السلطات السعودية تستدعي قائد الدعم السريع    راصد الزلازل الهولندي يحذر مجدداً: زلزال قوي بين 8 و10 مايو    (تاركو) تعلن استعدادها لخدمات المناولة الأرضية بمطار دنقلا والمشاركة في برنامج الإغاثة الإنسانية للبلاد    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الأحد    "الآلاف يفرون من السودان يومياً".. الأمم المتحدة تؤكد    انتفاضة الجامعات الأمريكية .. انتصار للإنسان أم معاداة للسامية؟    بوتين يحضر قداس عيد القيامة بموسكو    أول اعتراف إسرائيلي بشن "هجوم أصفهان"    وفاة بايدن وحرب نووية.. ما صحة تنبؤات منسوبة لمسلسل سيمبسون؟    برشلونة ينهار أمام جيرونا.. ويهدي الليجا لريال مدريد    وداعاً «مهندس الكلمة»    النائب الأول لرئيس الاتحاد ورئيس لجنة المنتخبات يدلي بالمثيرأسامة عطا المنان: سنكون على قدر التحديات التي تنتظر جميع المنتخبات    السعودية أكثر الدول حرصا على استقرار السودان    الفاشر.. هل تعبد الطريق الى جدة؟!!    ريال مدريد يسحق قادش.. وينتظر تعثر برشلونة    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة لها مع زوجها وهما يتسامران في لحظة صفاء وساخرون: (دي محادثات جدة ولا شنو)    شاهد بالصور والفيديو.. رحلة سيدة سودانية من خبيرة تجميل في الخرطوم إلى صاحبة مقهى بلدي بالقاهرة والجمهور المصري يتعاطف معها    غوارديولا يكشف عن "مرشحه" للفوز ببطولة أوروبا 2024    ريال مدريد ثالثا في تصنيف يويفا.. وبرشلونة خارج ال10 الأوائل    تمندل المليشيا بطلبة العلم    الإتحاد السوداني لكرة القدم يشاطر رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة الأحزان برحيل نجله محمد    ((كل تأخيرة فيها خير))    الربيع الامريكى .. الشعب العربى وين؟    وصف ب"الخطير"..معارضة في السودان للقرار المثير    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    مستشار سلفاكير يكشف تفاصيل بشأن زيارة" كباشي"    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    قائد السلام    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    العقاد والمسيح والحب    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثمان عشرة "18" حلقة متتالية، من: حكاية الشابة الإنجليزية فان
نشر في الراكوبة يوم 06 - 07 - 2014


يسا أو الإنفجار الكوني العظيم/بيق بانق
لدي هذا الرابط التسع حلقات الأولى من العمل والحلقات التسع الجديدة من "10 إلى 18" مثبتة أدناه.
http://www.alrakoba.net/articles-act...w-id-50590.htm
عند هذا الرابط خريطة للمكان الأساس الذي جرت به أحداث القصة على "نهر الأوز بضم الألف" في بلدة سيلبي بشمال يوركشير البريطانية:
http://www.touruk.co.uk/maps/townmaps.php?town=546
"10"
كانت الساعة الثامنة والنصف صباحاً، نزلت فانيسا إلى الأسفل ثم عادت مدت رأسها ممسكة بحافة الأدراج الخشبية، تناديني "بيبان الإفطار". بيبان لقب خاص بي اشتقته فانيسا بتصرف من عبارة "بيق بانق" فأصبح الإسم الذي يناديني به الجميع في المنزل بما فيهم دانيس. عندما وضعت أول خطوة على الأرض رفعت جانيت يدها اليسرى من مفاتيح الة البيانو بينما هي في نهاية مقطوعة "مونلايت سوناتا"، نادت دانيس للقدوم إلى المائدة. كان دانيس ما يزال يلعب على الكمبيوتر.
