(ينابيع) إذا كان العهد المايوي قد ألغت العمودية وجرد العمد من كل الصلاحيات، فإن الثورة المهدية قد سلبت مني الملك والإمارة والمخصصات المالية الضخمة ولقب الأمير، لأن والدتي أميرة وحفيدة ملوك المحس (كوكا).. ولم يكن بمقدور جور الزمان محو لقب (الملك) بالنوبية (أُرُو).. ربما هذا هو سبب كرهي المطلق لكل ما يتعلق بحزب الأمة (أصل أم تقليد).. لست ممن يعيشون داخل جلباب الآباء والأجداد وأمجاد وسلالات الأمهات.. وليس الفتى من يقول كان أبي.. لكن لابد لي من هذه الأبيات التي جادت بها قريحتي في لحظة تأمل: يا تُرى في عصرنا.. من بعدنا.. من مثلي إن تسلني لماذا؟.. شيخ أبي.. وأميرة أمي الكل يصطفون.. من حولي.. ومن خلفي لا يجرؤ أشجع الشجعان أن يسير أمامي والدي من علية القوم ومن كبار ال (أيلجواد) وحلال المشاكل والعقد بالمنطقة.. كان ولياً لأمر طلاب كُثر.. أعتذر للمربي الكبير الوالد سعد الدين طه عندما كلفه بالتدريس في (الكُتاب) وهو المتخرج للتو منه قبل التحول للمدرسة الصغرى، وحلَ الأستاذ وردي مكانه.. لأنه كان قد حزم أمتعته ل (أم الدنيا).. متخصص في تعداد النخيل.. وقسمة الجروف أو ما يعرف ب (الصمد).. ما زلت أذكر طوافي كل قرى الضفة الغربية والجزر وأنا طفل يافع عندما أولاني ثقة الدعاية أثناء حملته الانتخابية للمجالس الريفية بعبري.. كثير الإطلاع للكتب والاستماع للمذياع، لا ينام إلا بهما.. أول من سن فكرة الجمعية التعاونية للسلع الاستهلاكية لدينا وله إسهامات كبيرة في تأسيس شركة كرمة التجارية المحدودة.. لا توجد حالة واحدة في قريتنا وحالات نادرة جداً خارجها بعيدة عن الديون المعدومة لتجارته أو من مزاولته مهنة الترزي.. مع ذلك أعاد لكل مساهم قيمة أسهمه التي تعادل أقل من 5% من ديونه!! مذ الصغر عشت حياة الترف.. فَتَحَتَ عيناي على من يتولى خدمتنا من العمال، حتى علف (البهائم) وسقايتها لم يكن من مهامنا.. لم يلامس جسمي النحيل قط (دمور) ولا (دبلان) مع أنهما صحيان أكثر من (التترون) في ذاك الزمان.. لم أنتعل (الشدة) نوع من حذاء البلاستيك.. ولم أذق (الشدة) والجوع إلا في الشهر الفضيل (جوع إيماني روحاني) .. ولا أدري إن كان يسمى جوعاً ولست ممن يعلمون بأشكال وأنواع وتصنيفات الجوع.. يعني ب (الإنجليزي) لست بحديث عهد ولا مستجد نعمة.. وبالعربي ينطبق عليّ المثل (قام من نومو لقى كومو).. البعض صدمة التحول من العدم إلى الوجود ظلت جاثمة على صدورهم دون فكاك لتحولهم (180) درجة، ولم يتخلصوا من عقدة (العوز) والحزن القديم وكفروا وجحدوا بالنعمة الدخيلة.. الذي عاش حياة العز والرغد عندما يمر بضائقة بسيطة يراها كبيرة، عكس الذي كان أقرب للشحادة من الفقر يرى النعمة الصغيرة كجبل أُحد.. كنت أذهب يمنة ويسرة خارج النطاق (الحاج نركي) بحثاً عما يسمى ب (الكِسرة).. كنا في خصام شديد مع الذرة ومشتقاتها ولا يدخل بيتنا إلا في المناسبات.. هي الغذاء المفضل مع (الكوشوش) و(الكورموتة) ل (الحصان) الأبيض، أقصد (الحمار) المشهور ل (والدي) أبقاه الله ، كان حماراً مؤدباً.. وفياً.. هادئاً.. شجاعاً عند الوغى.. لم يُربط ولم يكن للحبل عندنا قيمة ومعنى.. كان يصدر نهيقاً مميزاً عند الاقتراب من (الحِلة) بكيلومتر، شمالاً كانت جهة القدوم أم جنوباً كإشارة بشرى بمقدم العزيز.. لا ينافسنا سوى المرحوم شريف محمد شريف (شريف عمدنتو) في عدد النخيل ولا أحد يملك النوعيات التي لا حصر لها مثلنا.. وأكرر دائماً قول الرسول صلى الله عليه يا عائشة: (بيت لا تمر فيه فإن أهله جياع).. التونا.. السردين.. الجبنة.. الطحنية.. الطحينة.. العسل.. المربع.. (المستطيل المثلث).. الكاكاو.. النسكافيه.. القهوة.. الزنجبيل.. السحلب.. الكركديه.. قمرالدين..... إلخ) لم تكن هذه الأكلات والمشروبات لدينا من الكماليات.. حكمة: كَدا قايا.. كمكرو كِدا مثل نوبي يضرب لتقلبات الزمن، (كَدا) بلغتنا النوبية ونصر على كلمة اللغة ونضع تحتها مليون خط أحمر، هو الحصى و(قايا) معناه يطفح.. (كمكرو) روث الإبل.. (كِدا) يغرق.. باختصار عندما يطفح الحصى على سطح الماء ويستقر الروث القاع، هو درب من الخيال والمستحيل. [email protected]