(المتاريس التي شيدتها هاتيك الجموع) لعلي لا أبالغ كثيراً إذا زعمت إنني مفتون بقراءة التاريخ ولا سيما تاريخ السودان ، حد العشق , للدرجة التي أتمثله أحياناً في مسروداتي !!؟..... في بعض الوقائع التاريخية ، ثمة أحداث تدعوك في إلحاح لإسقاطها على واقع الحال !!!؟؟....... مستلهماً في ذلك مثلاً الثورة المهدية من خلال هذه النصوص:- ( البوابة . السيف والدرقة. حاضرة ) وكذلك ليلة المتاريس تكرر ذكرها في أكثر من نص بإعتبارها الحدث الذي وشم إسمه عنوة في جدران تاريخ السودان الحديث ، بحسب رؤيتي طبعاً ......... لما لها من فاعلية في إجتراح حيز مكاني على صفحات تراكم الوقائع التاريخية ، التي صنعت مجداً غير مخبوء !!؟........ لشعب أراد أن يحمي ثورته الوليدة من سدنة العسكر المتربصين والمترصدين لوأدها بليل !!؟.... كما تبادر لذهن الشعب السوداني وهو لا زال يتلمز مذاق إنتصاره على أول حكم عسكري ، إغتال فجر إستقلاله !!؟....... منذ الوهلة الأولى. * * * قبل ما يقارب من نصف قرن ..... كنت وقتها أقطن مع خالي "د. عبدالقادر مشعال" عضو المكتب السياسي في حزب الشعب الديموقراطي ، بحي المقرن ... قبل أن ننتقل لاحقاً الى حي نمرة "2" لنجاور "يحي الفضلي" و "أحمد سليمان" و على مقربة منا كان يقطن الشيخ "علي عبدالرحمن" بمنطقة السوق....... كان موقع منزلنا في حي المقرن يوازي مرسى الأسكلة .... إحدى مراكز تجمع المواطنين الذين أتوا من كل حدب وصوب ، يحملون أرواحهم قرباناً لمحراب ثورتهم التي لازالت تتخلق في رحم أحلامهم الطامح في غدٍ نبيل و مشرق!!؟..... أثر سماعهم للخبر الداهم. كان صدى صوت" فاروق أبو عيسى" ، يكاد يخرق طبول آذاننا من خلال بث إذاعة أمدرمان ( إن هناك إنقلاباً عسكرياً على ثورتكم ، مناشداً الجماهير أن تخرج لحمايتها ) !!؟..... كنا و نحن نتقاطر صوب منطقة الأسكلة لإغلاق شارع النيل المؤدي الى كوبري النيل الأبيض ، المفضي بدوره الى أمدرمان حيث الإذاعة والتليفزيون ( طلاباً وعمالاً وموظفين و كافة شرائح المجتمع السوداني الحادب على ثورة أكتوبر الأخضر ... أغلى أمانينا المُحققة !!؟... كانت كل هاتيك الجموع تعمل كخلية نحل في تكديس الحجارة وجذوع الأشجار و الفلوكات المعطوبة ونحن الطلاب جعلنا من أجسامنا دروعاً بشرية نسد بها الثغرات لبناء حائط صد صلد ، يمنع دبابات الإنقلاب العسكري من العبور ( ولعل عبارة دروع بشرية في ذلك الوقت لم تكن شائعة الإستعمال ، فنحن كنا نستخدمها فعلاً عملياً وليست لفظاً نظرياً ...) (مصطلحات نمارسها و لا نفهم دلالتها"!) كنا جميعاً مدفوعين بحماس منقطع النظير ، ولا سيما نحن الطلاب الذين لا زال وعينا بمعاني الوطن والحرية والعدالة الإجتماعية والإنعتاق من براثن التقاليد البالية والديموقراطية والوطنية والإنحياز للطبقة العاملة والفقراء والمهمشين ..... في بداياته الأولى ولم يستكمل بعد !!؟. كانت نظرتنا لهذه القضايا الكبرى من خلال منظور أحادي ، ثمة خياران فقط في هذه الدنيا لا ثالث لهما( يا أبيض ، يا أسود !!!؟؟..... ). أما التوسط والإعتدال فلا وجود لهما في حياتنا بصورة قاطعة و نهائية !!!؟؟... أياً كان الأمر ، شأناً خاصاً أو عاماً..... ولعل "ليلة المتاريس" تلك التي شيدناها بالحجر والمدر وبأجسادنا