بتعادل جنوني.. لايبزيج يؤجل إعلان تتويج بايرن ميونخ    منظمة حقوقية: الدعم السريع تقتل 300 مدني في النهود بينهم نساء وأطفال وتمنع المواطنين من النزوح وتنهب الأسواق ومخازن الأدوية والمستشفى    التلفزيون الجزائري: الإمارات دولة مصطنعة حولت نفسها الى مصنع للشر والفتنة    السودان يقدم مرافعته الشفوية امام محكمة العدل الدولية    وزير الثقافة والإعلام يُبشر بفرح الشعب وانتصار إرادة الأمة    عقب ظهور نتيجة الشهادة السودانية: والي ولاية الجزيرة يؤكد التزام الحكومة بدعم التعليم    هل هدّد أنشيلوتي البرازيل رفضاً لتسريبات "محرجة" لريال مدريد؟    "من الجنسيتين البنجلاديشية والسودانية" .. القبض على (5) مقيمين في خميس مشيط لارتكابهم عمليات نصب واحتيال – صورة    دبابيس ودالشريف    النهود…شنب نمر    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    "المركز الثالث".. دي بروين ينجو بمانشستر سيتي من كمين وولفرهامبتون    منتخب الضعين شمال يودع بطولة الصداقة للمحليات    ندوة الشيوعي    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    د. عبد اللطيف البوني يكتب: لا هذا ولا ذاك    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    المرة الثالثة.. نصف النهائي الآسيوي يعاند النصر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة العم ليمي
نشر في الراكوبة يوم 30 - 04 - 2014

كانت الساعةُ تُشير إلى الرابعة عصراً حين حمل لنا النسيم رائحة الأرض الرطبة من مسافات بعيدة بعد هطول المطر بغزارة في الليلة الفائتة ، فطابت أنوفنا بعبقها حد السَكَر ، ونحن جالسون في باحة كواليتي هوتيل بمدينة جوبا تحت مظلة صغيرة والسماء من فوقنا سحباً كثيفة سوداء تُنذر بأنها ستسكب مياهاً كثيرة مرة أخرى .
كنا نتناول وجبة الغداء على شرف دعوة كريمة من أحد الأصدقاء الذين فاضت سيول المال إلى جيوبهم بعد بزوغ فجر السلام . تجاذبنا أطراف الحديث قليلاً ، ثم انشغلت أفواهنا بارتشاف الشاي باللبن الجاف بعد أن تناولنا وجبة دسمة .
رفعتُ عينيَّ بإتجاه البوابة الرئيسية ، فرايتُ حراس الفندق يفتحون الباب بعجلة مثل خدام باغتهم قدوم سيدهم . كان أحد الرجال العظماء في المدينة داخلاً إلى الفندق داخل سيارته اليابانية من طراز (الجي إكي آر) ، فارتبك وارتجف حراس الفندق أمامه .
توقفت السيارة في باحة الفندق وخرج منها رجل قصير القامة ، ضخم الجسم ، ويرتدي بدلة سوداء وبنطال أسود ونظارة تشبه نظارة غاندي وذو بطن مترهل وممتد إلى الأمام . ألقى علينا التحية بلغة إنجليزية مهذبة قائلاً : "قود أفتر نون ليديس آن جانتلمين" ، فردينا له التحية قائلين : "قود أفتر نون سير" ، فإرتسمت ابتسامة جميلة على شفتيه العريضتين وامتدت خدوده إلى اتجاه اليمن واليسار في وجهه الدائري ، وانكشفت أسنان ذات لون بني رثة تأكلت بعضها من فمه .
كان شعره شديدة السواد على الرغم من أنه في نهايات العقد السادس من عمره . وكان يرتدي رباط عنق حمراء وقميص أبيض داخل بدلته السوداء وأحذية لندنية لامعة تبدو كأنها مصنوعة من جلد الجاموس . اتجه نحو إحدى غرف الفندق وأنصرفت سيارته .