فانيسا ومارغريتا مشغولتان بإعداد المائدة. جلس دانيس في الركن الأيمن من الطاولة الفسيحة، طولها ثلاثة أمتار وعرضها مترين مغلفة الحواف بشريط من الفضة الخالصة. جاءت جانيت أصلحت من وضع دانيس على المقعد الخاص بخفة وبراعة وجلست في الناحية الواقعة من أمامي مباشرة، ومارغريتا في الركن الأيسر بينما جلست فانيسا بيميني لصيقة بي يحتك كتفها الأيسر بكتفي الأيمن بشكل تلقائي ومكنيكي.
"أتحب الشاي بالحليب؟" سألتني مارغريتا كمقدمة للمزيد من التعارف بينما هي تصب الشاي السيلاني الأسود على كوب ثلثه من الحليب الساخن، أومأت برأسي "نعم، شكراً للطفك مدام". ناولتني فانيسا برادي الشاي والحليب ثم شرعت في إعداد طبقها من شرائح الطماطم الحمراء المقلية والفطر المملح والفاصوليا المخبوزة و الخوخ المطهي والعسل الأسود والخبز المحمص مع نصف كوب من عصير البرتقال. قدمت لي فانيسا قطعة من الفطر المملح : "جرب هذه"، كانت في الحقيقة رديئة لكنني كذبت على سنة شروط اللحظة: "يممم لذيذة"، ثم أعددت طبقي من بياض البيض والنقانق والبودنج وقليل من السلطة الخضراء وقطعة واحدة من الخبز المحمص.
كانت مارغريتا فضولية بطريقة مكشوفة، واجهتني بعدة أسئلة روتينية، عادية لكنها مقلقة وسؤال واحد نوعي قبل أن أستطيع القيام بتكتيك مضاد بمساعدة عفوية من دانيس فاستفتيتها بصورة متكلفة في أمور السياسة البريطانية وتحديداً فيما يتعلق بالتعليم والصحة والضمان الإجتماعي عاقداً مقارنة بهولندا. وكنت أعرف سلفاً بواسطة فانيسا طبعاً، الخطوط العريضة لهموم واهتمامات مارغريتا العامة كما الخاصة والأسرية. كنت على يقين أن أموراً كثيرة ستكون سهلة وأفضل في علاقتي بفانيسا وبقية أفراد الأسرة إن لاقيت رضى أو إستحسان مارغريتا وكان حلمي أن أنال إعجابها وكان هو بالضبط ما خططت له بمساعدة موعية ودفع مرتب من فانيسا.
كانت جانيت جل الوقت صامتة، شبه محايدة، فقط كانت تهز رأسها استحساناً كلما سمعت مني ما يروقها تجاه أسئلة مارغريتا النازعة إلى الكشف عن خلفياتي الأكاديمية والمهنية وعاداتي وسلوكياتي في الحياة وقياس مستوى ذكائي الإجتماعي. كانت الأسئلة تبدو بسيطة ومبررة لكنها في غاية الدهاء وبعض المكر الخفي.
السؤال العادي لم يكن عادياً كان موجهاً لي وفانيسا بذات القدر: "كيف وأين التقيتما؟" ألقت مارغريتا بالسؤال على الطاولة ثم نظرت ناحيتي تنظر الإجابة متجاوزة فانيسا بنظراتها ، فأجابت فانيسا على وجه السرعة ممازحة نيابة عني وأصالة عن نفسها: "ألتقينا في السديم قبل البيق بانق"، ضحكت جانيت وأبدت مارغريتا دهشتها من كلام فانيسا: "أتمنى أن تتحلي ببعض الجدية"، "ماما، أنا جادة" قاطعتها مارغريتا بحزم: "إن كانت الإجابة عصية فلن أدخل أياً منكما السجن" ثم ألتفتت ناحيتي من جديد وبدت فكهة لأول مرة "ماذا فعلت بالبنت؟، لقد كانت منطقية في السابق". ضحكنا أربعتنا وضحك أيضاً دانيس بشكل تلقائي ثم ترجل وجاء وقف بجانبي متسائلاً عن الألعاب التي أحب وعن أسماء لعيبة الكرة الإنجليز الشهيرين الذين أعرف كاشفاً عن معرفته الواسعة في الضد مني في مجال ألعاب الكمبيوتر و "البلي إستيشن" ولعيبة كرة القدم وكنت كما هو متوقع ومنطقي أعطيه الأولوية في الاستماع والاستجابة كما متخذاً منه مهرباً من أي سؤال آخر ربما تباغتني به مارغريتا من المحتمل أن يعكر صفو الانتصارات النسبية التي حققتها في الجولات الأولى من مارثون التعارف القلق.
