هذا كتاب ثقيل في الوزن المادي وفي محتواه الفكري والثقافي والسياسي، نسأل الله أن يكون ثقيلا أيضا في ميزان حسنات كاتبه، عبد الله الفكي البشير. 1227 صفحة حملها هذا السفر الضخم الذي حمل عنوان "محمود محمد طه والمثقفون: قراءة في المواقف وتزوير التاريخ"، وصدر عن دار "رؤيا" للنشر بالقاهرة. و لو يكن ممكنا لكتاب مثل هذا إلا أن يكون من ذوي الأغلفة السميكة، ويأتي محمولا في شنطة قماشية أنيقة تليق به. طوف الكاتب على عوالم شتى، كلها ذات صلة بشخصية الأستاذ محمود والفكر الجمهوري وتفاعل وتعامل المفكرين والمثقفين والقوى السياسية مع أطروحاته وأفكاره. بدأ بلمحات من السيرة والانتاج الفكري للاستاذ محمود، قراءات في الدراسات السابقة التي كتبت عنه، حتى من خصومه، ثم الدور الوطني وموقع السودان في مشروع الأستاذ. وناقش الكثاب الفهم الجديد للإسلام الذي قدمه محمود محمد طه وما جوبه به من بعض المؤسسات الدينية ومحاكم الردة، ثم سنوات حكم نميري التي انتهت بإعدام الأستاذ. وفي أهم فصول الكتاب، في رأيي، وضع الكاتب الأكاديميا السودانية في موقع المحاكمة، بسبب موقفها من أفكار الأستاذ محمود وإنتاجه الغزير، وحمل الباب عنوانا فرعيا عميق الدلالات "التهميش والبتر للمعارف والعزل عن ميدان البحث العلمي"، ناقش فيه المقالات والدراسات الأكاديمية التي قدمت عن الاستاذ محمود والفكر الجمهوري، وأصدر حكمه النهائي ب"رسوب الأكاديميا السودانية في امتحان الأستاذ محمود". كما استعرض الكاتب حوالي 18 كتابا عن تاريخ الحركة الوطنية السودانية، وما كتب عن الأستاذ في كتب السيرة والتراجم،ثم موقعه في كتابات ومذكرات معاصريه. يصعب تلخيص الكتاب في هذه السطور، كما أنني لم أنته من قراءته بعد، لكني لم استطع أن أمنع نفسي من لفت الإنتباه لهذا الكتاب، بعد أن ظللت أقلبه وأجتزئ بعض القراءات منه ليومين، ثم توكلت على الله وبدأته من صفحاته الأولى. وما سيساعد الناس في قراءاته أنه مكتوب بلغة حارة وجاذبة، لن يشعر معها القارئ بالملل. هذا الكتاب جزء من مشروع فكري متكامل ينهض به وعليه الباحث والكاتب عبد الله الفكي البشير بجدية وحماس كبيرين، ويقوم على أساس نقدي للمفاهيم والأسس التي قامت عليها الحركة الفكرية والثقافية في السودان، باعتبارها اساس أي مشروع سياسي. قد يبدو الباحث غارقا في التاريخ، لكنه لا يترك نفسه أسيرا له، بل يراهن على المستقبل، ياخذ مدخله من نقد الماضي والحاضر بلا مجاملة، ويكسر كثيرا من البديهيات والمسلمات بجرأة شديدة، يفعل ذلك وهو مسنود بعمل جاد ومتأني، يقرأ ويبحث ويقلب في الوثائق، ويطاردها أينما كانت. من المدهش أن عبد الله البشير لم يلتق بالأستاذ محمود يوما، ولم يعاصره، فعندما أعدم الاستاذ كان هو طالبا صغيرا بالمدرسة، ولم يبدأ بحثه الجاد في سيرة محمود محد طه وأفكاره إلا وهو على أعتاب التخرج من الجامعة في منتصف التسعينيات. علاقته بالأستاذ وأفكاره تخلو إذن من التعلق الشخصي أو الانبهار بالتعامل المباشر، بل من خلال القراءة والبحث والاستماع للمحاضرات المسجلة، والنقاش مع كثير من تلاميذ واصدقاء الاستاذ محمود. هذا كتاب يستحق القراءة، وهذا الكاتب يستحق الانتباه له ومتابعته، فمشروعه الفكري والثقافي قد بدأ، وما زال في جرابه الكثير. [email protected]