جاءت الإنقاذ بمشروعها الحضاري وقد هلل لها الناس وكبروا، ولكن تكشفت الحقيقة بأن أهم مرتكزاته عبيّة الجاهلية الأولى، فقد أرجعت السودان إلى عصر داحس والغبراء، فما من منطقة إلا والاحتراب القبلي سمة بارزة فيه، فأضحت الوفود القبلية تيمم شطر القصر الجمهوري مؤيدة للثورة، وقد حذر العقلاء من مآلات المستقبل، ولكن لا حياة لمن تنادي، وعندما طفح الكيل، برز من الإنقاذيين من يجهر بالقول (كاشا يتهم المركز بتأجيج الصراع الدارفوري – موسى هلال يتهم المركز بحماية كبر – غازي صلاح الدين يحمّل مآسي السودان لحزبه الحاكم). بل تعدى الأمر القول إلى الفعل فظهرت جماعة سائحون، تجوب الآفاق مبشرة بإصلاح ما أفسده المشروع الحضاري، وذهب الأمر إلى أبعد من ذلك حيث قامت مجموعة من الإنقاذيين بمحاولة إنقلابية مستخدمة فيها ما هو غير مألوف من الخرافة العقدية (الفكي الدجال والدجاج الميت). وكنا نظن أن بحر أبيض بما يمتاز أهله من صفاء النفس، بأنهم بمنأى عن تلك المهازل، ولكن أبت الإنقاذ إلا وأن تنفث سمومها في جسد السودان قاطبة، ففي الآونة الأخيرة قد اشتعلت النيران القبلية بين الحسانية والشويحات، في شمال ولاية بحر أبيض، وفقدنا أناس أعزاء علينا من الطرفين (لهم الرحمة والمغفرة)، وقد تحركت حكومة الولاية على استحياء لأنها عاجزة تماماً عن إيجاد حلاً للمشكلة، وللحد من زيادة المبلل طين، قامت بتهجير أكثر من مائة أسرة من الحسانية حقناً للدماء، ولكن للأسف لم تقدم لهم شيء وتركتهم وجهاً لوجه أمام غضب الطبيعة في موسم الخريف، وبذلك خرجوا من دائرة الإنتاج (الزراعة والرعي)، فأصبحوا عالة (يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً). ونحن نناشد الخيرين من أبناء السودان عامة وأهل المنطقة خاصة ومنظمات المجتمع المدني بمد يد العود لهؤلاء المهجرين. ونناشد العقلاء من الطرفين والإدارة الأهلية بالمنطقة القيام بدورهم حتى يعيدوا الأمور لنصابها. فلهم من الحكمة والدراية ما يجعلهم قادرون على السير قدماً ما بين ثبات الموقف ومرونة الواقع حلاً لمشاكل أهلهم. وكذلك نطالب حكومة الولاية ببسط هيبة الدولة في المنطقة، وتوضيح حدود القبائل المتعارف عليها بواسطة الخُرط الكنتورية. ونناشد المركز التدخل للحد من تفاقم الأزمة، لأن حكومة الولاية بواقع حالها الماثل أنها مشلولة تماماً عن فعل أي شيء يذكر حيال هذه القضية. وكان يحدونا الأمل في واليها الشنبلي بأنه رجل المرحلة ولكن قد خيّب ظننا الرجل الطرير. ونحذر من تسييس القضية لأن ذلك يعني صب الزيت على النار، ويصعّب من مهمة الحل في الوقت الراهن، ويؤجج الصراع في المستقبل. ونحذر أيضاً من تدخل عديمي الضمير من بعض قيادات المنطقة المسيسة التدخل لأنها تتقن اللعب على الحبال، وتحاول جاهدةً بناء مجدٍ، ومواقف سياسية، حتى ولو على أشلاء القتلى ودموع الثكالى وأنّات الأطفال، فقد أثبتت التجارب بأنها ما تدخلت في قضية من قضايا المنطقة، إلا وجنحت بها عن طريق الحل، بل وأدخلتها في غَيَابَةِ الْجُبِّ ، فاستعصت على الحل، وخير دليل على ذلك قضية سكر النيل الأبيض. أحمد عيسى محمود [email protected]