من المعروف والمعلوم أن النوبة هم أول الشعوب التي رسمت ملامح الحياة الحضرية والحداثة والتطور في دولتي السودان ومصر ،وتقف الأهرامات وحضارة مماليك ( المقرة،علوة والنبتة) خير شاهد،ولعب ملوك النوبة الأوائل ( كاتشا،بيانخي،شبتاكا) بجانب أماني ريناس وأماني شخيتو أدوار في الحياة السياسية السودانية لا يمكن تجاوزها أو إنكارها. وعندما نتحدث أن هذا التاريخ المشرق لا يعني أننا أستنجد بالماضي،ولكن نود أن نسلط الضوء علي بعض الظروف والملابسات التي عاشها ومازال يعيشها شعب النوبة. ان الشعب النوبي له ميزات وخصائص مثلما لاي شعب آخر خصائصه،فالنوبة كما وصفهم الباحث البريطاني دكتور ناديل الذي أجري دارسة علمية في 1947م، هم شعب يتمتع بمزايا الصبر وقوة التحمل والطاعة والكرم وحسن النوايا ومعاونة الضعيف وإكرام الضيف ويميزهم عن بقية شعوب السودان الأستبسال والشراسة في القتال،الا أن هذه الخصائص جلبت لهم المعأناة التي يعيشونها الان،فكل المستعمرات ( أتراك،مصريين،أنجليز) وكل الأنظمة السودانية (المهدية،الازهري،عبود،نميري،الصادق المهدي،البشير) أستغلوا هذه الصفات ووظفها لحماية سلطتهم المركزية القاهرة والمزلة للشعوب بما فيهم شعب جبال النوبة. وعند مجئ الغازي أسماعيل باشا للسودان في العام 1821م قال عبارة مشهورة مازالت انظمة الخرطوم تستخدمها حتي يومنا هذا ( أنني حضرت من أجل الحصول علي رجال سود أشداء شجعان ينقادون لأسيادهم بسهولة)،ومن وقتها تم تقسيم السودان الي أحرار وعبيد،وجاءت المهدية في 1885م وأنتهجت نفس السياسة وذات الطريق رغم الشعارات الزيف التي كان يرددها محمد أحمد المهدي،ومن بعدهم أت الأنجليز وحاول تجمّيل وجه النظام المشوه وأصدر اللورد كتشنر باشا مرسوماً يقضي بإلغاء تجارة الرقيق ولكن بصورة تدريجية مدتها 23عام،حتي لا ينهار الأقتصاد السوداني،وعندما جاء موعد تنفيذ القرار والقضاء بشكل نهائي علي تجارة الرقيق أصدر كل من ( عبد الرحمن المهدي،علي الميرغني،الشريف الهندي) مذكرة إحتجاج يرفضون فيها تحرير الرقيق وقالوا " اذا تم تحرير الرقيق فمن الذي يخدم في الزراعة ومنازل السادة وأن الرجال "العبيد" يميلون الي الكسل ويرتادون دور الخمرآما النساء " العبيد" فيمارسن الدعارة، والأفضل أن يتم الاحتفاظ بهم عند ملاكهم لضمان أستمرار الإنتاج) هذه العقلية الأستعلائية مازالت موجودة لدي أبناء هؤلاء التجار حتي يومنا هذا. رغم هذا الأستخدم البشع لشعب جبال النوبة من قبل كل الأنظمة حتي بعد خروج الانجليز لم يتم تقديم اي نوع من الخدمات في منطقة جبال النوبة وتم حصر الخدمات التعليمية والصحية والبنّي التحتية في مناطق الشمال الجغرافي والجزيرة، ونجح " الجلابة" في تعليم أبنائهم بمساعدة الانجليز وتم توظيفهم في مؤسسات مثل ( السكة حديد،مشروع الجزيرة) حتي يتمكنوا من نهب موارد السودان ولولا الارساليات لما تعلم أحد من أبناء النوبة حتي منتصف الاربعينيات، وعند "سودنة" الوظائف في اعقاب خروج الأنجليز لم تمنح مديرية جبال النوبة وظيفة واحدة من جملة (800) وظيفة تمت سودنتها، والأمر لم يقف عند الظلم والتهميش السياسي فقط بل تمدد التهميش ليشمل الثقافة والدين والجغرافيا والأقتصاد ،ونجد أن معظم الاحزاب السودانية سعت منذ تأسيسها الي وضع دستور عقائدي