الرقابة القضائيّة علي دستوريّة القوانين، أساسها مبدأ سمو الدستور. فالدستور هو القانون الأسمي في الدولة، وجميع أجهزة الدولة، تستّمِد سُلطاتها وصلاحياتها مِن الدستور. وهذا يستّلزِم، أن تتوافق مع الدستور، جميع قوانين الدولة. وبدون ذلك، لا يكون لمبدأ سمو الدستور، أيّ مَعنَي. كما هو معلوم، فالرقابة القضائيّة علي دستوريّة القوانين، تتِم بأساليب عدة، منها أسلوب الرقابة القضائيّة عن طريق إلغاء القانون أو النص المُخالف للدستور (ما يُعرَف بقضاء الإلغاء)، وهذا الأسلوب تُنِيطه الدساتير إلي محكمة مُعينة في السُلَّم القضائي، أو إلي محكمة خاصة. وهُنالك أسلوب الرقابة القضائيّة عن طريق الامتناع (قضاء الامتناع). وهو أُسلوب مُتّبَع في بعض الدوَل التي تمنَح محاكِمها سُلطات أوسع، دونَ قَصرها علي محكمةٍ مُعينة. ولهُ طرائِقٌ عدة. هُنا، سألفت الانتِباه، إلي الرقابة القضائيّة عن طريق الدفع، كواحدة مِن تلك الطرائق. فهذه الرقابة، والتي تَعني الدفع بِعَدم دستوريّة القانون مَحَل التطبيق، تُمارسها المحاكم بناءً علي طلب خصم في دعوي مرفوعة أمامها. وهُنا، يقتصِر أمر المحكمة –في تلك الدول- علي استبعاد تطبيق القانون المُخالف للدستور في الدعوي محل النَظَر. وهذا يعني، أنَّ استبعاد القانون، لا يحُول دونَ سريانه في دعوي أُخري. قبل الغوص عميقاً، جَّدِيرٌ بِي أن أُشِير، أنَّ الدساتير السُّودانيّة، إبتداءً مِن دستور السُّودان المؤقت لِسنة 1956م، وانتهاءً بدستور 1985م الانتقالي، كانت قد أناطت بمُهمة الرقابة القضائيّة علي دستوريّة القوانين، للمحكمة العليا. وبعد مجيء انقلاب الإنقاذ في1989م، إختلف الوضع، حيثُ أُنشئت هيئة قضائيّة مُنفصلة عن السُلطة القضائيّة، بموجب دستور1998م، وهي المحكمة الدستوريّة، وأُنيطَ لها ضِمن اختصاصات عدة، مُهمة الفصل في دستوريّة القوانين. وبناءً علي ذلك، فالرقابة عن طريق الإلغاء (قضاء الإلغاء)، هو الأسلوب المُتبع هُنا. وهذه الرقابة تُمارسها المحكمة المُختصة (المحكمة الدستوريّة حالياً) عن طريق الدعوي الأصليّة، بأن يقوم شخص ما – متي ما توفرت له المصلحة- بِرَفع دعوي أمام المحكمة المُختصة، لإلغاء قانون ما، أو نص، لتعارضه مع أحكام الدستور. وهُنا، إن إنتهت المحكمة المُختصة إلي ما إنتهي إليه مُقدِم الطعن أو الدعوي، فإبطال القانون أو النص المُخالف للدستور، يكون في مُواجهة الجميع. استناداً علي ذلك، وبما أنّ هُنالك محكمة مُختصة بهذا الخصوص، فهذا، يدفع البعض للقول، بأنَّ، ليسَ للمحاكم الأخري، سُلطة التطرُق لدستوريّة أو عدم دستوريّة النص أو القانون، متي ما أُثير الأمر في أيّة دعوي أمام هذه المحاكم. هذا بخلاف، أنَّ المحاكم لا تتطرق للموضوع، متي ما أُثير أمامها أنّ نص قانوني ما، يتعارض مع حُكم مِن أحكام الدستور، لأنّها ترَي، بأنَّ عليها بالقانون. فبما أنّه ساري، ولَم يُلْغَ أو يُعَدل فهيّ تحتَكِم إليه. وهذا الإتجاه الأخذ به علي إطلاقه، غير صحيح، في رأيي، ويهدر مبدأ سمو الدستور - سأُفَصِّل ذلك لاحقاً-. هُناك أيضاً مَن يرَي، بأنَّ علي المحاكم الامتناع عن تطبيق النَّص أو القانون المُخالف للدستور (قضاء الامتناع)، في حال أُثير الدفع بِعدم الدستوريّة. ووجهة النَظَر هذه، تَقْتَفِي أثر ذلك الأسلوب المُتبع في بعض الدول. وهذا القول، يعني -في رأيي- أنَّ المحاكم ستقوم بفحص النَّص أو القانون، حتي تنتَهي إلي تطابق النَّص أو القانون مع أحكام الدستور مِن عدمِه. وإلاّ، فكيّفَ لها إهمال القانون والامتناع عن تطبيقه؟! وبِمعنَي