-1- بعد أن أخذ عثمان كنيك العائد من السفر جولته للسلام على الأهل فى حلتى الهمامين وكبوشية دلف، بأتجاه طاحونة الحسن عود والتى تقبع جاثمة أعلى التل الرملى على حافة خور كبوشية من الجهة الغربية وأراضى الهمامين من ناحيته الشرقية، فى عصرية ذلك الأثنين قصد عثمان كنيك الطاحونة لملاقاة الحسن عود وإخباره بأن الصبايا سيأتون نهار الثلاثاء محملين عيوش القمح والذرة على ظهور الحمير لتدقيقه لمناسبة البوش( العرس) الذى يريد إقامته يوم الخميس لتأهيل إبنه البكر إدريس وزواجه من الصبية عفاف بت عشمانة،، لم ينسى عثمان كنيك تذكير ود عود بأن أخته بت عجيب سوف ترافق الصبايا حتى تقف بنفسها على الطحين وتدقيقه جيدا، سر حسن عود بما سمع من أخبار سعيدة متمنيا تمام الفرح على خير، لكنه ضحك مخاطبا عثمان كنيك: كله هين بس مالك علي ياخوى..؟ إنت لو لميت أختك دى عليك وتركت الصبايا يأتون لوحدهم كل شىء بتسهل، خلينا من بت عجيب دى وغلبتها ياخى...!! الجميع فى البلد يعرفون بت عجيب ودوشتها لكنه المستحيل بعينه أن يستطيع أحد أن يثنيها عن شىء قررت فعله، وهذا زواج ود أخوها وهى الكل فى الكل...!! يسبقها صخبها وتهريج غناها الذى لامعنى له والذى إختلط بنهيق الحمير التى تتسارع بجانبها،أسرعت بت عجيب الخطى إلى طاحونة الحسن عود وقد حمل الصبايا محمد عثمان كنيك، خالد عثمان كنيك، عبدالرحيم الفقير، الفاتح صبار، جعفر عبدالوهاب وعادل عبدالعزيز طاهر حميرهم حمولة ثلاث جوالات من القمح وجوالين من الذرة موزعة فى أكياس على ظهور الحمير، 70 قيراطا من القمح والذرة موزعة فى أكياس على حمير الصبايا،، أصرت بت عجيب على الذهاب إلى الطاحونة والوقوف بنفسها على تدقيق القمح والذرة وتجهيزه إستعدادا للفرح الكبير، كل هؤلاء الصبايا الذين حملوا أكياس القمح والذرة لم يقنعوها ولم يثنوها عن عدم الذهاب والبقاء بالدار، فقد عزمت على مرافقتهم وبالتالى مشاكسة الحسن عود والصبيان اللذان يديران حركة الطاحونة على المصرى ومحمد طه....!! وصل الصبايا ألى الطاحونة يسبقهم نهيق حميرهم وبت عجيب راجلة خلفهم، حيث لا دوار لسير الطاحونة ولا حراك لماكينة الطحين ولا شىء سوى صبايا من قرية مسيكة المجاورة وضعوا أكياس طحينهم على المسطبة المخصصة وربطوا حميرهم على جزوع شجر الطندب والعشر التى تتكاثر على التل الرملى ثم جلسوا بعيدا يتسامرون وهم فى إنتظار اللاشىء، لا وجود للحسن عود ولا عين ترصده من البعاد القريب فجن جنون بت عجيب، عندها أخذت تشخط وتنطر وتخاطب المجهول ولا مجيب لزعيقها الذى أفزع طير المقيل المتكاثف أعلى النيمة العتيقة أمام الطاحونة، فطار محلقا عاليا وتفرق فى البعاد...!! بعدهاأخذت بت عجيب تدور حول مبنى الطاحونة إلى أن أرتأت ناحيته الشمالية من الخلف حيث حوض التبريد فوجدت على المصرى لازال يملأ الحوض بالماء،، عندها كالت عليه جام غضبها وما أعتصرته فى دواخلها ولعنت سنسفيل سرواله وفنلته الداخلية اللتان أرتداهما وهو يملأ حوض التبريد، حيث أردفت وهى تهرشه: (( أها يا العمبلوق الفت العرس، إنت لسع قايل نفسك صبى زى جنات الرعية ورا الغنم دارع فنلتك ولباسك فوق ركبك..؟ ما بتخجل إنت..؟ بقيت راجل تااامى كان عرسولك بكرة بتحمل المرة...!! أنا إن ما شكيتك لى أمك ستنا بت خالى محمد على ما أبقى بت عجيب،، يا ظربووون..!!))