنه لن يبقى طويلا بهذه الفانية، هو من تلك القلة التي متى ما جلست الي احدهم تخشى ان يعجل بالرحيل، يخالجك الشعور بأنه ليس من عالمنا بأنه زائر خفيف الظل سريع الطلة يرتب للعروج الي عوالم أرحب كالنسمة في أريحيته ابتسامته الدافئة تحتضنك قبل ذراعية، مشيته الهادئة الوديعة تحاكي الرحيل في صمت، نظراته العميقة تملأ القلب حبا ومودة، يتسرب الي اعماق نفسك دونما إستئذان، عاش حياته الحافلة بلا ضجيج وغادرنا دون وداع. عاطف صلاح ابراهيم عرفته منذ نعومة الاظافر مطلع سبعينات القرن الماضي فقد رضعنا معا ثدي اعذب طفولة في الحلة الجديدة، حيث كنا نسكن بمدرسة أمنة قرندة - امد الله في ايام هذه المرأة الرمز – كنا نمر من امام منزلهم المعروف لكل قاطني المدينة، ومن من سكان كوستي وما حولها لم يمر بمحطة استديو صلاح، فصاحب هذا الاستديو - رحمه الله - والد فقيدنا العزيز، كنا نعجب ايما اعجاب بهذا الفتي المدللً ابيض البشرة وبتسريحة شعره (شقة ابراهيم عوض)، كان لا يشبنها كثيراً فقد كان لطيفاً وديعا هادي قليل الحركة، وكنا اشقياء لا يهدأ لنا بال، لم يعلب معنا قط، كثيرا ما كنا نراه جالسا مع والده امام الاستديو ساعات الاصيل وما بعد الغروب. اسعدتني الاقدار بجيرته والارتباط به كثيرا فجل سنوات عمره كانت الاحياء السكنية تجمعني به، فسكنا معا في الحلة الجديدة فترة الطفولة وحي الرابعة في المتوسطة والقشارات فترة ما بعد الثانوي، وحتى عندما سكن مربع 31 كان قريبا من القشارات وعندما سكن ابو شريف كنا في كوستي القوز. تعرفت اليه عن قرب في اعظم مؤسسة تعليمية ارتدتها في حياتي، مدرسة منيب عبد ربه المتوسطة، هذه المدرسة التي جمعتنى بكوكبة من اروع شباب المدينة، كان مختلفا في كل شي سلوكا وأدباً، فهماً وعلماً، رقياً وتحضراً، كان اميز واشطر طلاب الدفعة فقد بخل علينا بالمرتبة الاولى طوال المرحلة الدراسية، وحتى عندما حالت ظروف ضاغطة بينه وبين الجلوس لامتحانيين متتاليين ونحن نمتحن الامتحان النهائي من التموسطة الي الثانوي، كانت والدته -عليها رحمة الله - تصر ان يعيد ويمتحن العام التالي، لم يخذلنا ولم يخذل الاستاذ الجليل عبد القادر حينما راهن عليه قائلا "عاطف سيجلس بقية الامتحانات وينجح ويدخل الثانوي", وبالفعل امتحن معنا متأخرا امتحانين منح فيهما صفر درجة ومع ذلك احرز نتيجة اهلته الي دخول مدرسة كوستي الثانوية القوز. رجل مواقف من الطراز الأول، علي رقته، عذوبته، سماحته ولين جانبه، كان ومنذ صباه الباكر يتخذ من المواقف ما يعجز عنه حتى الكبار، في الصف الثاني متوسط حينما فرضت عليه الاقدار ان يختار بين العيش مع والده متمرقا في نعيم ودعة عيش امام اغراءات لا تنتهي لصبي يافع، او ان ينحاز الي الطرف الاضعف من المعادلة ويذهب مع والدته التي لا تملك شيئا من حطام الدنيا فانحاز لوالدته مقاوماً الكثير من الاغراءات والعروض التي كانت تأتيه من الطرف الأقوى، شاكلة هذه المواقف