كان ذلك الرجل العصري العم الدكتور ليمي . عاش في لندن حيث قضى فترة طويلة بعد أن درس في مدرسة رومبيك الثانوية وحصل على درجة الماجستير في إدارة الأعمال من جامعة متروبوليتان لندن ، ثم انتقل منها إلى جامعة سان فرانسيسكو حيث حصل منها على درجة الدكتوراة في الاقتصاد . وأمكنته تلك الشهادات الأكاديمية الرفيعة من أن يتبوأ وظيفة مرموقة في وزارة (الفلوس) .
تزوج العم ليمي بعد أن تقدم عمره بشابة حسناء متعلمة في نهاية عقدها الثالث بعد عودته من خلف البحار . رزقهما رب السماء بطفلين ، لكن زوجته وأولاده يقيمون في عاصمة إحدى الدول المجاورة مع بعض أقربائه . ورغم البعد الذي بينه وأفراد أسرته ، لا يمر يوم دون أن يتصل بزوجته ليطمئن عليها وعلى سلامة أولاده ومستوى تقدمهم في المدرسة . إن تعليم أولاده إحدى أولوياته .
إنه شخص له الحضور والكلمة ويحرص على المواعيد في مكان عمله وينظر في مشاكل موظفيه ويتخذ قراراته بعد دراسة عميقة ، وقد جعله ذلك يحظى باحترام جميع الموظفون بالوزارة حتى عاملات النظافة . وحين يدخل الوزارة يقف الجميع إجلالاً له .
يتوزع وقته بين مكتبه بالوزارة واجتماعات مع الوزير ومدراء الأقسام بالوزارة تارةً ، وبين سمنارات وورش عمل تارةً أخرى والسفريات إلى الخارج ، ويقضي بعض الوقت أحياناً في مكتبه الواسع المفروش بشكل مبالغ فيه وبه عدداً من كراسي صوفا الوثيرة مع زملائه الذين درسوا معه مرحلة الثانوية ، يحكون ذكرياتهم القديمة بمدرسة رومبيك الثانوية ويضحكون بأعلى أصواتهم . وتقاطع المراسلات ضحكاتهم أحياناً بأوراق محتاجة لتوقيعه . وحين يكون في المكتب وحده ، يسجل الدخول إلى شبكة الفيس بوك باسم مستعار وعلى بروفايله صورة زائفة لشاب أنيق في ريعان شبابه ، ويدردش مع الفتيات ويقلب ألبوماتهنَّ ويُشْبَع بصره بجمالهنَّ ويستفسر عن أماكن سكنهن ويحدد مواعيداً مختلفة للقاء بهنَّ في عطلة نهاية الأسبوع في ضاحية روك سيتي مرة وفي الفنادق الواقعة على ضفاف النيل تحت ظلال أشجار المانجو .
إنه رجلٌ اجتماعي حاذق ومهذب ومتحضر ويتمتع بقدر كبير من ثقافة تدوين اليوميات في دفتره ويتابع الأخبار عن كثب متنقلاً بين الموجات الإذاعية: (صوت أمريكا) و(البي بي سي نت ورك أفريكا) ومرايا أف إم ويطالع الصحف اليومية كلما سنحت له الفرصة في مكتبه أو في غرفته بالفندق حين يعود إليها في نهاية اليوم .
*****************************
بعد أن قضى يوماً طويلاً بمكتبه في وزارة الفلوس التي يُشار إليها ب(الخزانة العامة) ، صعد العم ليمي إلى سيارته اليابانية الصنع ، وألقى بجسده الهائل على المقعد ؛ فارتطم رأسه بسقف السيارة ، ثم اعتدل في جلوسه كأن شيئاً لم يحدث ، بيد أنه كان يتنفس بصعوبة إثر ازدياد خفقان قلبه من هول الارتطام .
فرض سائقه أرجله على مكابح السيارة في حوش الوزارة فانطلقت متجهةً نحو الفندق الذي يقيم فيه منذ وقت طويل . وصلا بعد أن توقفت السيارة على ما يربو على نصف الساعة في الطريق بسبب الزحمة المرورية .
