الجيلين هنا هم جيل ماقبل الانقاذ وجيل مابعد الانقاذ، ويشهد الجيلين الان على حد سواء الهاوية التي يسير اليها الوطن حثيثا، ويقف كلاهما مكتوف الايدي الا من حراك خجول هنا، او نداء مؤود هناك. في ذات الوقت يسعى نظام المؤتمر لشراء الوقت عبر النداء لحوار من اتجاه واحد، يديره هو بأجندة مسبقة، وتداعى كهنته للدعوة الي ذلك الحوار عبر المؤتمرات الصحفية الجامعة تارة وعبر الزيارات الاجتماعية تارة اخرى. اما الهاوية فلا تحتاج الي برهان، فهي اقرب الي السودان من حبل الوريد، ومآلاتها وطن يضربُ به المثل في التشرزم والتفتت والدمار. الاشكال الحقيقي في تقييمي هو اشكال المعارضة، او توازن الضعف كما سماه الاستاذ محجوب محمد صالح في مقال سابق، فالمعارضة السودانية عجزت بشقها الداعي للتغير السلمي، وشقها الداعي للتغير المسنود بالسلاح عن الوصول الي التغيير المنشود، يعمِق ذلك العجز الفصام التام بين المعارضة والجماهير، فليس هناك وجود حقيقي للمعارضة بين الجماهير المكتوية بنار النظام، وليس هناك قناه مشتركة وموحدة تجمع الوطنيين من ابناء السودان تحت لواء جامع لتغيير النظام، ادى هذا التشتت الي تعدد المنابر وتقزّم الفعل الداعي للتغيير. وساعد النظام بمكر في تفتيت الثقة بين المعارضة والجماهير، وضرب في كل فرصة مواتيه او مختلقة على وتر البديل، و روّج للعنصرية بين الجميع، واستغل خلو الساحة من الوطنيين المستنيرين ذوي الخبرة في العمل السياسي لتقوية قواعده وتمتين جذوره في العمق السوداني، التفريغ الممنهج للساحة الوطنية من العقول المستنيرة عمل على تسارع وتيرة انهيار المعارضة وتحجيمها في قيادات معزولة، عاجزة عن الاتيان بفعل حقيقي. نعم يمكن الاعتراف بظهور حركات شبابية متعددة تؤمن بالتغيير، الا ان تلك الحركات تعاني من قلة الخبرة، في مواجهة اله عسكرية شرسة وتنظيم تمرس على المؤامرات السياسية. وبغض الطرف عن معضلة الديمقراطية في الاحزاب السودانية نفسها، نجد ان الفصل الجيلي الممنهج ان صح التعبير كان سببا اساسيا في استمرار النظام طيلة ال 25 عام السابقة مسيطرا على موارد وانسان الوطن. الاجيال الحالية التي تقود الفعل المعارض الواقعي في الشارع السواني، والتي تسقط ايضا برصاص النظام، هي اجيال لم ترى ماحدث في اكتوبر، وليس منهم من حمل لافتة تناهض نظام مايو في انتفاضة ابريل، لم ينتخب معظهم اتحاداته الجامعية، ولم يعتركوا العمل السياسي من خلال نقاباتهم المهنية بل ازعم ان معظمهم لا يعرفها حتى، كما انهم ايضا لم يتدربوا تحت مظلة احزاب سياسية ناضجة، ومارأوه من تلك الاحزاب الان خيال مآتة لا يفزع زرزور. العقول المستنيرة التي كانت تقود العمل السياسي تحت مظلة الاحزاب تعرضت للتشريد عند مجيئ الانقاذ، وكونت هذه العقول مايصطلح عليه عرفيا بمعارضي المنفى، وانحصر دور المعارضين في المنافي على المعارضة الاسفيرية، واكتفي معظمهم بلوحة المفاتيح كسلاح للوصول للتغيير. لا احد يستطيع لومهم على الخروج المذل من الوطن بعد ان قتّلوا وشرّدوا وحوربوا في اكل عيشهم، لكني ايضا ازعم انهم قد باعوا قضيتهم باللجوء السياسي، وجلهم الان يحمل جوازات سفر اروبية وامريكية، وتربى ابناءهم في تلك المهاجر، وصار صعبا عليهم العودة الي السودان، حيث لا عمل ينتظر، ولا KFC عند ناصية الطريق، ولا عذر لهم في ذلك، لانهم ينتظرون كراسي الوزارات، وصناديق الانتخابات من جيل ولد وتربى في ظل الانقاذ، وهو جيل ينطبق عليه قول النابلسي ما حيلة العبد والأقدار جارية عليه في كل حال أيها الرائي ألقاه في البحر مكتوفا وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء [email protected]