الفتية ، كانت علامة فارقة وعنواناً صارخاً لشباب ذلك الجيل المستعد دوماً للفداء في سبيل الحفاظ على حلمه في تشييد وطن الخير والعدل والجمال والمساواة !!!؟؟..... * * * الأستاذ " كمال الجزولي " في مقاله عن "ليلة المتاريس" المنشور في صحيفة الراكوبة الإلكترونية ... في ذكراها التاسعة والأربعين ، حاول أن يرصد من خلال شهادتي الأستاذين "شوقي ملاسي وفاروق أبو عيسى" الظروف و الملابسات والأسباب التي حفزت هاتيك الجموع لتشيد متاريس تلك الليلة !!؟...... مستهلاً مقاله بعنوان جانبي "صمت الصدور" ، ثم مشيراً الى "المخض العنيف" !!؟... الذي أعقب ثورة أكتوبر ، متمثلاً في "ليلة المتاريس" التي صمت عن ذكرها كل الشعراء سامقي القامات الذين صدحوا بأكتوبر الأخضر طويلاً، وتغنى بها كبار الفنانين الذين ملأوا الدنيا و شغلوا الناس بها ، دون الإشارة إلى " ليلة المتاريس " و لو تلميحاً في أشعارهم .. وأغانيهم كما فعل صديقي اللدود الشاعر الثائر أبداً "مبارك حسن الخليفة" و الفنان الكبير "محمد الأمين"... بنشيدهما .... اليتيم "ليلة المتاريس " ....... و كنت و الشاعر "مبارك حسن الخليفة" قد أقمنا سوياً في أرض السيعدة ردحاً من الزمن ، أظنه لا زال هناك ............. كان هو في عدن وأنا في صنعاء ، ظللنا نسود قنوات النشر في اليمن طوال عقدين من الزمن ، شعراً و سرداً عن الوطن ومآلاته آملين أن يزيل الشعب السوداني عنه هذا الكابوس الذي جثم على صدره دهراً ، دون أن يحرك ساكناً ، و هو مفجر ثورتي ( أكتوبر وإبريل ) .... اللتان سبقتا ثورات الربيع العربي بعقود من السنين كما أن ثورة أكتوبر ، سبقت مظاهرات الطلاب في فرنسا !!؟... و هاهو الأستاذ " كمال الجزولي " يستثير فينا ، محرضاً نوازع البحث عن تاريخنا الماجد ، ولا سيما الحديث منه ... لنقلب في صفحاته ونستقطر منه دوافع إجتراح مواطن ( الخير والعدل والجمال والنبل ) من أجل إستقامة مسيرتنا صوب غد مشرق ونبيل !!!؟؟...... ولعل الأستاذ "كمال الجزولي" مرة ثانية وعاشرة ، قمين برصد تفاصيل وقائع هذه "الملحمة" ، ليس فقط من خلال المشاهير ، بل أيضاً من خلال إفادات سواد عامة الثوار الحقيقيين الذين صنعوا هذه الليلة بطاقاتهم الجامحة وبعرقهم و أجسامهم الفتية ودمائهم الزكية (المتاريس التي شيدتها... في ليالي الثورة الحمراء ، هاتيك الجموع، وبنتها ، من قلوب و ضلوع ، وسقتها ... من دماء ودموع ، سوف تبقى شامخات في بلادي ...) هؤلاء الذين عناهم الشاعر هم مصدر المادة الغنية التي يستطيع الراصد أن يستبطن منهم ( ذبدة المخض العنيف ). و "صمت الصدور" . من خلالهم فقط يمكن أن نوثق لتلك الليلة !!!؟؟... وبعيداً عن نظرية المؤامرة !!!؟؟..... هل هناك مؤامرة صمت تحاك ضد أمجاد تاريخنا الباذخ ؟ ( منطقة كوش ، "أصل الحضارات الإنسانية" وعلى الرغم من أنها ، موثقة ، في كتاب ، بذات العنوان ، من قبل عالمة آثار فرنسية ... ، لا أحد يتحدث عنها ... مملكة الفونج وطمس معالمها ... عن طريق بناء خزان سنار .. ولا أحد يتساءل أين ذهبت تلك الآثار !!؟... و هاهي "ملحمة ليلة المتاريس" تتوارى خلف الغيوم على الرغم من حداثة وقوعها ) !!!؟؟..... لو لا الأستاذ " كمال الجزولي "وأمثاله من القلة النادرة !!؟.... فيصل مصطفى [email protected]