"أتريد المزيد من الشاي" لاطفتني جانيت بينما هي تطلب من دانيس إلزام موقعه من المائدة، صبت لي الشاي، أندس دانيس خلف مقعدي، شعرت بالملعقة التي يحملها تلتصق بظهري، كانت معطونة في العسل الأسود، بلت قميصي، لزمت الصبر، حتى أنقذتني فانيسا "ما هذا دانيس" وبخته في دلال ثم حملته على حجرها، سرعان ما تمدد يرقد على بطني وساقاه على حجر فانيسا وهو يطلبني للعب معه بالخارج: "ستلعب معي الكرة على ضفة النهر؟"، "طبعاً سنفعل"، "وفانيسا معنا؟"، "طبعاً". نهض دانيس دار عدة مرات حول المائدة، سقطت منه الملعقة على الأرض بجانب مارغريتا، أنحنى عليها فرفعتها مارغريتا قبل أن يصلها، قبلته على خده بصوت مسموع ثم أمرته بغسل يديه وفمه قبل أن تعطيه الملعقة من جديد ليضعها في حوض الغسيل.
لمست فانيسا قميصي من الخلف التصق أصبعها ببقعة النسيج المعطونة بالعسل وضعت أصبعها على لسانها: "اصبحت بطعم العسل"، ضحكنا معاً، لم يعد هناك أحد غيرنا على المائدة. في اللحظة التي انتهينا عندها من وضع الأواني في الغسالة جاء دانيس بالكرة: "هيا بنا بيبان إلى النهر وانت أيضاً معنا فانيسا".
"11"
شاطي الأُوز ناحية منزل آل منتجمري مدجن وشبه خال من الطبيعة الوحشية التي يتمتع بها في كثير من أرجائه الأخرى ما خلا عدة أشجار متفرقة تؤمها الطيور، ثعلب الماء لم يعد يرى في تلك الأرجاء كما كان حاله في أزمان سابقة، الشاطي متصلب عند حواف الرصيف، ويبدو جلياً أن النهر تلك الناحية واجه تحديات كبيرة مصطنعة بواسطة البشر ما حدا بسلطات بلدية سيلبي وضع ترتيبات مسبقة للملاحة كما السباحة والصيد وركوب الزوارق . غير أن روح النهر ما تزال ثابتة تختلط بروائح أخشاب السفن العتيقة.
كانت الساعة الحادية عشر صباحاً، الشمس ساطعة، درجة الحرارة أربعة وعشرين مئوية فوق الصفر عندما تركتني فانيسا على الشط عائدة بدانيس إلى المنزل وفق نداء جانيت بعد ساعة ونصف من اللعب المتواصل معه على حافة النهر ثم عادت فانيسا من جديد ومعها مضربان وريشة فلعبنا معاً البادمنتون نصف ساعة من الزمان، وعندما مللناه، أخذنا بخاصرتينا وطفقنا نتسكع على الشط في الحدود المنفلتة بين سيلبي وهامنقبرو على مدى عدة كيلومترات، تحدثني فانيسا عن جغرافيا وتاريخ سيلبي وضواحيها وعلاقتها بالبلاد ككل ونهر الأُوز وأحدثها عن تاريخ الكون قبل وبعد البيق بانق وكنا نصغي إلى بعضنا البعض في سمت حميم لا يشوبه سوى رهق المسير، مشينا بلا خطة ولا وعي منا حتى أصبحنا في مركز بلدية سيلبي.
.