قفز الرجل الستيني بجسمه الثقيل من سيارته على أرض باحة الفندق حاملاً بدلته السوداء بيده اليسرى وفايل به بعض الأوراق السرية ، وأشار بيده إلى سائقه أن يذهب لغسل السيارة . ثم سار نحو غرفته بخطوات ملائكية بطيئة ، وما أن أقترب إلى باب غرفته ، وقعت نظارته الغاندية وإنكسرت وتبعثرت شظاياها على أرجاء الأرض ، فنظر إليها بحرقة معتبراً إنكسارها نذير شؤوم في نهاية يوم جميل .
فتح باب غرفته ودخل وعلق بدلته على الشماعة داخل دولابه ووضع الأوراق على الطاولة ثم جلس على سريره وبدأ يفك رباط عنقه وحزامه من تحت مائدته المترهلة وسيور حذائه بصعوبة بالغة ، ثم استلقى ليستريح قليلاً ورأسه مسنود بوسادة ناعمة . وأخذ يفكر في أسرته ومتطلباتها اليومية في ظل التقشف ، ثم تحولت أفكاره سريعاً إلى سكرتيرته الأجنبية كاثي التي تبادل معها ابتسامات رومانسية في المكتب خلال النهار . ورغم جولات التفكير الكثيرة في مخيلته ، لم تسلم ذهنه من التفكير في الآثار السالبة للتقشف وخطة تقليص الوزارات .
في غرفته ، طاولة كبيرة وضع عليها أوراقه السرية ، وعلى ذات الطاولة مذياعه ، دفتر يومياته وأقلامه . وعلى طاولة أخرى صغيرة طفاية السجائر ، صحف يومية وعلب السجائر التي تحول الغرفة إلى مخزن الدخان كلما دخن سيجارة واحدة وراء الأخرى . وثلاجة صغيرة مليئة بقوارير المياه المعقمة وزجاجات البيرة من نوع (جوني ووكر) . وعلى الحائط تحدق صورة لمؤسس الدولة وتلفزيون ذات شاشة مسطحة وساعة دائرية .
قام العم ليمي بعد استلقائه وارتياحه على سريره بضعة الدقائق ، وفتح ثلاجته وأخرج منها زجاجة وسكب البيرة في الكوب إلى المنتصف ثم سكب الماء فيه حتى أمتلى وأفرغه في جوفه وعاد إلى سريره واستلقى . وفيما هو غارق في التفكير ويسافر بعقله إلى ما وراء البحار وجنوب أفريقيا ومومباسا وإلى مدينة سان فرانسيسكو حيث درس ، رنّ جرس هاتفه ، فأخذه وضغط على زر استقبال المكالمات ثم نطق الهاتفية وجرى المكالمة هكذا :
المتصل : مرحبا سيدي . هذه شركة الإمارات للسيارات بدبي .
العم ليمي : أهلاً وسهلاً .
المتصل : نحن استلمنا المبلغ (8746) مليون دولار المحوّل من طرفكم وقمنا بتنفيذ طلبكم وأرسلنا عدد (34) سيارة من نوع (الفي إيت) وسيارات الدفع الرباعية المقفولة تم شحنها منذ ثلاثة أيام وفي طريقها إلى ميناء مومباسا الكينية مع مندوبيكم . هذا ما نود ابلاغكم به سيدي .
العم ليمي : شكراً جزيلاً لكم على إسداءكم لنا هذه الخدمة .
المتصل : على الرحب والسعة سيدي .
وضع هاتفه على الطاولة ، ثم أمسك بزجاجة من عنقها وسكب البيرة في الكوب حتى المنتصف وزادها بالماء وأخذ يحتسيها ببطء مفكراً في تحديد موعد مع سكرتيرته الأجنبية ، ثم استرسل في التفكير وأنغمس في التأمل في مفاتنها : إنها فتاة متوسطة الطول ، يتأرجح جسمها بين السمن والرشاقة ، طويلة الوجه ، ذات أنف ممتد إلى الأمام ، عيونها كبيرة وبيضاء ، شعرها طويلة إلى حد ما ، ومهذبة وراقية للغاية في التعامل وتَرسُم إبتسامات تتجلى من خلالها جمالها وسحرها الفاتن القاتل . أسنانها بارزة وبيضاء جداً وترتدي "أزياء المرأة العصرية" وتجيد الطباعة على لوحة مفاتيح الكمبيوتر بأصابعها الطويلة .
