المتابع للأحداث الأمنية والجنائية بالبلاد ، يلحظ بوضوح شديد ارتفاع ثيرمومتر الجرائم المرتكبة بواسطة أفراد من القوات النظامية ، وأصبح ضلوع هؤلاء الرجال في مستنقع الجريمة الآثن مبعث حسرةٍ وتندرٍ بين عامة الناس ، بحسبان أنَّ الدور المفترض والمنتظر من هذه الفئات هو حفظ النظام ، ومكافحة الاجرام وبث الطمأنينة وسط المجتمع ، وبسط العدالة والأمن مع الابتعاد عن مواطن الشبهات . باتت خيوط الانفعال والدهشة تتلاشي رويداً رويداً من أذهان المواطنين ، عند سماع خبرٍ بارتكاب نظامي لجريمة ما ، بقناعة مقتضاها أنَّ هذا النظامي ، ليس سوى عضوٍ في مجتمع صار جاذباً لهواة الصيد الاجرامي ، بسبب الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الداخلية الحرجة ، وبسبب الفساد المستشري في أوساط أهل السلطة الأمناء على المال العام بالافتراض. لم يعد النظاميون الجانحون أنفسهم يتضجرون من النعوت المسيئة ، التي تطلقها عليهم وسائل الاعلام أو السابلة من الناس ، من شاكلة الفاقد التربويّ ، أو المنحدرين من سلالات المفسدين في الأرض ، أوالقادمين من فئات المهمشين الحاقدين على المجتمع ... وأنهم ... وأنهم .. الى آخر النعوت الصعبة القبول . بمرور الزمن وباندفاق أفعال الشر ، وانهمار أمطارها التي لا تعرف صيفاً أو شتاءً ، تصالح الناس مع أخبار الجريمة النظامية ، وباتوا لايسألون ربَّهم رد هذا النوع من القدر الفاجع ، ولكن صاروا يسألونه اللطف فيه ، والتخفيف من غلوائه ، ولذا فقد نفذت طعنة نجلاء لقلب المجتمع المحافظ . قبل أيامٍ مضت وبالتحديد في منتصف يناير الجاري ، ضبطت شرطة الصافية ثلاثة فتيان متلبسين بجريمة نهب سيدة من سكان حي شمبات المعروف ، اذ تمكنوا - وهم يستغلون ركشة - من بث الرعب في أوصالها ، ومن ثم خطف حقيبتها اليدوية ، التي ربما تكون ملأى بالمال ، والذهب مع هاتفها الجوال ، وربما قد تكون مكتظة بأقلام الحواجب والروج ، والمنكير وبقية خُمْرة بايتة . اتضحت الرؤية حول هوية هؤلاء المتهمين، بأنهم ينتمون الى المؤسسة العسكرية ، وأن ثلاثتهم من أصحاب السوابق القديمة ، ومن أهل التخصص في هذا النوع من الاجرام ، والذي يندرج تحت جريمة النهب الخطيرة التي تصل الى حد الحرابة . ليس أمام الشرطة الجنائية شئ بعد هذا، سوى أن تنهِ اجراءاتها القانونية المتمثلة في الضبط والحبس والتحقيق ، تحت اشراف وتوجيهات النيابة المختصة ، تمهيداً لتسليمهم الى وحداتهم العسكرية ، بموجب المنشور القضائي رقم (19 ) ، وذلك من باب الخصوصية المهنية والقانونية لهم ، وحفظاً لحقوق المجنى عليها على السواء .. ولكن .. ما الذي حدث ؟ قبل أن تكتمل الاجراءات القانونية ، حضر لرئاسة القسم حوالي بضعة وعشرون فرداً، يستغلون عربة دفار ميتسوبيتشي وأمامهم عربة صالون ، بحجة زيارة زملائهم القبوض عليهم. لمَّا تعالت نبرات أصواتهم وتهديداتهم وهمهماتهم الدالة على نوايا غير حميدةٍ ، لم يتم السماح لهم بذلك خشية حدوث ما لا يحمد عقباه . حدثتهم روح القطيع العدوانية شراً لحظتها ، فعاثوا في فناء قسم الشرطة ، وداخل مكاتبه اتلافاً وتكسيراً للأجهزة الالكترونية والأثاثات المكتبية ، واعتداءً سافراً على رجال شرطة القسم ، وضباطه ، وتحول القسم الى ساحة للضرب والضرب المضاد، للدرجة التي لم يسلم معها حتى المارَّة وأصحاب الحاجات . كان هدفهم هو تهريب هؤلاء المتهمين من قبضة الشرطة والقانون ، وخلق فوضى أمنية عارمة ، ولولا تواجد وحكمة رئيس القسم لحدثت كارثة ما كان ليسلم من تداعياتها فاعلوها أنفسهم ، ولمَّا لم يجدوا منفذاً لمخططهم ولُّوا الأدبار نحو الشارع الرئيسي ، وأجبروا صاحب دفَّار آخر فحملهم مكرهاً الى معسكرهم الذي أتَوْا منه . السؤال هو هل كانت هذه المجموعة الفالتة المعتدية ، على قسم الشرطة ورجاله تعتقد أنَّ لها مسوِّقات قانونية ، أو أخلاقية ، أو حتى عسكرية تبرر أفعالها ؟. من المعلوم أنَّ الدستور الانتقالي السوداني لسنة 2005م قد حدد المهام ، والواجبات المهنية ، لكل الأجهزة العاملة في المجال الشرطي، والأمني، والعسكري . أوكل لرجال القوات المسلحة مهام حمااية سيادة البلاد وحدودها ، وتأمين سلامة أراضيها والمشاركة في تعميرها ، ونظم قانون القوات المسلحة أهدافها وواجباتها المتمثلة في تأمين احترام سيادة حكم القانون ، وحقوق الانسان مع الدعوة للتدين والأخلاق والقيم الفاضلة والسامية ، وخلق روح التعاون والانسجام وترسيخ وحدة الهدف مع القوات النظامية الأخرى ، ولم يمنحهم الدستور ولا القانون حقاً لتهريب ، أو تحرير هؤلاء المتهمين من الحبس الشرطي ، حتى ولو كان حبسهم غير قانوني ، فهنالك من الوسائل القانونية والعسكرية ما يكفي لعلاج مثل هذه الحوادث . حدد الدستور أيضاً مهام محددة للشرطة ، ونعتها بأجهزة تنفيذ القانون ولخصها في تنفيذ القوانين ، وحفظ النظام ،علاوة على تحقيق الأمن الداخلي والمساهمة في تحقيق الأمن القومي ، وأعطاها قانون الاجراءات الجنائية سلطات معلومة في الاشتباه ، والضبط والاحضار والتحري ، والقبض والتفتيش والمطاردة ، وتقبل بلاغات المتضررين والمجنى عليهم ،وكلفها قانون الشرطة بواجبات منع الجريمة ،والتدخل لكشف وعلاج ما يقع منها ، وكل ذلك لتحقيق الهدف الأسمى وهو تحقيق وبسط الأمن للوطن وللمواطن . أوكل الدستور لجهاز الأمن الوطني أيضاً اختصاصات أمنية داخلية وخارجية ، مع جمع المعلومات وتحليلها وتقديم المشورة للسلطات المعنية ، كما حددت القوانين الضابطة والمنظمة لعمل هذه الأجهزة الأمنية والعسكرية الشروط العامة للجندية ، المتمثلة في الانضباط وحسن الأخلاق ، وخلو الصحائف الشخصية من الجرائم المخلة بالشرف والأمانة . اذا كان الدستور والقوانين المختصة قد حددت مهاماً واختصاصات ، وواجبات والتزامات سلوكية معينة ، ليتفاعل معها كل العاملين في أجهزة الشرطة ، والأمن ، والقوات المسلحة ، فلماذا لا تُحترم هذه النصوص القانونية يا تُرى ، والقانون والدستور ينصان ويلزمان الجميع بذلك ؟ هل يعاني بعض منسوبي هذه القوات جهلاً مركباً ، وثقافةً ضحلةً ، وفهماً متواضعاً لواجباتهم المهنية والأخلاقية ، أم أن المسألة لا تخرج عن حبٍّ شرهٍ للفوضى !؟ وهل يوجد أصلاً برامج علمية تدريبية ، تدرس لمنسوبي هذه القوات عبر معاهدهم العسكرية ، ومعسكرات تدريبهم وتخريجهم لتحدثهم عن أخلاقيات مهنتهم القادمة ، وعن أساليب التعامل مع الآخر ؟.ما الذي تفعله أجهزة التوجيه المعنوي ، وأجهزة الاعلام والعلاقات العامة ، وجمعيات القرآن الكريم بالضبط ؟ هل تقوم فعلاً بتوجيه وتثقيف ، وتعليم وارشاد واعادة صياغة هؤلاء العامة من الجنود والمستجدين ، وصغار الضباط ؟ ما هو دور المساجد ، والزوايا التي امتلأت بها الوزارات والادارات ، والوحدات العسكرية ، والتي بات أئمتها ومؤذنوها يشكلون خطراً على الموازنة العامة ، بل ينافسون الآخرين في الترقي ، والحوافز والعلاوات والحج والعمرة، وفرحة الصائم ، وخروف العيد، ومكرمة الرئيس وما خفي أعظم !؟ الواقع المرير يقول أنه لا توجد علاقات اجتماعية ومهنية نموذجية يحتذى بها ، بين القادة أو العاملين في هذه الأجهزة الأمنية الثلاثة على المستوى المؤسسي ، بالرغم من طبيعة العمل الأمني والعسكري الذي بات موحداً في جل مناطق السودان ، وعلى وجه الخصوص داخل المناطق الملتهبة والمستعرة بالحروبات الداخلية . الأمر قد يرجع أحياناً الى الغيرة المهنية بين الأجهزة ، التي يعتقد كل جهاز منها أنه ( الأول ) أو الأوْلى بقيادة الآخر ، حيث لا راد ولا مرجعية لمزاعمهم جميعاً لأن كل منهم مأخوذٌ عزةً بالاثم . اذن فانَّ ما يحدث الآن من نشاط اجرامي ، وممارسة علنية للاجرام بواسطة حماة القانون ، وما يحدث من انفلات وفوضى مهنية ، يؤكد شيئين لا ثالث لهما ،أولهما فشل الخطط والمناهج التربوية العسكرية الموجهة للفئات المستهدفة داخل هذه المؤسسات ، وثانيهما فشل القائمين على أمرها من الذين يدعون العلم والمعرفة ،عبر شهادات أكاديمية فخيمة مطبوعة على الورق ، معلقة على الجدران أو نائمة داخل ملفات خدمتهم ، وغير موجودة بالرأس . لعل الشئ المؤسف حقاً ، أن تقوم الدولة بالصرف البذخي على الاحتفالات والأعمال المرتبطة بمسائل الدعوة ، والارشاد والتربية والتوجيه المعنوي والتقويم السلوكي للنظاميين، دون جرد للحسابات ودون مراجعة للنتائج ، ودون اعادة قراءة لهذا الهدر غير المرشد . لقد كشفت حادثة شرطة الصافية رأس الثقب الأسود للعلاقات المهنية ، والاجتماعية ، والقانونية بين جهازين حساسين ،هما الجيش والشرطة ولا يعرف أحدٌ خبايا الجهاز الثالث. هذه ليست الحادثة الأولى ولن تكون الأخيرة ، طالما ظلت ثقافة الطبطبة على الكتوف سائدةًدون حسم ، ولطالما علا شأن منطقَيْ القوة والفهلوة على منطق القانون ، في جل معاملات الدولة السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية . على كل حال فان الناس قد تركوا مسألة ارتكاب جريمة النهب جانباً ، وتفاعلوا مستنكرين حادثة الاعتداء على قسم الشرطة بواسطة قوة عسكرية فالتة فماالسبب يا ترى !؟ بدون اانتظار رد على هذا السؤال، نتساءل مع المهتمين والمختصين وأهل الشأن ، هل تشكل هذه الحادثة ورفيقاتها أزمة في تطبيق المناهج التربوية العسكرية أم أزمة في كفاءة القوة البشرية المعنية بالتطبيق !؟ [email protected]