استقر بنا المقام على كنبة خشبية في واجهة مبنى البلدية الجديد. فككنا وثاق بعضنا البعض وجلسنا، مسكت كف فانيسا اليسرى، تأملتها، شعرتني أطيل النظر في كفها بين يدي "كيف تراها؟"، "جميلة، شهية"، ضحكنا.
أجسادنا تاريخ هذا الكون. كف فانيسا مصنعة من الخوخ والفطر والعسل الأسود والقمح والماء والمعادن والأوكسجين، أستطيع أن آكلها حرفياً فتكون جزءاً عضوياً مني فلا مانع إلا الفكرة، أجسادنا ربما كانت أجساد آخرين في الماضي وستكون لآخرين في المستقبل. ليست أجسادنا فحسب بل مشاعرنا ورؤآنا بدورهما قادمان من البعيد من حيث الأزمنة والأمكنة، بلايين الأزمنة والأمكنة. الفطر المملح الذي نأكل عمره بلايين السنين وهو بدوره يأكل نباتات وأجساد وأجسام عمرها بلايين السنين.
الأفكار التي لدينا بدورها ليست لنا، تتخلق وفق أقدارنا، وتنشأ بين أجسادنا التي ليست لنا وبين أفكارنا التي ليست لنا مشاعرنا التي ليست لنا.
"من نحن إذن؟"، "نحن من البيق بانق"، "نحن لسنا من البيق بانق فحسب، بل نحن البيق بانق ذاته"، الحقيقة الوحيدة هي البيق بانق، الروح الكلية، نحن لسنا مستقلين في أي شئ عن هذا الكون، الأجسام والرؤى والأرواح تؤول إلى نقطة واحدة هي جوهر الوجود في الماضي والحاضر والمستقبل، قبل وبعد وما يلى البيق بانق، غير أن البيق بانق حدد مصير اللحظة الراهنة من جوهر الوجود". ليس الروح فحسب بل الأجسام طراً تؤول إلى جسد واحد، جوهر واحد، والروح ليست سوى مادة متحررة والمادة ليست سوى روح جامدة وكليهما يستطيعا أن يتبادلا المواقع عند أي لحظة بيق بانق جديدة أو فيما بين اللحظات المختلفة.
كل لحظة موت مفردة تعقبها لحظة حياة مفردة والعكس صحيح وكل لحظة موت كلية تعقبها لحظة بيق بانق أي حياة كلية جديدة. الدخول في لحظة الحياة مؤلماً بذات قدر الخروج منها.
الوليد يصرخ ألماً عندما يخرج من رحم أمه إلى الوجود الحاضر كونه يشعره موتاً بعد حياة هانئة في عالم رحم أمه لا مشقة فيها ولا عناء فيجئ إلى عالم جديد عليه أن يبحث فيه بنفسه عن الهواء والماء والطعام ويواجه وحشية الأشياء والكائنات ويتحمل قدراً مهولاً من الآلام المادية والنفسية والعقلية في بيئة إجتماعية تفرض عليه قسراً، لديه واجبات وحقوق مفروضتان عليه قسراً ثم في نهاية المطاف لا بد أن يمر من جديد بتجربة قاسية ومخيفة إسمها الموت، تجربة بدورها مفروضة قسراً لا خيار فيها وعندما يموت لا يموت بل يعود ليتحد من جديد مع الجوهر الكلي للكون في إنتظار دورة بيق بانق جديدة، حياة كلية وموت كلي وهكذا دواليك تتشكل المفردات من جديد ونحن منها في دورة حياة وموت وحياة وموت وهكذا دواليك، ولا موت ولا حياة إلا ما تخيلناه، فقط هو جوهر الوجود يمارس خصائصه الأزلية أبدية السمت.
"ألم أقل لك أنت فيلسوف يا بيبان!"، "لا أظن، أنا فقط أبحث عن معنى وكيفية ما يحدث بيني وبينك وبيني وبين نهر الأُوز وبيننا معاً، وبيننا والوجود الحاضر وبين الوجود الحاضر والكون في كلياته".