*************************
تغلغلت كحول البيرة في شرايين الدكتور ليمي بعد أن احتسى زجاجة واحدة داخل غرفته الهادئة وأثقلت جسمه الهائل وخدرته وطوته واخضعته لقوتها . تبدلت هيئته وهو ممدوداً على سريره وبدأ كمن يرقد على فراش الموت ويستعد لتسليم الروح لسلطان الموت ، ثم غطّ في نوم عميق .
كان الليل قد أسدل أوصاله واستقبلت مدينة جوبا قدومه بإنشراح وبدأ الظلام ممتداً إلى أرجاء المعمورة . رنّ جرس محموله مراراً وتكراراً دون مجيب . كان المتصلون في الليلة الفائتة كما تبين له على شاشة محموله بعد أن استفاق في الصباح ، مندوبي شركته الذين ذهبوا إلى مومباسا لاستقبال أُصطول سياراته القادمة من دبي . وكان في قائمة المتصلين سكرتيرته الأجنبية كاثي .
أجرى العديد من الاتصالات بدأها بمندوبو شركته الذين ذهبوا إلى دبي لشراء السيارات. أبلغه مندوبوه بمشكلة جمركية بعد وصول أُصطول سياراته إلى ميناء مموباسا. كانت السلطات الجمركية الكينية تطالبه بضريبة جمركية بلغت أرقام خيالية . أنزعج عند سماعه بالرقم الكلي للمبلغ المطلوب ، فارتفع ضغط دمه ، لكن لم يكن أمامه سبيل آخر سوى دفع المبلغ لئلا يتم حجز السيارات وتتعطل أعماله التجارية .
وجه مدير أعماله عبر الهاتف بإرسال الرسوم الجمركية إلى فرع الشركة بنيروبي قبل ذهابه إلى العمل . بعد أن أجرى اتصالات خاصة بأعماله التجارية وأسرته والحسناء كاثي التي وصلت مكتبها في وقت مبكر ، ذهب إلى العمل وباشر عمله بالوزارة برسميته المشهودة . تدفق سيل ماله إلى مموباسا ، فأتت السيارات بعد ثلاثة أيام .
مال النهار وخرج الموظفون من مكاتبهم لتناول وجبة الغداء (لانج) وخرج العم ليمي مع الحسناء كاثي وتناولا وجبة الغداء في إحدى أرقى فنادق المدينة ، ولحرصه على الإلتزام بالمواعيد عادا بسرعة لمواصلة العمل . كانت كاثي تحس بنشوة لم تحس بها منذ نشأتها .
تقدم الوقت بوتيرة سريعة لم يشعر بها أحد ، وأعلنت عقارب الساعة الخامسة مساءًا . على الموظفين إخلاء مجمع الوزارات ويتوجهوا صوب الأحياء السكنية . ترك العم ليمي مكتبه قبل إنتهاء وقت العمل بربع ساعة وتوجه إلى الفندق الذي يقيم فيه . وفور وصوله ، أجرى اتصالاً بكاثي وطلب منها أن يأتيه في الحال ؛ فاستجابت . كان قد اعطاها عنوان كامل باسم الفندق ورقم غرفته .
خرجت كاثي السكرتيرة وهي تتمايل في سيرها يميناً ويساراً كالقصبة في مهب الريح وصعدت إلى سيارتها . إنها تحب إرتداء أحذية ذات الكعب العالي التي تجعلها تتمشى ببطء ، لكنها كانت ترتدي أحذية عادية في ذلك اليوم . وصلت كاثيتا (كما يدلعها العم ليمي عند مناداتها) إلى وجهتها وأخبرت العم ليمي بوصولها إلى باحة الفندق بلمسة الهاتف بعد أن ركنت السيارة في المكان المخصص للركن . استعد العم ليمي لاستقبال عشيقته .