الناضجة هي التي جعلت عاطف صلاح ومنذ المتوسطة يكافح من اجل أسرته ويمنع والدته التي كانت تناضل لأجل تماسك الاسرة من العمل ويتولى هو مسؤولية الاسرة كرجل للبيت، ونحن في المتوسطة كان يغيب عن المدرسة يومين وثلاثة احيانا للفسر الي الخرطوم حاملا بضائعة متاجرا. كان يقدس الحياة الاسرية والأسرة كانت همه الاول والأخير، لم يفكر في نفسه ولو لبرهة، تقديسه للأسرة الممتدة شغله حتى عن نفسه، لم يتزوج فقد تزوج هموم العائلة الكبيرة، كان مهموما بزواج اخواته وحتى عندما تزوجت اختاه عفاف وأمل صنع لنفسه هما اخر بدراسة اخيه امير وتزويجه، لم يجد الوقت الكافي للتفكير في نفسه، كان مهموما بالآخرين مسكونا بحب الناس. عرفته كوستي عن بكرة ابيها سائق مركبة عامة ولكنه سائق من نوع آخر غير عاطف صلاح كل المفاهيم المتعلقة بسائقي الحفلات وخلق انطباعا جديدا لدي ركاب المواصلات العامة، يقيني ادبان عمله بحرس جامعة الامام المهدي سيكون قد وضع بصمته ايضا وخلق انطباعا مختلفا لدي طلاب الجامعة. كلما ذهبت الي السودان كنت احرص علي لقائه وكوستي دوما تجمعنا، اخر مرة التقيته فيها كانت في يوم الخميس السابع من شهر مارس الماضي حيمنا ذهبت في زيارة طارئة للخرطوم، جمعنا منزل استاذنا الجليل مكي عبد الرحمن ابو قرجة بأم درمان، كانت احدى مفاجآت مولانا مدثر محمد العوض عندما حضر متأبطا عاطف صلاح، رغم معاناته مع المرض جاء معاوداً استاذ الاجيال مكي في مرضه لان الوفاء سمته، كان اللقاء عاما وسريعا مثل ايقاع الخرطوم، لم نتحدث في الخاص كثيرا، ولكن اللحظات التي امضيناها معا كانت كافية لان تعمق الاحساس القديم الجديد لدي بأن هذا الرجل يرتب نفسه الي رحلة اللا عودة. كان عبقريا من عباقرة بلد لا يحترم العقول، وكم من عبقري في وطني تم نحره علي محراب اللامبالاه, كان أبنا من ابناء مدينة كوستي البررة، احبها حد الوله، لم يستطيع ان يستنشق هواءاً غير عبيرها، ولم يغادرها الا لماما، كلما قذفت به امواج الحياة بعيدا عاد اليها بأمر الحب، فحق لهذه المدينة ان تبكيك يا عاطف، وحق لابنائها ان يطلعوا علي كثير من خبايا حياتك الزاخرة بالقيم الانسانية. رحل عنا الأنيق العفيف الشفيف عاطف صلاح مبتسما هاشا باشا كعادته، كأنه لم يمرض يوما، قدر له أن يموت بداء القلب كيف لا وقلبه القض تعتصره المعاناة منذ صباه الباكر، كل ما عاشه من معاناة كان يرسله لمستودع الآلام في قبله الرقيق، لم يشكو حاله لأحد ولا حتى المقربين، حتى والدته – عليها الرحمة - كانت تتضجر من صمته وبلعه للألم، في أحلك ظروف مرضه لم تفارق الابتسامة شفتاه، كان يتحامل علي نفسه حتى لا يعطيك الانطباع بأنه مريض، كان يتقن دور السعيد -تساعده في ذلك ابتسامه لا تفارق شفتاه - حتى لا يحزن الآخرين، عليك شبائب الرحمة يا عاطف بقدر ما منحتنا من حب ومودة وبقدر ما نستطيع ان ننهل من سيرتك العطرة من دروس وعبر، واحسن الله عزائنا فيك. [email protected]