، لكن على المصرى كما كل الذين يعرفونها بطيبتها وهترشتها فى آن لم يملك سوى أن يبادلها القول بالضحك والسمع والطاعة لما تقول، وهى التى سرعان ما ترجع عن حدتها ثم تبدأ قفشاتها بأخبار الحلال والقادمين من سفر البعاد وغناها الذى لا يلحنه إلا لسانها وتعزفه أوتار مخيلتها، إنها بت عجيب ولا أحدا سواها...!! -2- كل شىء أصبح جاهزا لبدء حركة التشغيل اليومية للطاحونة، ومع وصول محمد طه المعاون دخل على المصرى إلى غرفة الماكينة وأدار محركها فضج صخبها معلنا بدء يوم جديد، ثم أرتدى العراقى الذى كان قد خلعه ليملأ حوض التبريد بالماء، بعدها بدأ الاثنان فى تدقيق العيوش التى تكاثفت وأصطفت فى أكياس على المسطبة، وفى ذات اللحظة تراء الحاج حسن عود راجلا من بيته الذى لا يبعد كثيرا قادما باتجاه الطاحونة، وما أن رأته بت عجيب حتى تملكها السرور وعم وجهها علامات البشر والفرح والضحك بفم فاقر تساقطت جل سنونه بفعل الزمن الضارب بترادف السنوات...!! أتى حسن ود عود إلى طاحونته التى يملكها ويديرها بنفسه هاشا باشا باسم الوجه كعادته التى عرف بها طوال سنوات عمره المديد، عندها قابلته بت عجيب البسمة بضحكة الحال والترحاب الذى لا ينقصه مزيج غناها المختوم ب ( صنع عند بت عجيب )...!! مرددة: (( أهلا بالفنجرى أخوي سيد الرجال، يا المشغل طاحونتك فوق قوز الرمال، تسلم يا الماك بعيد وديمة قنوع مال))، ثم أردفت كعادتها لتخبر بالقادمين من السفر: (( يا الحسن أخوى بكرة قالوا ناس النميرى وناس الديش جايين يحضروا عرس الفنجرى أدريس ود أخوى..!!، قالوا جايين بى لورى المحينى( المحيلة)، ناس النميرى، وعبدالكريم ولدى، وشريفة بتى وناس مدنى، وناس البلالابى ومحمد فرح وميرغنى ود صبار))، وفجأة تتذكر حركة الطحين وعيش البوش الذى تريد طحنه بمتابعتها هى، فأسرعت إلى الداخل تاركة الحسن تحت النيمة التى كانت تحادثه تحت ظلها لتبدأ فصلا جديدا من المشاكسة مع على المصرى ومعاونه محمد طه. دخلت وهى توجه حديثها لمحمد طه الذى يتحكم فى تدقيق العيش: (( هوي يا جنا ستنا أبتور أوعك تمسخ لى عيشى ده، ما ترمى لى عيش القمح ورا الضرة( الذرة)، ده عيش عرس لازم تنعمه شديد، ويانى ترانى حارساك هنى الليلى، شوف شغلك كويس وبطل ظربنتك دى يا ظربووون....!! ثم تردف كلامها وترفسه برجلها فى رجله وهى تضحك بفم لا تظهر منه غير بضع سنون، ولا يملك ود أبتور غير الضحك ومحاولة تهييجها لتثور أكثر........!!)). مع مرور الوقت توافد الكثير من الصبايا وفتيات نواضر بحميرهم يحملون عيوشا من الحلال المجاورة وبعض النسوة يحملن صفائحا على رؤسهن بها عيشا لطحنه وقد كانت فى زمن مضى صفائحا مملؤة زيتا للطهى أو جازا أبيضا أستخدم فى لمبات شريط أو رتاين للأنارة..!! والطاحونة كما السوق لا تخلوا من زحام كثيف فى كثير من الأحيان حيث لا وجود لغيرها فى ذلك الوقت من سبيعينيات القرن الماضى ألا فى قرية قرنتى التى تبعد بعض الشىء عن قرية السرارية فى ريفى أرقو، لذا تجد الصبايا والفتيات والرجال والنساء من كل الأعمار ولا يخلو المكان من نظرات الأعجاب والهيام وتلاقى الأعين فى مجتمع محافظ بعاداته وتقاليده الموروثة، مجتمع تراقب الأعين فيه حركة النظرات قبل حركة الأرجل وحراك الناس فيه. أنهت بت عجيب وصباياها المرافقين طحن عيش العرس الذى بلغ مجمله 70 قيراطا من القمح والذرة موزعة فى أكياس بتكلفة 140 قرشا أى بواقع قرشين لطحن القيراط الواحد، أبو قرشين( فرينى)، أحضر الصبايا حميرهم المربوطة ألى جزوع شجر العشر بالخارج وحملوا الدقيق على ظهورها، فى الوقت الذى كانت بت عجيب تحادث الحسن عود تحت النيمة لتدفع المعلوم نظير الطحن، أخرجت جزلانها المعلق بتميمة فى رقبتها ومتدليا تحت جلابيتها ألى الأسفل، فسحبت منها واحد جنيه على