******************************
مَرّت الأيام وعاش العم ليمي قصة حب مهمومة وساحرة في أحضان عشيقته كاثيتا التي أصبحت زوجته الثانية ، وقضى شهر عسل سري بالفندق ذاته ، ثم قضى شهر عسل آخر في إحدى أغلى الفنادق ، إنتركونتنانتال هوتيل بنيروبي . وبدأ يفقد الاتصال بزوجته الأولى وأولاده شيئاً فشيئاً في نعيم عشيقته الجديدة ، لكن زوجته ظلت على الاتصال به طوال فترة إقامته في العاصمة جوبا حتى سفره إلى نيروبي ، بعد زعمه لها في اتصال هاتفي أنه يحضر دورة تدريبية حول كيف يجب إدارة موارد الدولة .
بعد أن قضيا شهر عسلهما الثاني في إنتركونتنانتال هوتيل ، اتصل العريس ليمي بمندوبو شركته في جوبا وأخبرهم أن يستأجروا له منزلاً بالقرب من جبل كجور العظيم . أفلح مندوبوه في إختيار إحدى أفخم المنازل طويل الحائط وبه أسلاك شائكة فوق حائطه له ، وقاموا بتأثيثه وتفريشه بأثاثات تم استيرادها من الهند . ثم أخبروه بأنه لديه منزل فاخر الآن وبإمكانه أن يأتي للسكن فيه متى ما أراد . وكان قد سكن في الفندق لأعوام ثمانية !
وصل العم ليمي وعروسه كاثي بعد ساعة من الطيران على أجنح الريح على متن المحركة النفاثة إلى مدينة جوبا وحلا وسكنا في قصرهما المُنِيف في ضاحية روك سيتي ! وفي كل صباح ، يذهبان إلى العمل بمرأي من الناس . وبعث مشهدهما بالحيرة إلى عقول الذين أدركوا أمر زواجهما الفندقي .
وذات مساء ، أبلغ العم ليمي زوجته الجديدة بأن سبب إختياره السكن بالقرب من الجبل هو تكريم جده الذي أوصاه بالسكن بالقرب من أي جبل حين كان صبياً . "كان جدي يُحب الجبال لأنها أماكن بها سحر الطبيعة وبركات خاصة كبركة المطر حين تتجمع السحب فوقها" ، هكذا أبلغ زوجته . ثم تابع ، "كان جدي يتحدث إلى كائنات سامية في الجبال ، وكانت تلك الكائنات تأخذه بقوة خارقة إلى قمة الجبل ، فتزمجر الأرض زالزالاً وتدمدم الرعود فوق الجبل الذي كنا نسكن بالقرب منه ويتحدث مع أسلافنا فتهطل الأمطار بغزارة" . لم ترد كاثي بكلمة ، لكنها شعرت بأن حديث حبيبها أشبه بحديث مَن فقد صوابه، لحديثه عن أشياء غريبة. كانت ترى في زوجها ليمي ملهوساً .
انتشر نبأ زواجهما وأصبح موضوع الحديث عند بعض الناس في مجالس المدينة . وكلما كان نبأ زواجهما موضوع الحديث في مجالس الحديث بالمدينة ، كلما أخذ ينتشر حتى بلغ زوجته التي تسكن في عاصمة دولة مجاورة والتي شعرت في وقت مبكر بأن الأشياء لم تكن على ما يُرام .
اتصلت بالعم ليمي وصبت عليه جام غضبها مخيراً إياه بالإختيار بين بقائه معها أو طلاقها . جن جنونها وأخبره بالمجيء إلى جوبا لتخيره على إختيارها زوجة له وحدها ويطلق كاثي أو يطلقها وتبقي كاثي زوجة له من دونها !
*******************************
وصلت السيدة إديث إلى مدينة جوبا من كمبالا وهي في حالة من الغليان والفوران والغضب العارم . كانت تملأها غيرة ضاق بها الفضاء بين السماء والأرض . ورغم علمها بأن بعض رجال الأرض كالعم ليمي لا تملأ النساء عيونهم ، لم تحبذ أن تُشارك زوجها مع إمرأة أخرى تحت أية ظروف .