وأعلان أن السودان دولة أسلامية عربية في إقصاء متعمد للمكون الثقافي والأثني والديني للسودان. وتدور عقارب الساعة للوراء مرة ثانية ويأتي نظام المؤتمر الوطني " الاسلاموعروبي" ويحاول جاهدا إسترقاق شعب جبال النوبة عبر سياسة القهر والإضهاد وإعادة الانتاج وعندما فشل في ذلك ،ذهب مباشرة الي حملة الإبادة الجماعية، ففي العام 1992م أعلن اللواء الحسيني عبد الكريم حاكم كردفان الجهاد علي شعب النوبة وقاد حملات إغتيال واعتقال واسعة ضد المتعلمين من أبناء وبنات النوبة وتهجير قسري الي المدن وفتح ما يسمي ب ( معسكرات السلام) لإعادة الانتاج بالقوة،بينما شنّت القوات المسلحة مدعومة بمليشيات القبائل العربية هجوم علي قري جبال النوبة وتم حرق المنازل والمواد الغذائية ونهب الابقار وخطف أطفال والذهاب بهم الي الابيض وأدخالهم "الخلاوي" بالقوة، ومن فر منهم الي المدن الكبيرة شمالاً أصبح ينظر لنفسه بشكل من الدونية واصبحت كلمة "نوباوي" مترادفة ل ( السب وعار). وحتي تنجح الأنقاذ في سياسة تغبيش الوعي شاركت عدد من أبناء النوبة الانتهازيين في حكوماتها أمثال ( أبراهيم نايل ايدام، مكي علي بلايل، كبشور كوكو،سومي زيدان،باب الله بريمة ، عفاف تاور،خميس كجو...إلخ)،بينما عاش شعب النوبة ضنك العيش وأصبحت مشقة البحث عن لقمة عيش ودواء وكساء هي مجمل الهموم الاسرية. قفل النظام كل أبواب التعليم في وجه أبناء النوبة يتجهوا مباشرة الي الجندية ( الجيش، الشرطة، الأمن) ويدفع بهم النظام الي مناطق العمليات، حتي الكلية الحربية بعد أشتداد العمليات العسكرية في الجنوب أصبحت متاحة بشكل كبير لأبناء النوبة وكل دفعة تجد ما يقارب ال (50) ضباط من أبناء النوبة معظهم يموت قبل أن يصل الي رتبة " النقيب". وفي ظل هذه الظروف يبرر البعض وجود أبناء النوبة في جيش النظام،ويعزز تبريراته بأن النوبة يحبون الجندية ولهم تاريخ منذ دخولهم بكثافة في قوات دفاع السودان ( نواة القوات المسلحة)،لذلك يصنفهم بأنهم " مجبورين " في الإلتحاق بالمؤسسة العسكرية الأحادية التي تقتل وتغتصب المواطنين العزل منذ تأسيسها حتي الان. وفي تقديري مهما تكن المبررات والدوافع فأن بقاء أبناء النوبة حتي الان في جيش النظام ومؤسساته الأمنية يعتبر خيانة عظمي للقضية والمنطقة والشعب،فالنظام منذ مجئيه السلطة أستهدف شعب جبال النوبة وشن حملات عسكرية واسعة النطاق في الحربين الأولي والثانية مستخدماً كافة أنواع الأسلحة بما فيها المحرمة دولياً،أضافة الي أستخدام سياسة التجويع ومنع قوافل الإغاثة للوصول الي مناطق المتضررين،وفي السابق أصدر علماء الدين الأسلامي فتاوي بمدينة الابيض تكفر شعب النوبة وتهدر دمه وتبيح نسائه وأمواله. لذا لا أري أي مبرر أخلاقي لوجود أبناء النوبة في جيش النظام، وبقائهم يعتبر خيانة تاريخية،و سنحاسب من أصر علي البقاء بعد اليوم فهم أصبحوا جزء من النظام "متجبرين" وليس "مجبورين"،وهنا لابد من الإشادة بعدد كبير من الضباط وضباط الصف والجنود من أبناء النوبة الغيورين والوطنيين الذين تركوا مؤسسات النظام وأنضموا للجيش الشعبي لتحرير السودان وأصبحوا الان قادة مقاتلين من أجل الحرية والعدالة والمساواة،وستظل بوابة الجيش الشعبي مفتوحة لكل صاحب ضمير حي. والنصر للجماهير ودمتم. [email protected]