"هل وجدت تفسيراً للوثة الأُوز التي تلبستك أوان نزولنا من البص ومرورنا بمنحنى النهر؟"، "رائحة النهر في تلك اللحظة كانت بلغة الكمبيوتر مثل سوفتوير يجري تحميله يتعرف به جسدي على مفردة كونية (هاردوير) دخلت مجاله الخاص وهي هذه المرة نهر الأُوز".
---
ملاحظات ما: هذه القصة تصنع بشكل تلقائي ومباشر وعلى الهواء الطلق وتنشر كل حلقة بواسطة كاتبها على حسابه الخاص بالفيسبوك وموقع الراكوبة. القصة مكتملة الفكرة لن يغير منها شيء تعليقات وإرشادت الأصدقاء سواءاً كانت مادحة أو قادحة جيدة أو رديئة (لهم الشكر)، فالأحداث التي جرت أصبحت في رحم الماضي وليس في الإمكان أحسن مما كان!. أي لا يمكن تغيير أي شئ لأن الأحداث نسيج من بعضها البعض.
مع العلم أننا حتى هذه الحلقة "11" نحكي عن اليوم الثالث من زمن القصة في حين أن مجمل الأحداث جرت في ثلاث سنوات من الزمن الواقعي. الأخطاء اللغوية والطباعية المحتملة يمكن إصلاحها حين الكمال المادي للنص.
"12"
بينما كانت فانيسا تتساءل من جديد عن "جوهر الوجود" رن جرس الموبايل. كانت صديقتها المقربة ليليان هذه المرة.
"أربكني حديثك عن عدم أصالة الكائنات والأشياء والمشاعر والآراء ، شعرته صحيحاً، كوني أنا ذاتي غيرت آرائي في الأعوام الماضية عدة مرات وتقمصت آراء آخرين كما أن حديثك عن الجسد أيضاً وجدته بديهياً في منطقيته والأدهى هو المشاعر كما الغرائز بدورهما موروثتان، إذن ما هي أصالتنا كبشر يا بيبان وما هي الأصالة مطلقاً، هل توجد؟".
تلفون ليليان قطع تراسل حوارنا الحميم حول جوهر الوجود. كانت فانيسا مستغرقة في المحادثة مع ليليان بينما هي تمارس عادتها معي عندما تتحدث بالتلفون، تحرك يدها كيفما أتفق على جسدي تمسج يدي وأحياناً كتفي المقابل لها بينما تنظر من حين إلى أخر في عيوني وكأنها تسعى إلى طمأنتي بأنها ليست غائبة معنوياً بغض النظر عن أهمية الفعل الذي تفعل. فانيسا وليليان صديقتان مقربتان منذ عهد الطفولة الباكر. كما أن علاقة فانيسا بليليان ذات أهمية وخصوصية شديدة تفوق جميع صداقاتها بالآخرين.
ليليان "المومياء" هكذا يلقبها الأقربين منها وتفعل فانيسا من باب التشجيع والدعابة. الطبيب ذكر أن ليليان ماتت لمدة ثلاث دقائق ثم عادت إلى الحياة بعد حادث حركة بمدينة بنسلفانيا الأمريكية، قبل تسع سنوات خلت. تسببت السيارة المسرعة في تحطيم قدر كبير من عظام الحوض والفك والساعدين وتعرضت الجمجمة لعدة شقوق من ناحيتي وسط الرأس وفوق الأذن اليسرى. ماتت ليليان سريرياً ولمدة عدة دقائق ثم بايلوجياً لدقيقة ونصف قبل أن تعود للحياة من جديد في معجزة نادرة الحدوث وظلت في غرفة العناية المكثفة لمدة ثمانية أشهر وأحتاجت إلى ثلاث سنوات كاملات لتصل إلى مستوى يؤهلها لمباشرة الحياة اليومية .
