لا بد لنا من وقفة وطنية وطرح رؤية مهنية توضح دور الشرطة في حماية الوطن والمواطنين, خاصة ما حدث لها من تغير لطبيعتها خلال النظم الحاكمة شمولية كانت أم ديمقراطية عبر الحقب المختلفة, وهو واجب تحتمه علينا مسؤوليتنا الوطنية وإحساسنا بالوفاء لمهنة الشرطة التي رضعنا من ثديها وتربينا وسط رجالها الأوفياء في نقاط وأقسام الشرطة ومراكزها على امتداد السودان الواسع شرقا وغربا وجنوبا, بل في الخنادق أبان حرب التمرد في الجنوب قبل وبعد الاستقلال التي دفع ثمنها أبناء السودان بكيد من الاستعمار. دارت في الخلد الكثير من الخواطر والذكريات والمبادىء الراسخة التي نشأنا عليها خلال تجربتنا في الخدمة الطويلة الممتازة التي قضيناها في الشرطة,وذلك بمناسبة ما وجهت من اتهامات لرجال الشرطة بعد حوادث القتل المتعددة التي ارتكبها بعض أفراد الشرطة, الأمر الذي صعد مؤشر إحصاء حوادث القتل التي ارتكبت على إيدى رجال الشرطة في السنوات الأخيرة, وهذه الظاهرة تتعارض مع دور وطبيعة الشرطة كقوة مدنية "Civil Force" حسب الدستور والقانون وهو أمر درسناه وحفظنها منذ أن وطئت أقدمنا أرض "كلية البوليس" قبل أن يتم تعربيها في عهد مايو, فهي ليست قوة عسكرية منوط بها القيام بعمليات قتالية بل هي قوة نظامية منضبطة ليسهل قيادتها لتنفيذ واجباتها القانونية والأوامر الصادرة اليها من قيادتها الشرطية أو القضائية والنيابية, ولا تقوم الشرطة بعمليات قتالية إلا في حالات استثنائية تستدعي دمجها في القوات المسلحة بمرسوم قانوني من رأس الدولة. هذا ما درسناه وتدربنا عليه وما استقر عليه الحال منذ استقلال السودان, فالشرطة من الهيئات النظامية التي تتولى القيام بواجبات تنفيذ القوانين أو ما يسمى في النظم الغربية "Law Enforcement Agiances" ومن ضمنها القوات النظامية الأخرى كقوات السجون والدفاع المدني والوحدات النظامية المشابهة لها. وكانت ومازالت واجبات الشرطة محددة في قوانين الشرطة والإجراءات الجنائية في منع ارتكاب الجريمة والكشف عنها بعد وقوعها, والعمل على حماية الأرواح والممتلكات, حيث ظلت تعمل للقيام بواجباتها القانونية في نقاط واقسام الشرطة التي توفر الخدمة للمواطنين على نظام النقاط والدوريات ثم أضيف اليها قانون النظام العام في السنوات الأخيرة وخصصت له قوات خاصة وهو أمر يستحق الدراسة والمراجعة للقانون نفسه لأن البعض يرى أن القانون الجنائي العام الذي يقوم على أحكام الشريعة وحده يكفي لمعالجة الجرائم والمخالفات التي تقع في المجتمع, فرجل الشرطة يجب أن لا يتجاوز سلطاته حتى لو ارتكبت جريمة قتل أمامه فواجبه هو القبض على الجاني وتقديمه للقضاء لتوقيع العقوبة عليه وليس قتله!! وأن أي تجاوزات لسلطات رجل الشرطة تجعله هو نفسه يقع تحت طائلة القانون, وهذه السلطات تراقبها منظمات حقوق الإنسان الوطنية والدولية والأخيرة تحاسبنا بالمعايير الدولية المتفق عليها دوليا, والتى تعرف الهيئات والوكالات والقوات النظامية المنوط بها تنفيذ القوانين في المجتمع المدني بالتعريف السابق ذكره, لأن الجرائم التي ترتكبها أجهزة الدولة تعتبر جرائم دولية تلاحقنا بسببها المحكمة الجنائية الدولية. إذن ما هي الحاجة الأمنية التي حولت الشرطة وجعلت لها قوات ودوريات مدججة بالسلاح ومرابطة حول المؤسسات والمنشآت المهمة والحساسة في الحقبة الأخيرة؟