اعتاد (صالح زكريا) ان يذهب برفقة ابن خاله (آدم حمودة) الى مدينة (بانتيو) بولاية الوحدة بجنوب السودان، محملين بالبضائع التي يقلونها من سوق ام درمان على متن دفارات (الجانبو)، ليجدوا هناك (عبد الله زكريا) شقيق (صالح) الذي اتخذ من (بانيو) مقراً لممارسة نشاطه التجاري، برفقة آخرين من زوي قرباه واصحابه من مختلف انحاء السودان.. يساعد (عبد الله) شقيقه (صالح) وابن خاله (آدم) القادمين لتوهم الى المنطقة، في توزيع بضائعهم على التجار في سوق المدينة، وقبل ان يعودا ادراجهمما محملين بما كسباه من مال مقابل بضائعهما، يكونا قد وعدا تجار السوق بالعودة مرة أخرى محملين بصنف البضائع التي يتخيرها رواد السوق، وما اخلفوا وعدهم يوماً.. (الاثنين) الماضي صادف اول يوم لدخولهم المنطقة في رحلتهم الأخيرة اليها.. لم يكن الوضع بمثلما كان عليه سابقاً، هنالك وجوم على وجوه المقيمين في المنطقة لم يألفوه من قبل، كأن مجهولاً قادم يحمل خطراً يتهددهم.. طائر (الهقلة) يصيح هذه المرة بصوت جنائزي، يعلمون ان صوت هذا الطائر حينما يتكاثر فلا محال من قوع فاجعة.. اطل صبح (الثلاثاء) فعلموا ان قوات المتمردين على حكومة جنوب السودان بقيادة رياك مشار قادمة في طريقها الى المدينة، التي يسيطر عليها حتى تلك اللحظة الجيش الشعبي التابع لسلفاكير.. بدأ الأضطراب واضحاً على الجميع بمافيهم قوات الحكومة، لم تكن المنطقة حديثة عهد بالحروب، فقد شهدت وشهد تجارها السودانيون العديد من المعارك الطاحنة بين الفرقاء بجنوب السودان، لكنهم دائماً يخرجون باقل الخسائر وهي تعرض متاجرهم الى الدمار، عندما يفرون منها عند كل مواجهات الى مواقع الاحتماء المعروفة، وهي المسلمون الى المسجد، والمسيحيون الى الكنيسة. اخذ الأشقاء (صالح وعبد الله زكريا)، وابن خالهم (ادم حمودة) يتشاورون الى اي الإتجاه يذهبون للإحتماء ريثما تنجلي المعركة، على الفور اشار عليهم (آدم وعبد الله) بالذهاب الى المسجد وفقما هو متعارف عليه، بيد ان (لصالح) رأي آخر هذه المرة، اذ اشار عليهما بالذهاب الى مقر القوات الاممية لحفظ السلام، (يوناميس).. قبل ان يتفقوا على اي الامكنة يذهبون بغرض الإحتماء، كانت الأوضاع قد ارتبكت على الجميع.. فر من فر الى مقوع (يوناميس) وآخرون الى المسجد، وكذا الكنيسة، لكن مع ارتباك الوضع اخذ جنود الجيش الشعبي المسيطرون على المدينة يمنعون المواطنين من الذهاب الى مقر قوات الاممالمتحدة، لعلهم يريدون استخدامهم دروعاً بشرية في مواجهة قوات مشار التي لامحال داخلة المنطقة بقوة ضاربة هذه المرة.. كان (صالح) ضمن من وصلوا الى مقر الاممالمتحدة، بينما (عبد الله وآدم) وصلا الى المسجد ضمن آخرين يفوق عددهم الاربعمائة شخص، بات (صالح) ليليته تلك بمقر جنود الأممالمتحدة ورائحة الموت تنبعث من كل الامكنة.. تحاصر انفه رائحة دماء يكاد يعرفها، فلو انه شق مكاناً من جسمه ليتدفق منه دماً لتشابه عليه في تلك اللحظة رائحة دمه ورائحة الدماء التي تأتيه من الخارج. في الصباح الباكر وعند غبش الفجر نهض (صالح) جرياً على المسجد، وكانت المعركة عندها قد انجلت قبل ساعات، وسكت الرصاص، وخلت الشوارع من حركة الجنود.. لم ير أحد يخرج من المسجد مستطلعاً مثلما يفعل هو في هذه اللحظة، كان يتمنى ان يأتي ليصيح في أهل المسجد بأن اخرجوا لقد انجلت المعركة، لينهض الجميع على اثر صوته ويخرجون الى الشوارع، ويعانق شقيقه (عبد الله) وابن خاله (آدم) ويذهبوا لتفقد متاجرهم.. لكن رائحة الموت والدم كانت تملأ خياشيمه كل ما تقدم نحو المسجد، حتى اذ وقف عند بابه هاله ما رأه.. المسجد مكتظاً بجثث بعضها فوق بعض، لا يستطيع حصرهم، لكنه يقدرهم باربعمائة وما فوق، كانوا قد لقوا حتفهم جميعاً اثر اطلاق النار عليهم باسلحة "رشاش" من قبل قوات المتمردون بقيادة رياك مشار.. سقط (صالح) للوهلة من فرط بشاعة المشهد.. استجمع وعيه على اثر حركة سيارات تتوقف قرب المسجد، ويهبط منها جنود على عجل، رأهم يدخلون الى المسجد ويشرعون في تحميل الجثث على تلك السيارات، عندها نهض وذهب ليتعرف على شقيقه وابن خاله، وعندما تعرف عليهما اراد ان يأخذهم، بيد ان ان الجنود منعوه من ذلك وهددوه بافراغ الرصاص على جسده ان لم يبتعد.. لم يكن امام (صالح) غير العودة الى مقر جنود الاممالمتحدة لمهاتفة اسرته بمنطقة (ام خشمين) بولاية غرب كردفان ينعى لهم شقيقه وابن خاله. لم تكن اسرة (عبد الله زكريا، وآدم حمودة) وحدها المكلومة في تلك الفاجعة، فهنالك اكثر من (625) شخصاً راحوا ضحية مجزرة بانتيو بحسب تقديرات شهود عيان، وفي مدينة المجلد وحدها نصب حوالي (150) صيواناً للعزاء، من بينهم خمسة اشقاء، يقال ان والدتهم في حاله نفسيه سيئة للغاية. ورغم بشاعة الحادثة إلا ان الحكومة قد لازت بالصمت تجاهها ولم تخرج حتى بيان يدين الواقعة، في وقت يتوجب على الحكومة ان تحيط السودانين بالحقائق كاملة، خصوصاً أسر الضحايا، وتطالب المجتمع الدولي والاقليمي بالتحقيق في الحادثة ومعرفة عدد الضحايا واماكن دفن جثثهم، خصوصاً ان هنالك حديث عن القاء الجثث في البحر، طمساً للجريمة. وليس الحكومة وحدها من صمتت تجاه الحادثة، فالقوى السياسية هي الاخرى صمتت تجاه المجزرة، ولم تعلن حتى ادانة الحادثة، بخلاف حركة الإصلاح الآن التي اصدرت بياناً ادانة فيه المجزرة، وطالبت بضرورة استجلاء الحقائق حولها. [email protected]