* ( من أين لأسير الاستبداد أن يكون صاحب إرادة؟ وهو كالحيوان المملوك العنان، يقاد حيث يراد له، ويعيش كالريش حيث تهب الريح بلا نظام ولا إرادة؟ هي ناموس الأخلاق، هي ما قيل فيها تعظيماً لشأنها: لو جازت عبادة غير الله لاختار العقلاء عبادة الإرادة.). - عبد الرحمن الكواكبي - طبائع الاستبداد - 1 - .. كلما أوغلت في التاريخ قراءة وسبراً، واستعرضت تراجم قادة وزعماء من رجالات التاريخ، العابرين منهم والمعاصرين، ترسخت لديَّ قناعة، ترقى إلى درجة اليقين، بأن السلطة، أية سلطة. إمبراطورية، ملكية، خلافة، رئاسة.. إلخ. بشخوص ممثليها من القادة، إذا ما ترك لهم الحبل على الغارب. كما يقول المثل. دون مصد بشري رادع، فلن يتورع هؤلاء عن الإيغال في الجريمة، من فتك وبطش وهتك، واقتراف أي منكر مهما عظم، دون وازع أخلاقي، ودون أي اعتبار للقيم والمواثيق.. السادة لم يكونوا يعرفون الرحمة في تعاملهم مع العبيد الأرقاء، فلم يسعَوْا لتحريرهم، ولم يكن الإقطاعيون رؤوفين بالفلاحين الأقنان، فلم يعفهم الإقطاعي من السخرة، والرأسمالي لم يكن شهماً بالعاملين لديه، ما دام يستغلهم أربع عشرة ساعة في اليوم، فلم يخفض ساعات العمل إلى ثماني ساعات مثلاً.. وإذا ما استوقفتنا حالات خلاف ذلك، فهي حالات نادرة تعد استثناء ولا تنفي القاعدة. إن الإنسان بسلوكه الاعتيادي في المجتمع، إذا ما اعتلى عرش السلطة، يتبدل كلياً، بل ينقلب إلى إنسان آخر، وكلما تمكن من السلطة، واستحكم بزمام الأمور، واكتسب قوة وامتلك ثروة، ازداد شراسة وبطشاً. هناك فكرة علمية تقول: إن تبدَّل الشخص يترافق مع تبدل الظروف.. وعلى هدي هذه الفكرة نسوق هذا المثال من التاريخ الإسلامي.. فقد أثر عن الخليفة عبد الملك بن مروان، أنه كان إنساناً عالماً فقيهاً متعبداً كثير القراءة للقرآن، هذا قبل توليه الخلافة، لكنه بعد بيعته، دشن الخلافة بقوله: ( هذا آخر العهد بك) مشيراً إلى المصحف الشريف، واتخذ أحد أبرز العتاة في التاريخ الإسلامي، والياً له، هو الحجاج، لترويع الخصوم وبالتالي تعزيز الدولة المروانية. وذات مرة أسرّ لسعيد بن المسيّب، أحد الرموز المعروفة في تلك الحقبة، وأحد المقربين إليه، بقوله: يا أبا محمد، صرت أعمل الخير فلا أسر به، وأُعمل الشر فلا أساء به... فقال له ابن المسيّب: الإن تكامل فيك موت القلب. فأية عبارة أوفى معنى وأداء من (موت القلب) في حالة كهذه. وفي واقع كهذا، فلم يثنه أي شيء لا الوازع الديني، ولا ورعه ولا ثقافته، بعد تفرده بالسلطة المطلقة.. تقوم سلطة المستبد الطاغية عادة على السلطة الفردية، تتوسل القوة والإكراه، يتصرف دون مراقبة أو نقد أو حسيب. وغالبية هؤلاء في الفترة التي تكون للدين سلطة روحية بين المؤمنين، يحاولون أن يضفوا الشرعية الإلهية على سلطتهم في الأرض، بأنهم إنما يحكمون بأمر الله، وبالتالي لا بد من الجمع بين الدين والدولة، فقد كان المجتمع المسيحي في أوروبا يرى وجوب (الوحدة بين الدين والدنيا)، على غرار ما نادى به السيد حسن البنا مؤسس حركة (الإخوان المسلمون) من أن الإسلام (دين ودولة). فالواقع الديني هو الذي حدا بملك بريطانيا أن يقول: (نحن الملوك نجلس على عرش الله على الأرض). ومثله ملك فرنسا كان يزعم قائلاً ؛ (إننا لم نتلق التاج إلاّ من الله). وكان الخليفة أبو جعفر المنصور يقول: (إنما أنا سلطان الله في أرضه). إن المستبد الطاغية لا يجادل لأنه محتكر للحقيقة، حسب زعمه، وهو مستعد لامتشاق السلاح في وجه أي منتقد أو من يسدي له نصيحة، فقد علق الفاشيون الإيطاليون في عهد زعيمهم موسوليني علقوا لافتة في محاكمهم، دبجت بالعبارة التالية (الفاشية دائماً على حق، وتحيل جميع أعدائها إلى التراب). ومن هنا يقفل باب النقد والاجتهاد، أو إسداء النصح والمشورة. وهذا ابن المقفع يدبج رسالة عرفت ب(رسالة الصحابة) يرسلها إلى الخليفة أبي جعفر المنصور يسدي إليه الرأي، في الرفق بالرعية، وحسن اختيار الحاشية، فكانت مجازاته هي قطع أطرافه، وقتله بالتالي شر قتلة. كما أن الخليفة المنصور حبس الإمام الكبير أبي حنيفة، وجلده، وتم دس السم في طعامه، كما جلد أيضاً الإمام ابن مالك عارياً للتشهير به، والإمعان في إهانته، الأول رفض ولاية القضاء، والثاني ذكره لحديث للنبي محمد (ص) لم يعجبه فحواه. إن المستبدين الطغاة يتنكرون للعلم، فيما إذا طالت المعرفة العلمية مصالحهم ولو بطريقة غير مباشرة في المحصلة، بل إنهم مستعدون. بتعبير أحدهم. للتنكر للبديهيات الهندسية، إذا عارضت توجهاتهم الدنيوية، أو أثرت على ما لديهم من مفاهيم محافظة يتمسكون بها، تلك المفاهيم التي تشرّع لهم الاستمرارية.. أيد غاليليو غاليلي، وناصر بشدة نظرية كوبرنيكس حول مركزية الشمس، ودوران الأرض حول الشمس، بالضد من نظرية بطليموس حول ثبات الأرض.. وبسبب هذه (الهرطقة) لاحقته الكنيسة الكاثوليكية، وأحيل إلى محاكم التفتيش، فاضطر أن يتراجع خوفاً على حياته وله من العمر تسعة وستون عاماً، بعد أن فجر في العالم ثورة في علم الفلك، لكنه ظل يسرّ لأصحابه بقوله: ( ومع ذلك ما زالت تدور). وفي التاريخ الإسلامي هناك من اعتبر علم الفلك من التنجيم، لأنه ضرب من التنبؤ بالمستقبل، وهذا مناف لتعاليم الدين الإسلامي، وقد هاجم الإمام الغزالي الخوض في الجدل الفلسفي بذريعة أن العقل يتسم بالقصور، وربما يصرفه الجدل عن دينه الصحيح. - 2 - عندما نندار أو نلجأ إلى التاريخ الإسلامي، لنقتبس منه أمثلة على الطغيان، فهو أولاً تاريخنا، وهو ثانياً حافل بالمشاهد الفارقة في الطغيان، والارتكابات الفظيعة، سنأتي عليها بعد أن نتوقف عند هذا السؤال: هل الإسلام في هذه الحكومات كان حقيقة؟ أم كان شعاراً؟ وهل اقتراف هذه المآثم والكبائر والمنكرات تمتُّ إلى الإسلام بشيء؟ وهل هناك من وازع ديني أو أخلاقي يردع هؤلاء، إذا لم يتجسد هذا الوازع في قوة اجتماعية رادعة؟ فالحاكم المقتدر الذي يسن الشرائع، لا ينكر على نفسه التسري بالجواري، ولن يتعفف من الإقبال على مباهج الحياة، على مدّ البصر، وما تطوله اليد، وما طابت له النفس، والنفس أمارة بالسوء. يبقى السؤال هو: هل يحق لنا أن ننعت تلك الحكومات بالإسلامية؟ أو بمعنى آخر هل يصح فيها هذا التوصيف؟ وإذا كانت إسلامية، بشخوص ممثليها، فهل كان الدين رادعاً لهؤلاء القساة؟ أم أن هوى الدنيا والملك سرقهم من الدين! لقد كان هؤلاء ملوكاً في الدنيا، ولم تكن رسالة الإسلام سوى ستار لتحكُمهم في العباد، ولا يعجز أحدهم من الإتيان بشهادة شيوخ الدين، ليشهدوا له بأنه لا يحاسب في الآخرة. نعود إلى ما بدأناه، ونكتفي بالكلام عن الخليفة أبي العباس السفاح أول الخلفاء العباسيين، إذ إن ما فعله، يعد المشاهد الفارقة في التاريخ، من حيث الطغيان، فقد كان يتباهى بلقبه السفاح، بقوله: (أنا السفاح المبيح والثائر المبير)، أمر بنبش قبور خلفاء بني أمية، وإخراج بقايا جثثهم من القبور والتمثيل بها بالجلد والصلب والحرق، ثمّ نثر بقاياها في الريح، وهو صاحب المأدبة المشهورة، (مأدبة الدم). إن الاستبداد واحد وإن اختلفت درجاته، باختلاف المستبدين، والزمان، والمكان، من نيرون إلى أبي العباس السفاح، إلى محاكم التفتيش، إلى الثالوث، هتلر وموسوليني وفرانكو - إلى صدام حسين، ومعمر القذافي. د. نائِل اليعقوبابي [email protected]