,صحيح أن طبيعة الجريمة وتطورها ووسائل ارتكابها التي أدت لحوادث العنف وظهور عصبات الإرهاب المسلحة مثل (النقرز) وغيرها أقضت هذا الوضع في العاصمة وغيرها من المدن أما مناطق العمليات التي تسود فيها حالات الطوارىء فأمرها واضح من حيث الواقع الأمني والقانوني الذي يحتم لقيام الشرطة بواجباتها في حماية الوطن من أي مهددات جنبا الى جنب مع القوات المسلحة والأجهزة الأمنية الأخرى خاصة في مثل الظروف الراهنة التي تمر بها البلاد من مهددات للأمن القومي,إلا أن هذا الوضع الإستثنائي يجب أن لا يؤدي إلى تغيير طبيعة الشرطة ووضعها القيادي وهياكلها الإدارية وبرامجها التدربية مع ثبات وضعها الدستوري والقانوني في الدولة, الأمر الذي يلقي عليها مسئولية حماية أرواح وممتلكات الموطنين في كل الأوقات كواجب أساسي لها في السلم والحرب. هذا الوضع في تقديري هو السبب الذي عقد دور الشرطة وصعب مهمتها في بلد مثل السودان ظل في حرابه من قبل الاستقلال, بل لم يستمتع شعبه بالاستقرار والاستمتاع بثقافة السلام وما زال طلابنا يرتدون ملابس الميدان المبرقعة, لاشك أن هذه الواجبات والمهام الصعبة المتداخلة هي التي أدت إلى التغيير من طبيعة الشرطة وأثرت في أداء واجباتها القانونية مما ساعد على وقوع مثل هذه الحوادث المتكررة. من جانب آخر إذا راجعنا واستقرأنا تاريخ الشرطة الحديث, نجد أنه في عهد مايو تم التغير في الهيكل الإداري للشرطة لتتحول من إمرة القيادة المدنية "وزير ووكيل " و دخلت تحت إمرة قيادة قائد أعلى للشرطة في عهد الرئيس الراحل "النميرى" ومن هنا حدث التغير الأساسي على قوات الشرطة في الناحية المهنية حيث تحولت قيادتها من (وزير داخلية) مدني الى (قيادة عسكرية) صرفة تقرر سياسة العمل في الشرطة وتصدر توجيهاتها في الأداء, مما أثر في مهنيتها وتغلب عليها الولاء السياسي أكثر من العمل المهني الشرطي, الأمر الذي استصحبها بكل أسف في كل عهود النظم الشمولية, ولم تصلحها الحكومات الديمقراطية, ومن ثم أثرت هذه الممارسات في الهيكل الإداري وشردت خير رجالات الشرطة من الضباط والرتب الأخرى ذوي الخبرة من الخدمة عبر سياسات التطهير والتمكين. هذا من جانب التاريخي أما الجانب الآخر الذي تركته النظم الشمولية هو بث وزرع العقيدة العسكرية القتالية والتي لا تنسجم مع دور وطبيعة الشرطة المدنية والتي تعمل وسط الجمهور والمجتمع المدني في المدن والأرياف تحت شعار الشرطة في "خدمة الشعب "و شعارها المشهور والبارز المتمثل في شارة ((اليد الأمينة والعين الساهرة )) التي توضع في مقدمة غطاء الرأس الذي يرتدية رجال الشرطة من مختلف الرتب وهذا الشعار هو العلم والراية التي تعمل تحتها كل قوات الشرطة على امتداد السودان فهي (خادمة) للشعب وليست (عدوة) له لتقاتله، أو تغتاله كما حدث ويحدث الآن مما يثير غضب الشعب على الشرطة من وقت لآخر, منذ أحداث وقعت لبعض طلاب الجامعات، وأحداث بورتسودان، وأمرى، وكجبار وغيرها فكيف نعمل لنوقف هذا المسلسل من حوادث القتل ؟ فى رأيي المتواضع علينا أولا أن نعمل لنعيد الشرطة لطبيعتها وذلك بالتمسك بمهنيتها, على أن نقلل من روح التعبئة العالية التي تتم في غير وقتها ومكانها, حيث لاحظنا في مثل هذه الظروف الحماسية والجهادية التي تقحم الشرطة في بعض الحالات وتشركها في عمليات قتالية لم يتدرب عليها معظم أفراد القوة التدريب اللازم أو يتم تسليحهم التسليح المطلوب, وبالتالي تؤدي هذه العمليات لفقدان قوات الشرطة الكثير من الشهداء, لاسيما وأن رجل الشرطة المرابط في الثغور والذي يؤدي واجبه في دائرة اختصاصه بشرف وأمانة في حكم المجاهد,الأمر الذي يحتم علينا أن نوفر له الحصانة "المعقولة " والتي تتدرج حسب الرتب وليست الحصانة المطلقة في يد سلطات عليا. هذا بالإضافة إلى العمل بوضع برنامج تثقيفي وتدريبى يعتمد على الدروس والعبر المستفادة من حوادث (اطلاق النار) ونتائج التحقيقات التي تمت فيها وما توصلت إليها من أخطاء وتجاوزات للأفراد والجماعات من مختلف الرتب, لتكون درسا وعبرة خاصة لصغار الضباط عديمي الخبرة شديدي الحماس!! ممن اعتدنا على تسميتهم "المستجدين" حتى لا يكونوا "كبش فداء" لأخطاء الآخرين, خاصة وأن لقوات الشرطة معاهد ومؤسسات أكاديمية عالية الكفاءة يقوم عليها ضباط أكفاء حتى نزيد من درجة حرص بين رجال الشرطة عند استعمال " السلاح الناري" في الحالات الضرورية التي حددها القانون مثل حالة الدفاع عن النفس أو الغير والغير هو المواطن الإنسان أيا كان وليس حصريا الشخص المسؤول أو بسبب الولاء السياسي لأي جهة في أي عهد من العهود, خاصة في عمليات مداهمة منازل صناعة الخمور والتي تؤكد كل الظروف عدم الحاجة لحمل الأسلحة الرشاشة في مداهمة مناطق الخمور البلدية, التي كنا نتعامل معها بكل بساطة بقوة مكونة من أفراد المباحث بالزي الملكي محمية بقوة مسلحة من الخارج لتأمين العملية ولا تشترك في التنفيذ, وكان الفرد منا مسلحا بمسدس للدفاع عن نفسه ولا حاجة لمثل هذه العمليات لدوريات مدججة بالمدافع والأسلحة سريعة الطلقات حتى لا يحدث ما لم يحمد عقباه. وبناء على ما تقدمنا به من أفكار ومقترحات موضوعية تتعلق بأداء قوات الشرطة بحكم تجربتنا, نرى أن الحل يكمن في المزيد من التدريب وإصدار التوجيهات المستمرة لتحسين الأداء لتفادي وقوع حوادث القتل التي يروح ضحيتها الأبرياء, حيث يمكن أن نحقق الهدف المطلوب وهو سلامة الأداء وضبط الممارسة العملية وذلك بالعودة لإعلاء مبدأ "الشرطة في خدمة الشعب" الأمر الذي سيسهل مهمة الجميع بالعودة بالقوات لطبيعتها الأصلية وهي خدمة الشعب والتي يعتمد تحقيقها على مبدأ سيادة القانون وحماية (دستور الأمة) لأن الأمة لا تتفق على ضلالة, وبناء على هذا المنهج والمبادىء تعود قوات الشرطة افرادا وجماعات الى سابق عهدها, لتعمل تحت شعارها التاريخي والحقيقي في كل الأوقات, حيث يمكن الوصول إلى هذا الهدف السامي عبر برنامج تدريبي وتثقيفي طويل المدى لتحقيق التوازن والاعتدال في أداء قوات الشرطة في أي مكان في السودان حسب المتطلبات الأمنية والقانونية, خاصة وأن الشرطة تعتبر الواجهة الحضارية لأي دولة أو شعب حيث نجدها في، الجوازات، والجمارك، والمرور وغيرها من المرافق الخدمية الأخرى، والله من وراء القصد، * فريق شرطة متقاعد