علي ايام انتفاضة مارس ابريل 1985 كنا في بواكير الصبا نتنسم عبير تلك الايام برئات علي الفطرة وباذهان صافية ونسأل بشغف ونقرأ بلهفة ونستمع لكل صوت باذان نظيفة وذاكرة فولاذية .. كانت اناشيد الراحل وردي ملهمة نتغني بها علي مسرح الجمعية الادبية وكنا نبحث عن كلماتها بين الصحف ونطلب من كبارنا كتابتها لنا وندون بانفسنا ما نستطيع ان ندونه ونحفظها عن ظهر قلب .. يا شعبا لهبت ثوريتك .. بلي وانجلي .. يا شعبا تسامي .. وطنا .. الخ وكنا بالطبع نسأل عن الكاتب ونسمع ان اسمه محجوب شريف ... تعلقنا بشعر محجوب دون ان نعرف عنه وعن سيرته شيئا .. الي ان لامست الايدي ديوان شعره ( الاطفال والعساكر ) .. كتيبا صغيرا بغلاف احمر وعنوان بخط اسود .. قرأنا المقدمة وما كتبه محجوب عن ديوانه وهو يخاطبه كاحد ابنائه ( الان ترتاح من مطاردات العساكر ...ألخ ) وكذلك من مقدمة الديوان وما حدثنا محجوب فيها انفتحت لنا كوة اخري شكلت فينا ولا زالت حنينا وحسا ذلك ان محجوب ذكر انه وجد ( الاطفال والعساكر ) علي نافذة بمنزل مصطفي سيد احمد رحمه الله فقادتنا محطة الاطفال والعساكر من مقدمتها الي السؤال عن من هو مصطفي سيد احمد ؟ وما سبب وجود الاطفال والعساكر بمنزله ؟؟ اسئلة تفتحت اجاباتها مع اسئلة اخري كثيرة عندما تمددت سنين الديمقراطية اكثر فاكثر وبدات بيارق الحزب الشيوعي تطول وتنغرس بعمق اكثر .. حيث كان كرنفال العيد الاربعين للحزب ومعرض الحزب الذي حوي تاريخه من مجازر واعتقالات وتضحيات ومواقف كان محجوب شريف احد صناعها واحد رواتها في شعره وكان مصطفي كذلك ركنا هاما ومنبرا لها في الكورال والغناء وحتي معيشته اليومية ... في الاطفال والعساكر قرأنا لمحجوب الملتزم الشيوعي وقرأنا لمحجوب الابن البار بأمه وتعلمنا كيف يندمج العام بالخاص وكيف يتم اتخاذ المواقف النبيلة وتعلمنا جرعات مهولة من الصمود والبسالة والجسارة وتعلمنا كيف النظر للامال والتعلق بها وتحقيقها رغما عن حاضر الاعتقال والمشانق .. علمنا محجوب ان نصنع الحياة في لحظات الموت والتصحر الكبير .. في كتابه ( كوبر ذكريات معتقل سوداني ) تحدث المرحوم محمد سعيد القدال بلغته الجزلة وامانته التي لا تخطئها عين عن محجوب وافرد له فصلا خاصا بالكتاب بعنوان ( كروان السجن الصداح ) واخبرنا عن علو همة هذا المحجوب وقدرته المدهشة علي خلق الحياة في لحظة الموت والوجوم وحدثنا عن قدرته المدهشة ايضا علي خلق اللحظة المضحكة لحظة الهم والغم والنكد .. غير ان اهم ما اورده القدال هو الاجابة علي سؤال باذهان جميع من عرفوا المرحوم محجوب وهو ما الذي يجعل محجوب يفعل كل هذا ؟؟ كانت اجابة الاستاذ المرحوم القدال ان السبب في تقديره يعود لخاصية يتفرد بها محجوب دون سواه وهي ( الوجود مع الناس ) حيثما كانوا وكيفما كانوا .. ولعل هذه مأثرة يعجز عنها الكثيرين ولا تتأتي الا الي نفر قليل من اصحاب الرسالات .. للفقيد الرحمة والمغفرة فالكتابة عنه صعبة .. ليس سهلا ان تكتب عن شخصا الهمك المعاني .. والعزاء موصول لأسرته وكل شعبه [email protected]