عند منعطف تقاطع شارع القصر بشارع الجمهورية... تتقارب السيارات حد الإحتكاك ... يتمدد جسم الحركة بطول الشارعين واهناً وبطيئاً ... ضحيج المنبهات يتناوب مع السباب المتدفق من أفواه السائقين !؟. حبيبات العرق تتكور متزاحمة على صفحات الوجوه المقطبة !!؟... أشعة الشمس الحارقة ، ترسل أوارها على رؤوس السابلة ، فيحتمون بظلال أشجار اللبخ الوريفة ... كان " عيد علي "في تلك الأثناء محشوراً في إحدى الحافلات العامة ... يدفع الهواء الساخن بتحريك صحيفته الإثيرة الصادرة صبيحة هذا اليوم ذات اليمين وذات اليسار ... ثم لا يلبث بعد حين ، أن يفردها أمام عويناته ، محاذراً جهد الإمكان ، ألا تلامس أطرافها كتفي جاريه ... تجنباً لإحتجاجهما !... بينما كلا الجارين ضاقا ذرعاً بالزحف السلحفائي لرتل السيارات المتلوي صوب كوبري النيل الأزرق ... يحاولان عبثاً الخروج من براثن أحبولة هذا القفص الحديدي الكاتم للأنفاس !. يكف " عيد علي "عن ملاحقة جاريه و يدفن وجهه بين دفتي الصحيفة ... يمعن النظر في حروف إسمه المحفورة حفراً على بياض وجهها ... فيتخيل له إنه أخيراً قد إمتلك بغيته ، فها هو إسمه الرباعي منشوراً ضمن قوائم المرشحين لنيل قطعة أرض ... لم يبق له سوى أن يقف أمام اللجنة ، وبحوزته أصول المستندات ، ويقسم صادقاً إنه لا يمتلك ظلاً يحميه من صهد الهجير .. قطعاً بل يقيناً إن كل أعضاء اللجنة الموقرة وأولهم رئيسها المبجل ، سيعلنون على الملأ ، أن المدعو " علي عيد " أجدر المرشحين بأحقية الحيازة !!؟... ترجل من الحافلة وقد غطى رأسه بصحيفته الأثيرة !!؟... على مشارف جامعة الخرطوم ، توقف تحت مظلة بائع سجائر وحلوى وأشياء أخرى ، بغرض شراء بعض ما يدخل الفرحة في نفوس أبناء أخته التي إغترب زوجها الى ليبيا ... وإنقطعت أخباره ، ولم يعد أحد يعلم عنه شيئاً!!؟... * * * " نغمة " خارج وعيه كصورة غائمة بين خطوط باهتة و ظلال معتمة ..... صوتها يأتيه شائهاً ومشروخاً - طال الإنتظار !!؟... - مزيد من الصبر ... - ماذا يجدي الصبر ؟؟... - لا أملك غيره ... - وأنا لا أملك مصيري !!... كوّر " علي عيد " صدى خواطره ورمى بها خارج وعيه ... لكنها ظلت في اللاوعي تحاصره !!؟ تعلق بأحد البصات الكبيرة الذاهبة الى بحري ، بالقرب من المدخل المؤدي الى بري ... لم يبق واقفاً لمدة طويلة .... سرعان ما إقتعد أول فراغ متاح ... حرك حقويه متمهلاً وأراح ظهره على المسند , متنفساً الصعداء ... إمتدت يده عبر جاره الجالس على يمينه ، أزاح زجاج النافذة مع ولوج مقدمة البص مدخل الكوبري ، فإندفع الهواء المخضل برطوبة مياه النيل الأزرق الى الداخل ، فأشتعل فتيل الحركة بين الراكبين وإنفرجت أساريرهم .... ملأ " عيد علي " صدره بالهواء النقي ، و فكر ( ماذا لو منحتني اللجنة الموقرة ورئيسها المبجل ... بقعة أرض قريبة من شريان الحياة ... ماذا لو فعلت ذلك !!؟. ألست مواطناً صالحاً ؟ ومستوفٍ لكل شروط المواطنة الصالحة ؟ أنا لا أتوانى في أداء واجباتي ، وبالتالي ينبغي أن أحصل على كل حقوقي ... إذن أنا لا أنتظر منحة بل حقاً واجب النفاذ ... لم يمكث البص طويلاً بين أنفاس النيل ، فسرعان ما غشيتهم مرة أخرى أشعة الشمس بإوارها الحارق ، فتسارعت الأيدي صوب النوافذ الزجاجية لتصد بها رياح السموم قبل أن تتلظى بها الوحوه . عند توقف البص في محطة البوسطة ، تدافع نحو بابه المغلق رهط من المنتظرين ، والكمساري بجسمه الضئيل ، يضغط عليه حتى يسهل مهمة الهابطين ، ولكن عبثاً !!؟... فقد تصادموا مع الصاعدين ... شق البص طريقه في تعثر وسط زحمة الراجلين والباعة الجائلين صوب نقطة المنتهى دون توقف عبر المحطات المتقاربة ... هبط " عيد علي " مغسولا بالعرق ، و قبل أن يستعيد طاقته المفقودة ، تذكر أن عليه أن يركب وسيلة مواصلات أخرى حتى يصل الى حيث يسكن في أقاصي آطراف المدينة !!؟... أسند ظهره على خلفية " كشك" بائع الفواكه ، ويداه تفردان دفتي الصحيفة فوق رأسه لتصنعا منها مظلة واقية !!؟... * * * ولج غرفته وجدها نظيفة ومرتبة كعادة شقيقته دائماً تقوم بهذه المهمة حينما يكون خارج المنزل وهو يحفظ لها هذا الجميل يهتم بأبنائها في غياب والدهم ويحاول جاهداً أن يلبي إحتياجاتهم . خلع ملابسه ... علقها على المشجب بجانب السرير إرتدى جلباباً قصير الأكمام أراح جسده المنهك على الفراش إمتدت يده الى الصحيفة فردها أمام وجهه ... غرس عينيه في نتوء حروف إسمه المتوهجة بلمعة الحبر الأسود ( عيد على عثمان محمدين ) همس لنفسه ( هذه الخطوة الأولى في الدرب الطويل والشائك للحصول على الأرض الموعودة ) !!؟... الآن يذكر المشاق والمعاناة اللذين تكبدهما في سبيل إستكمال المستندات المطلوبة حتى أصبحت جاهزة لتقديمها لمكتب الأراضي ... إكتنز الملف بالأوراق( صورة من الأورنيك السابق ، شهادة من مجلس الحي، وأخرى من مجلس المدينة ، وشهادة إقامة وشهادة مواطنة ، والأورنيك الجديد ، وأوراق لا حصرلها ، فضلا عن شهادات لأخته وأطفالها بإعتبار أن و الدهما غائب لا يُعرف عن مصيره شئ !!؟.... و "عيد علي" هو العائل الوحيد لهم و مستندات أخرى تؤكد إنقطاع الزوج الغائب عن العمل لعدة سنوات و أشياء أخرى !!؟.... أعقب ذلك إنتظار طال و تمدد بلا حدود وأخيراً جاء الفرج محمولاً على متن هذه الصحيفة ... الآن صار الشك يقيناً !!؟... لم يعد الحلم وهماً !!... لحظتها سنرتاح من جشع ملاك العقار و لؤمهم اللزج ... سوف أحقق الحلم " الحديقة "الهاجس الذي ظل يُورقني طوال حياتي ... و أبناء شقيقتي يلعبون و يتنططون بين أشجار الجوافة و الليمون و الأزاهير و الورود والنافورة الصغيرة و أيضاً أبنائي من "نغمة" بمشيئة الله ، سيتعلمون المشي و يجرون و يتمرجحون وسط النجيل السندسي !!؟..... يالسعادتي بحديقتي الغناء !!؟..... * * * حينما يلتقي " نغمة " في الأماسي الحالمة ، كانت تداعبه وهي تنطق إسمه هامسة "عيد علي" !!؟.... - ألا ترى إن إسمك خالٍ من الإيقاع - يبدو إن إنتسابك لمعهد الموسيقى و المسرح ، سيجعل حياتنا مدوذنة !!؟....... ثم إنفجر ضاحكاً !!؟... - جميلة مدوذنة هذه ، أليس كذلك ؟ - ليت إسمك كان " علي عيد " وليس " عيد علي " !!؟.... - حتى يتماهى مع إسمك " نغمة حامد " أليس كذلك ؟... - ربما ... ثم مردفة في يأس - متى يتحقق الحلم المستحيل !!؟.... تذكر " عيد علي " هذا الحوار مع "نغمة" و هو يعد نفسه لإبلاغها بالخبر الحلم فكر متسائلاً ( كيف تعلن خبراً سعيداً؟ و كيف تجعل منه مفاجأة ..! لقد كاد ينسى الطريقة المثلى التي يتشكل من خلالها توصيل مثل هذه الأخبار المفرحة !!؟... أي حياة هذه التي تبهت فيها المُفاجأة و تموت بها الدهشة مشنوقة !!؟...) في صبيحة اليوم التالي و هو يوقع على دفتر الحضور و الإنصراف ، صدمه صوت زميله في العمل قائلاً - قطع الأرض المتاحة واحد على عشرة ، بالنسبة للمرشحين !!؟... فيصل مصطفى [email protected]