تركيا هي النموذج الذي يضرب به الإسلاميون المثل لدولتهم الدينية (الإسلامية) المزعومة، كون ان حزب العدالة والتنمية التركي، الإسلامي الجذر، يقود تركيا منذ عقد من الزمان بحيث صارت فيها أكثر تقدما سياسيا وإقتصاديا. ولا يستطيع أحد أن ينكر هذا النجاح والذي سببه قالب دولة القانون والمواطنة والديمقراطية وليس بإطلاق هم الإسلاميون. فالإسلاميون يتناسون عمدا هذا العامل المهم والذي هو أن تركيا في الأساس دولة تقف على مسافة متساوية من مواطنيها بمختلف أديانهم، وهذا ما ضمن عدم إنتهاك الغالبية لحقوق الأقلية. فالمهم ليست الأحزاب ولكن "قالب الدولة" الذي يحقق العدالة السياسية بالمساواة الحزبية بين مختلف الأحزاب الوطنية. فتركيا ليست دولة دينية كما يؤكد رئيس وزرائها، ورئيس الحزب الإسلامي، بذات نفسه، بأنه رئيس مسلم لدولة عالمانية. لذلك فهي تختلف عن الدول التي تقول إنها إسلامية صرف. إذاً تركيا تختلف عن ما يتوهمه الإسلاميون كنموذج لهم لدولة إسلامية كونها دولة عالمانية. و سأعطيك مثالا بسيطا آخر في الإختلاف. ففي إحتجاجات الفيلم المسىء حدث عنف مفرط في البلدان التي تدعي بأنها بصريح العبارة إسلامية ولم تحدث فى تركيا بنفس الصخب والصراخ!. فالبلدان التي تقول إنها إسلامية تتخذ مثل هذه المناسبات وتستغلها لإحداث ضجيج واسع لإشغال الناس بعيدا عن مشاكلهم السياسية والإقتصادية، و ليوهموا المسلمين، الذين تقمعهم، بأنهم حماة الدين. فيلتف من يخدع بهذا حولها من جديد. ويندعر من يثير الشغب منهم ليكسر السفارات ويحرق أعلام الدول. وبعد يومين ثلاثة ترجع الأمور مثلما كانت. ولأن هذه الحكومات تعيش بالعداوة تستمر الحملة بتحقير كل الفكر الغربي والحداثة والعولمة واليهود وإسرائيل، وينصبوا هذا العدو الوهمي من جديد لتجارتهم، و وعد الزبائن الكرام بقيام دولة إسلامية على نهج السلف الصالح تنتصر على الروم، كما كان في سالف العصر والزمان. على عكس إسلاميون تركيا الذين مارسوا السياسة في قالب الدولة العالمانية والتي أعطتهم فرصتهم في الحكم. ولكي يصلوا لذلك، قاموا بتعديل خطابهم الداخلي مع أنفسهم والجمهور، ليركزوا على الثوابت الوطنية للدولة التركية، ومنه غيروا خطابهم الخارجي أيضا لتقديم نموذج متصالح مع العالم والحياة العصرية فى الوقت ذاته وفق المعايير العالمية، ومنه صعد نجمهم في السياسة الدولية. وبذلوا مجهودات لدخول الإتحاد الأوروبي، ولهم تعاون ظاهر للكل مع كيان العدو الإسرائيلي. فقد أدركوا مبكرا أن الطريق إلى قلب العم سام يمر عبر معدة تقع في قلب الشرق الأوسط. ظلت تركيا تحت قيادة الإسلاميين دولة عالمانية وتقدمت كنموذج فى التنمية الإقتصادية والديمقراطية، ودولة قانون ومؤسسات، تضبط ردود أفعالها فى الحيز القانوني والمصلحة العليا للبلاد، ولا يتوقع شعبها أن يأخذ قادتها السياسيون قرارا مستندين إلى تفسير نص دينى، ولا أن يبنى قادتها تحالفاتهم الخارجية والعسكرية -كعضوية حلف الناتو- بناء على ظاهر عقيدة الولاء والبراء. و هذا فارق مهم بين أحزب ذى جذورإسلامية تنشأ وتعمل فى دولة مؤسسية عالمانية، وبين إسلامية أخرى تنشأ في قالب دولة لا تعرف ماهية شكله، فتعمل السبعة وذمتها. فأعضاء الأحزاب الإسلامية يظنون أنهم وكلاء الله على الأرض، ليقيموا دولة مقدسة تحمي أعضاءها دستوريا وتتجاوز مؤسسات الدولة إرضاءا لرجال الدين، وخضوعا لإبتزاز الأحزاب والجماعات الدينية. وفي النهاية يؤدي ذلك إلى تشويه صورة الدين بأناس يدعون تمثيله، وفقدان الوطن بوصلة السير لمصلحة الوطن والمجتمع ومن ثم وقوعه في هاوية التفاسير الدينية على الأهواء للمكاسب الشخصية والدنيوية الضيقة. سارت تركيا على نهج دولة القانون ولكنها في الآونة الأخيرة تراجعت بسبب "التمكين" بإستمرار حزب العدالة والتنمية لأكثر من عشر سنوات في الحكم. فظن الإسلاميون بهذا التمكين الإستقواء. فقاموا بتدخلات كثيرة في الشؤون الخارجية لتسقط عن قادة بعض إسلامييها الأقنعة الزائفة وتبرز نفس مشكلة الأحزاب الإسلامية من إستعلاء وعدم الإكتراث لمقدرات الوطن، وإكساب انفسهم قدسيات زائفة لشخوصهم، يخلقوا بها محميات فساد ظاهرها الوطنية وباطنها من قبلها الخيانة. فقد هزت قضية الفساد السياسي والمالي التي إكتشفت مؤخرا في تركيا أركان كيانهم. فبدأت تخرج من كهوف الظلام عمليات ل "تبييض أموال"، و"تهريب ذهب"، و"قضايا فساد"، طالت عددا من رجال الأعمال المعروفين، وموظفين حكوميين بارزين، وأبناء وزراء، مما ستؤثر كثيرا على منجزات الإسلاميين. فقد طالب المتظاهرون بتقديم حكومة حزب العدالة والتنمية برئاسة رجب طيب أردوغان لاستقالتها ومثول عدد من الوزراء أمام القضاء. وأعتقد ان تركيا ستجتاز هذه الأزمة لا بسبب نزاهة الإسلاميين ولكن بسبب عالمانية دولة القانون التي يتساوى فيها المواطنون جميعا، وينتف فيها ريش أجعص الصقور وينزع فيها من القطط السمان والبقر الحلوب دسم القدسية. فلا تهمنا تركيا ولكن يهمنا السودان. فالدرس المستفاد هو أن تحديد قالب الدولة أهم من التجادل في إنتقاد وماهية الأحزاب. قالب الدولة المثالي الباب الذي يجب أن يسد ليتهيأ مناخ سياسي شفاف يتولد منه جو عدل ومساواة ينتفي فيه الفساد السياسي، الذي يأتي منه كل الريح. [email protected]