تعيش ليليان الآن بعين يسرى صناعية وأجريت لأصابع يدها اليمنى عدة عمليات تجميل جعلتها أقرب إلى المستوى الطبيعي من ناحية المظهر غير أن الأداء الحركي لا يتعدى أربعين بالمئة كما زرعت لها أسنان علوية صناعية تعمل بكفاءة شبه تامة.
ليليان الإبنة الوحيدة وسط ولدين للبروفسير إسكوت ميناري، أستاذ الفيزياء الفلكية النووية بجامعة يورك الإنجليزية. عمل إسكوت ميناري من قبل، عدة سنوات في وظيفة كبير مستشاري الحراريات بوكالة الفضاء الأمريكية ناسا قبل أن يعود وأسرته من جديد إلى سيلبي حيث يعيشون في ضيعة فسيحة موروثة في الناحية الشمالية الشرقية من البلدة.
وبينما أنا وفانيسا في الطريق راجلين إلى منزل ليليان هاتفت جانيت فانيسا: "دانيس يفتقدكم، قال أنه يود اللعب مع بيبان"، "نحن في الطريق إلى ليليان، ربما لا نعود قبل السابعة مساءا"، "والعشاء؟"، "لا أدري، سأحدثك بعد ساعة من الآن"، "حسناً".
تبدى من على بعد مائتي متر منزل أسرة ليليان، ضيعة فسيحة محاطة بِأشجار البلوط الأخضر والأحمر في مساحة مقدارها ثمانية هكتارات.
كانت فانيسا تطوق خصري بيدها اليمنى وأدس يدي في جيب بنطالها الخلفي حينما شرحت لي من جديد تفاصيل القصة التي أعلم غير أن فانيسا تحب أن تحدثني على أي حال وأنا أحب أن أسمعها في كل الأحوال: "اليوم ستلتقي المومياء من جديد، كانت معنا يوم لقائنا الأول بالقطار بجانب أليكسا وجاءت نامت معنا في غرفة الفندق، ألا تذكرها، إنها ليليان "، "المومياء؟، لا بد أنها رائعة، المومياء!".
"13"
أشتبكت المومياء بفانيسا في عناق حميم، دفعات من القبل المتتالية بينما كانت فانيسا تقبض بيدي من الخلف وكأني سأهرب منها. وفي خضم العناق الساخن: "هذا بيبان، ألا تذكرينه؟"، "طبعاً"، ثم سالمتني المومياء ثلاث مرات، مرتين على خدي الأيسر ومرة واحدة على الأيمن وفق الإتكيت المتبع: "صديقك رائع يا فنيسا".
المومياء أقصر من فانيسا بعدة سنتمرات في فستان أزرق قصير وحذاء بلاستيكي من الإسفنح أبيض اللون أزرق الأسورة محلى بخرزة سوداء لامعة عند نقطة تلاقي الأسورة . أصابع أقدامها متناسقة كما أصابع يديها وعيناها بدتا جميلتان تتحركان وترمشان بشكل طبيعي، يبدو جلياً أن العين الصناعية مغروسة بإحكام مع العضلات والأعصاب الحسية. جل الناس تؤكد أن فانيسا باهرة الجمال غير أن صدرها صغير في الضد من المومياء. وإن جازت المقارنة بنظرة موضوعية فإن المومياء تتمتع بتقاسيم جسمانية حادة ليس من حيث الصدر فحسب بل أيضاً ملامح الوجه وعظمتي الوجنتين والأنف المشرئب والساقين والساعدين والكفل وليس ذاك فحسب بل تظهر أكثر أنوثة ودلال وتتحدث على سجيتها في سمت شديد العذوبة، تدرس الفنون الجميلة بجامعة يورك، متأخرة سنتين عن أقرانها، لديها مرسم خاص في الجناح اليساري من الضيعة.
"تعالي فانيسا وانت أيضاً يا بيبان". فتحت ليليان مخزن صغير يقع في الحديقة الخلفية ذات السياج الخشبي القصير، عشرات زجاجات الواين الأحمر والأبيض وعدد لا يمكن حصره بنظرة واحدة من قناني الويسكي الأحمر والأسود والأزرق والأبيض وأشكال وفنون من ضروب المشروبات الروحية الأخرى الإنجليزية والأجنبية. مسكت فانيسا زجاجة واين أحمر معتق ثم شرعت في حوار قصير مع ليليان.