ظهره رسم جملا وعلى ظهره الآخر طبعت صورة أبوعاج النميرى، تنظر أليه ثم أردفت تغنى: (( سمح النميرى الجايينا البلد باكر، سمح النميرى قايد الديش والعساكر))، وضعت الجنيه على فمها ثم أخذت تخرج الفكة من جزلانها المربوط فى رقبتها لتحسب 40 قرشا أضافية،، وعندما ناولت قيمة الطحين للحسن عود أرجع لها الفكة ما قيمته 40 قرشا ولم يأخز سوى جنيها واحدا ثمنا للطحين متمنيا تمام العرس على خيروالذى وعدها بحضوره ومشاركته فيه بنفسه وماله أيضا،، -3- سرت بت عجيب وهى تعرف حسن عود أخو البايتات بكرمه ولطفه والذى ما هماه المال يوما،، وما الطاحونة والدكان وسعة صدره ومناصرته لأهله إلا خير دليل على ذلك. غادرت بت عجيب وصباياها الطاحونة يرافقها غناها وصخبها وصخب الصبايا حولها الذى إمتزج بنهيق حميرهم كما أتوا أول مرة...!! مالت الشمس معلنة دخول العصر، عندها وصل الصبيان حسنوب يحمل صينية الغداء على رأسه ومعه عوض أبتور يحمل سرميس الشاي من بيت ودعود، أحضرا الغداء والشاى للحسن عود والصبيان المعاونان له بالطاحونة، جلس ثلاثتهم تحت النيمة العتيقة لتناول غدائهم وبعض من الرجال دعاهم الحسن لمشاركته الأكل بينما تابع حسنوب وعوض أبتور حركة الطاحونة بالداخل. تمر حركة الطحين اليومية بالطاحونة بهدوء لكنها لا تخلو فى بعض الأحيان من المشاكسات والمهاترات بين الذين حملوا عيوشهم لطحنها بسبب أولوية الطحن أو حديث هامس هنا وهناك أو فتيات حسناوات جلبن الغيرة فى قلوب يوافع فى مهد الصبا،، غير ذلك فكل شىء يمر بسلام والجميع يجد الحفاوة وحسن المعاملة بوجه باش وباسم من حاج حسن عود. إستمرت الطاحونة تخدم أهل السرارية والقرى المجاورة فى مسيكة ودار العوضة وكمنار وكودى إلى آخر النصف الثانى من السبعينيات، يديرحركتها اليومية صاحبها ودعود ألى أن توقفت فجأة بعد أن قرر صاحبها أن يترجل عن مسايرة العمل اليومى بها ويستريح من تعب السنين الذى أدى رسالته فيها على أكمل ما يرضى ربه برعاية أبنائه وبناته وحسن تربيتهن وتزويجهن،، بعد توقف الطاحونة وثبات سيرها عن الدوران أضطر أهل السرارية للذهاب بعيدا إلى قرية قرنتى لتدقيق عيشهم الشىء الذى دفع أهل البلد على أنشاء طاحونة تعاونية تخدمهم بالقرب وتقصر مسافة الذهاب بعيدا، وكذا فعلت قرى دار العوضة وكمنار وأبتة وكودى فى ريفى أرقو. توقفت طاحونة حسن ودعود عن الدوران كأول صخب لطحين العيش وعينا عليه فى صبانا الباكر، وكأن صوت ماكينتها وجلبة سيرها الذى يتلوى كأفعى السافنا يرن فى أزنى الآن هنا فى هذا البعاد البعيد،،وكأن الرجل الذى يحترم كل كبير ويداعب كل صغير بوجه يملأه السرور وجمال الحضور يداعبنى على هذا الجسر فى زمن الغياب....!! توقف كل شىء عن الحراك، تملص سير الطاحونة وتنكر لماكينة كان يغازل ويداعب أوصالها بميلاد كل يوم جديد، مات الرجل الهميم بطيبته وغابت بت عجيب ورحلنا عن سماحة المكان،، ولم تبقى غير ذكريات الصبا وجمال الناس الذين أحسنوا فينا الوصال،، بقيت النيمة العتيقة شاهدة تسكنها عصافير يتامى وتحلق فوقها شرقا وغربا طيور الرهو ونوارسا بيضاء موسما بعد موسم، بقيت الطاحونة كمبنى جاثم على التل الرملى تسكنه طيورا خبرت غرابة المكان وعزلته، وبقي المبنى ليشهد للزمن روعته ويلقى التحية للذين على الشمال وفى الجنوب، الذين فى الشرق وفى الغرب وليقول لهم بالأمس كان هنا صخبا للجمال فعظموه...!! رحم الله الحاج حسن عود بقدر طيبته التى مشى بها بين الناس وأفضاله وأعماله التى خدم بها أهله والمنطقة. ....أبوناجى.... [email protected]