أخر، فهيّ سَتَفْصِّل ضِمنياً في ذلك. وهذا، ما لايجوز للمحاكم الانتهاء إليه، لأننا بذلك نمنحها اختصاص ليسَ مَنُوط بها. فذلك، وكما هو معلوم، مِن صميم اختصاصات المحكمة الدستوريّة، وفقاً للمادة 122/ه من الدستور الانتقالي لسنة 2005م الحالي. هذا بالرغم، مِن أنّ امتناع محكمةٍ ما، عن تطبيق المادة أو القانون، يكون مُقتصر علي الدعوي المعروضة أمامها، ولا يُؤثر علي ما سواه مِن دعاوي، سواء كانت معروضة أمام نفس المحكمة أو محكمة أخري، أي أنَّ امتناع المحكمة عن تطبيق النص أو القانون المُخالف للدستور، لايحُول دون سريان النص أو القانون. إلا أنَّ ذلك، وكما يرَي البعض، يُؤدي إلي تناقض الأحكام القضائيّة مِن محكمةٍ إلي أُخري، فما قد تراه محكمة ما، مُطابقاً لأحكام الدستور، قد تراه محكمةٌ أُخري عكس ذلك. لذا، فمِن الأصوَب في رأيي، أن يتِم إيقاف أو تأجيل النَظر في الدعوي، متي ما أُثير الأمر. وعلي المحاكم رفع الأمر للمحكمة الدستوريّة للفصل في ذلك، لأنَّ طرح المحاكم للموضوع جانباً –الدَفْع بعدم الدستوريّة- أو الانتهاء بالقول بأنَّ علي مُقدِم الدفع رفع دعواه أمام المحكمة الدستوريّة، مع استمرارها في الإجراءات، بِحُجّة سريان ونفاذ القانون، فهذا بلا شك، يطعَن في مبدأ سمو الدستور، بل ويُهدِرَه تماماً. لذا، فالتأجيل أو الإيقاف ورفع الأمر، للمحكمة الدستوريّة للفصل في دستوريّة القانون، هو الأصوب. وذلك في حال رأت المحاكم، أنَّ الفصل في الدعوي يقتضِي ذلك. وليسَ في ذلك -في رأيي- تغولٌ علي اختصاصات المحكمة الدستوريّة، بل علي العكس، فيه تأكيد علي صّون واحترام أحكام الدستور. قد يرَي البعض، أنَّ ليسَ هُنالك ثِمَة ما يدعو لِهكذا جدل. بما أنّ الدستور الانتقالي لسنة 2005م قد حسَّمَ ذلك، عندما نَّصَ في المادة 122/ه علي أنّ الفصل في دستوريّة القوانين والنصوص، مِن اختصاصات المحكمة الدستوريّة، واستناداً علي ذلك، فالرقابة القضائيّة علي دستوريّة القوانين، تقع علي عاتق المحكمة الدستوريّة. ورغم أنَّه لا خلاف فيما تضمّنَته المادة المُشار إليها، إلاّ أنّه، ليس في الدستور الانتقالي لسنة 2005م نفسه، ما يُشير صراحةً أو ضِمناً علي ما يَحُول بين قُضاة المحاكم الأُخري وهذه الرقابة القضائيّة (الرقابة عن طريق الدفع)، بل هُنالك، في أحكام الدستور الانتقالي ما يُشجع علي هذا الإتجاه، وذلك فيما تضمّنَته المادة 128/2 من الدستور الانتقالي الحالي، والتي نَصّت علي أن "يصُون القُضاة الدستور وحُكم القانون ويُقيمون العَدلَ بِجدٍ ودونَ خشيّة أو مُحاباة". وهُنا يَثُور التساؤل: كيفَ نَصُون الدستور، ونحنُ نُعْمِل حُكم قانون، يَدفَع أحَد الخصوم، بِعَدم دستوريّتِه؟! أليسَ مِن الخطأ هُنا، الركون إلي سريان القانون في ظِل وضوح النّص الدستوري؟! أليسَ مِن الصواب، لِكي يَصُونَ القُضاة الدستور، أن ترفَع المحاكم الأمر للمحكمة الدستوريّة، لِلتَثّبُت مِن صِحَة ذلك مِن عدمه؟! هذا، مع الأخذ في الاعتبار، أنَّ هذا النَّص، المُشار إليه، وَرَدَ في الفصل الثاني مِن الباب الخامس، والمُتعلِق بالسُلطة القضائيّة القوميّة. أيّ أنَّه، لَم يَرد في الفصل المُتعلق بالمحكمة الدستوريّة، والتي تُعتبر هيئة مُنفصلة عن السُلطة القضائيّة. وهذا، ما يفتّح الطريق للمحاكم للأخذ بالرقابة القضائيّة –الرقابة عن طريق الدفع كأسلوب مِن أساليب قضاء الامتناع، وبصورة غير تلك المُتبعة في تلك الدُول- دونَ أن يُشكِل ذلك خرقاً دستورياً، لحُكم المادة 122/ه من الدستور الانتقالي لسنة 2005م. وعليه، فإنَّ تَبّنِي