كانت آتية إلى جوبا لأمرين لا فقط ثالث لهما : أن تبقى زوجة لزوجها الذي فاز فؤاده بأخرى أو تصبح زوجة طليقة وتبحث عن حظها في الحياة مجدداً . كانت قد حظيت باستقبال جميل من قبل الأقارب بالمطار ، إلا أنها لم تشعر بكرم الاستقبال والضيافة تلك . اتجهت أفكارها إلى ما أعتبرتها خيانة زوجية عظمى في حقها .
كانت أخباراً ستدخل في نفسها حزن في انتظارها . وفور وصولها إلى ذلكم القصر تحت جبل كجور ، تفاجأ بنبأ يقول أن العم ليمي تم نقله إلى مستشفى نيروبي مع كاثي فور ارتفاع ضغط دمه بصورة غير مسبوقة في الليلة الفائتة . قضت السيدة إديث ليلتها في حيرة من أمرها . لم تذق النوم ولم تحالفها الحظ في رؤية زوجها بعد وصولها إلى جوبا . كانت أفكارها في منامها تدور حول كيف يتزوج زوجها ثانية وتسوء حالته الصحية بوتيرة سريعة هكذا ؟ ماذا في الأمر ؟
أجرت اتصالاً بزوجها لتطمئن على صحته ، لكنه العم ليمي لم يكن قادراً على الكلام ، فقد أبكمه ارتفاع ضغط دمه المفاجئ وأدخل ذلك كاثيتا ومرافقيه في حالة من حزن عميق . لحقت السيدة إديث بزوجها المريض بمستشفى نيروبي ولم تستطع تحمل رؤية المرأة التي تزوجها زوجها دون مشاورتها وموافقتها .
كان العم ليمي راقداً على فراشه بالمستشفى بعد أن أجرى له الطبيب فحوص طبية ليجد أن ضغط دمه في أقصى درجات ارتفاعه وكان الطبيب يجرى المزيد من الفحوص ليتأكد من أنه لا يعاني من أي مرض آخر . وصلت السيدة إديث إلى المستشفى في اليوم التالي ، وما أن وطأت قدميها عتبة الحجرة الخاصة بالمريض وإلتقاء عيون بعيون المدام كاثي ، هاجمت عليها كوحش ضاري ووسعتها ضرباً ، غير مكترثة بصحة زوجها المريض . كانت تلك بالنسبة لها معركة شرف . لكن فعلتها تلك ملأت المكان زهجاً !
استمرت الحالة الصحية للعم ليمي في تدهور لا يبشر بالخير بعد أسبوعين من وصوله إلى ذلك المشفى العريق . ورغم العراك والهجوم عليها ، ظلت كاثي بالقرب من المريض بصحبة إديث التي اوسعتها ضرباً .
بعد مرور شهر على دخوله المشفى ، عاد العم ليمي إلى مدينة جوبا في صندوق جميل مرصع بالذهب ومغطى بالعلم الوطني . كان المطار مكتظ بجموع من محبيه الذين خرجوا لاستقال جثمانه . كانت زوجتيه إديث وكاثي قد توشحتا بثياب سوداء والحزن مرتسم على وجيهما . إمتلأ المطار بجماهير حزين على رحيل رجل احتل مكانة كبيرة في قلوبهم ، لا سيما الموظفين الذين عمل معهم في وزارة الفلوس لمدة ثماني سنوات . فقدت الدولة رجل مهم ، وتقدم جموع المستقبلين لجثمانه كبار رجال الدولة .
كان لرحيل العم ليمي أثراً كبيراً على المشهد العام . أحس سكان مدينة جوبا الذين لم يذهبوا إلى المطار لاستقبال جثمانه بأن البلاد فقدت رجلاً عظيماً . أُخِذ جثمان العم ليمي بمروحية خاصة للدفن في قريته بعد ثلاثة أيام . مات العم ليمي في ظروف غامضة وبمرض يبدو أن أحداً لم يسبر غوره ، لكن مجالس المدينة عجت بحديث آخر : "مات بمرض داك !"
*العم ليمي ، في هذه القصة ، ليست شخصية حقيقية . اتخذه كاتب القصة كصورة يجسد من خلالها سلوكيات بعض المسؤولين في جنوب السودان ..
دينقديت ايوك
أغسطس/ آب 2012م
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.