تجولنا في المرسم عدة دقائق، لوحات متشابكة الألوان لا أفهمها فقط شعرتها غريبة. ثم أخيراً أستقر بنا المقام في الجناح الخاص بليليان، غرفة فسيحة في حجم صالون آل مونتجمري هي الحجرة الخاصة بليليان ملحقة بعدة مباني أخرى أقل في الحجم وبها حمام وتوليت مشتركين في الناحية اليمنى من الضيعة الفسيحة. الأساس في فخامة مبهرة ولافتة للنظر. جلست فانيسا كالعادة لصيقة بي بينما كانت ليليان تفتح زجاجة الواين الأحمر الذي أنتقته فانيسا، جاءت مسكت بيد فانيسا: "يبدو أنك سعيدة"، ماذا فعل بك بيبان" ضحكنا معاً، صبت ليليان الواين في الكؤوس : "شكراً جزيلاً ليليان" شرعت ألاطف المومياء، "إنها بنت رائعة" قالت فانيسا تلك العبارة بينما هي تسقط بثقلها ناحيتي وهي تضحك في سمت شديد الصدق والبهاء، كل شيء كان من القلب، من الأعماق. ليس القلب وحده، الروح، بل الأجساد صادقة بذات القدر، الكون كله يترامى ناحيتي مقود بسلاسل من البيق بانق، صدر فانيسا في صدري وأنفاسها في أنفاسي: "سأجعلها تحدثك عن الموت". فانيسا عندما تأتي، تأتي بكلياتها من الصدر والروح والأنفاس وكل شيء.
ليليان المومياء ليست مومياء بل حيوية وحية وصاخبة الإنفعالات حساً ومعنى. شربت ثلاثة أكواب من الواين الأحمر ثم رقصت وحدها عدة دقائق يتقدمها صدرها الفخيم: "أنا سعيدة بكما أصدقائي".
خطر لي لوهلة أن أسألها عن الموت في الحقيقة "الموات"، فضولي يغالبني، ربما كانت اللحظة بعد غير مواتية، هذه الفتاه "بعاتي" قامت من الموت. كيف هو الموت؟. لم أشاء أن ألقي بالسؤال على طاولة الدهشة كون الفتاة مسكت من جديد بيد فانيسا: "تعالي"، وقفت فانيسا بجانبها بينما أنا قابع في مكاني مبهوت بعض الشيء تعتريني مشاعر مزيج من المتعة والدهشة والغرائزية المتوارية خلف ركام من الحيرة المتحالفة مع حب الإستطلاع، أخذا يحركان جسديهما في ملمح راقص رهيف السمت وهما يدندنان تلك الأغنية التاريخية المبهمة والغارقة في الأعجمية.
تذكرت لوهلة دانيس، شعرت به يفتقدني، شعرت بالإنتماء، رأيتني ألعب معه الكرة. الفتاتان ما زالتا ترقصان، تضحكان، شعرتني أسمعهما وكأنني تحت الماء. نهر الأوز يقبع ثلاثة كيلومترات من هنا ناحية الشمال يمارس عاداته الأزلية. ليس النهر فحسب هو الذي يمارس عاداته الأزلية بل أنا وفانيسا والمومياء، كلنا مثل النهر مثل الجبال مثل الهواء والمطر نمارس ذات السمت منذ الأزل. ضحكت فانيسا بشهية ثم سقطت بغتة على المقعد بجواري كتفها على صدري ويدها اليسرى على فخذي الأيمن تسوح بها كيفما أتفق: "أوووه بيبان" ثم ألتفتت ناحية المومياء: "أجلسي، بيبان يود أن يعرف منك تجربة الموت، إنه فضولي جداً"، ضحكنا.