هذا الإتجاه، هو الأفضل في رأيي. وإلاّ، فإنَّ النتيجة المنطقيّة تُصبِح، سمو حُكم القانون علي حُكم الدستور. وقانوناً، في رأيي، ليسَ هُنالك ما ينهَض سبباً لعَدم انتهاج هذا السبيل. فباستقراء نصوص قانون الإجراءات الجنائيّة لِسنة 1991م، أستطيع القول، بجواز الركون إلي نص المادة201 مِن القانون، لإضفاء الشرعيَة القانونيّة علي أيّ تأجيل أو إيقاف للدعوي الجنائيّة مُطالبٌ به، أو قد تَتخِذَه المحاكم الجنائيّة. فالمادة المُشار إليها، تُجَّوِز للمحكمة أن تأمُر بتأجيل أي مُحاكمة أو إيقافها لأيّ سبب جوهري. وهُنا يبدو السُؤال: هل إعمال حُكم قانون قد ينتَهِك الحقوق الدستوريّة لشخصٍ مُتهم، يُعتبرُ سبباً جوهرياً لتأجيل أو إيقاف المُحاكمة؟ السؤال بالتأكيد لا يحتاج إلي إجابة. بالإضافة إلي ذلك، فالمحاكم المدنيّة في رأيي، لها أيضاً سُلطة إتخاذ ما تراه مُناسباً في إصدار الأوامر التي تراها ضروريّة لتحقيق العدالة، وفقاً للمادة 303 من قانون الإجراءات المدنيّة لِسنة 1983م. الموضوع في رأيي، يحتاج لإراقة مَزيد مِن المداد، بالأخص مِن قِبَل القانونيين. خاصةً، أنَّ تبِعات مِثل هذا التطبيق، ينعكِس سلباً علي الحقوق الأساسيّة والحريات الديمقراطيّة. هذا، مع الأخذ في الاعتبار، أنّ البعض يَركِن في الدعاوي الجنائيّة إلي نص المادة 58 مِن قانون الإجراءات الجنائيّة لِسنة 1991م، ليَلتَمِس مِن وزير العدل إعمال سُلطاته المَمنوحة له، لوقف الدعوي الجنائيّة، في تلك المُتعلقة بالحقوق والحريات التي يكفلها الدستور. ورغم أنَّ ذلك لا غبار عليه، لكن، يبقي الأصوَّب، في رأيي، إعمال المحاكم للرقابة القضائيّة عن طريق الدفع، بدلاً مِن ركوننا إلي نص المادة 58 تلك. لأنَّ تلك الرقابة، حتي وإن لَم تُلغِ النّص أو القانون، إلاّ أنَّ فيها تأكيد علي احترامنا للدستور. خاصةً إذا أخذنا في الاعتبار، أنَّ وقف الدعوي الجنائيَّة مِن قِبَل الوزير -إن رأي ذلك- لا يحُول دونَ سريان حُكم القانون المُخالف لحُكم الدستور، وإن كان له التوصيّة بمراجعة القوانين وفقاً للمادة 133/1 مِن الدستور الانتقالي. ومِن وجهة النظر هذه، يبقي مِن الضروري إحداث نقلة في التطبيق. فالرقابة القضائيّة علي دستوريّة القوانين هيّ الضمانة الأساسيّة لحمايّة الدستور وسمو أحكامه، وهذا ما لايُمكن تحقيقه إلاّ بإعمال مبدأ سمو الدستور، وفي سبيل ذلك، يبقي مِن الواجب علي المحاكم الأخري، إعمال الرقابة القضائيّة عن طريق الدفع، وهذا ما يتطلب مِن القضاء الواقف (المحامون) إثارته متي ما استدعي الأمر ذلك، بصفتهم أشخاص منوط بهم حماية الحقوق الأساسيّة للمواطنين والإرتقاء بها، وفقاً للمادة 134/2 من الدستور الانتقالي الحالي. وفي سبيل الإسهام في نشر الوعي القانوني وسيادة حُكم الدستور. يبقي القول، أنَّ مسارات التطور الدستوري والقانوني بالبلاد، ترسمها نتائج المُمارسات. هذا بالطبع، دون أن نغفِل أنَّ فعاليّة الرقابة القضائيّة علي دستوريّة القوانين، رهين بوجود نظام ديمقراطي. فضلاً عن ذلك، فإننا لا نستطيع أن نغفِل أيضاً الدور الشعبي، الذي تلعبه مؤسسات المجتمع المدني التي تعمل علي نشر ثقافة الديمقراطيّة وحقوق الإنسان، في الرقابة علي دستوريّة القوانين، وهو ما يُعد نوع مِن الرقابة الشعبيّة علي دستوريَة القوانين وعلي القرارات الصادرة مِن مؤسسات الدولة، فمؤسسات المجتمع المدني تستطيع في ظل المناخ الديمقراطي، أن تكبَح جماح أيّة سُلطة، تشريعيّة أو تنفيذيّة، تُحاول الخروج بِتَصرُفاتِها عن الإطار الدستوري. [email protected]