"14"
كان هناك صوت محرك سيارة تدخل المنزل من الناحية الخلفية بينما المومياء تخبرنا ملتصقة بالنافذة: "لم أشعر بشيء، لا أذكر أي شيء، لا أذكرني، لا أذكر الحادثة، أبي هو الذي حدثني بتفاصيل الحادثة، نعم، قالوا أنني مت، لا أدري، لا أعرف، لا أذكر أي شيء"، ثم نظرت عبر النافذة نصف المفتوحة: "إنه أبي، ستراه يا بيبان عندما يكون مزاجه مواتياً، هو يهتم جداً بمثل القضايا التي تثيرها انت، إنه مدرس فيزياء، لك أن تتصور".
بروفسير إسكوت ميناري دخل المنزل وأنزوى لوهلة في جناحه الخاص.
فانيسا تحدثت مع جانيت ثم دانيس في الختام، دانيس كان يود مكالمتي غير أن جانيت لم تحبذ الفكرة لسبب ما، قررت فانيسا: "أننا ربما تعشينا مع ليليان هذه الليلة، مع السلامة جانيت، أووه دقيقة واحدة من فضلك، دعي دانيس يكلمني للحظة".
البلدة هادئة في ظاهرها، لا صوت غير صوت محرك سيارة البروفسير تلك اللحظة، في الحقيقة صدى الصوت ليس إلا. نهر الأوز يتخذ سبيله بلا ضجيج، لا مطر ولا ضباب في الأفق، الطقس صحواً، فقط بعض السحائب البخارية المتفرقة تتلون في قوس قزح كاذب يسطو عليه البرتقالي، ليليان فتحت زجاجة واين أحمر جديدة من ذات النوع الذي يروق فانيسا، يدي في يد فانيسا بينما ليليان تصب المزيد من الشراب في الكؤوس المنقرشة الحواف الداخلية باللون الأحمر وكأنه دم القرابين. الشمس تدثرت بلون قان باهت السمت في لحظة وداعها الأخيرة.
دخل بروفسير إسكوت ميناري إلى الغرفة وفق إشارة ليليان الملحاحة عبر النافذة: "من أنت؟" سألني ببعض الجفوة غير المفتعلة ولا المعنية : "إنه صديقنا، أعني صديقي"، أجابت فانيسا قبل أن تدعني أنطق بالكلمة: "أنا صاحب نظرية كونية كلية جديدة" مازحت البروفسير إسكوت بينما أشعر ببعض الحرج غير المبرر.
بروفسير إسكوت اشتهر بعبارة فظة: "أي تجاوز للوقائع العلمية الراهنة بلا براهين بديلة من المحتمل أن يؤدي بنا إلى دائرة عدمية من التصورات الذهنية البحتة المفضية إلى مسافات غير متناهية من العدمية". غير أنه برغم القسوة الأكاديمية التي يتحدث بها فإنه شديد الإنتقاد للنظرية النسبية ويعتبرها في عداد الأفكار البالية منطلقاً من فيزياء الكم ليصل ولو ببعض الحذر إلى نظرية الأوتار الفائقة في محاولة إيجاد تفسير كلي ونهائي وشامل لمظاهر الطبيعة.
ذهبت لوهلة إلى الحمام المشترك، تعمدت فانيسا لحظة خروجي من الحمام كي تلتقيني في خلوة : "أنا فخورة بك جداً، لقد جعلت البروفسير يصمت دهشة حين حديثك عن نظريتك في الأكوان المتقاطعة والمستقلة كما المتناسقة في ذات الآن مع قوانين بعضها البعض، مدهشة، واصل حديثك معه كم هو ممتع".
على حافة زاوية الحمام ضمتني فانيسا إلى صدرها، كان قلبها ينبض بالحياة، النافذة نصف المفتوحة تستطيع السماح لأشعة باهتة بالدخول إلى الغرفة الفسيحة، نهر الأوز يرسل زفرات وانية والسحب البرتقالية أخذت لوناً رمادياً داكناً بينما توارت الشمس للتو نحو مستقر مستحيل. جذبتني فانيسا بغتة إلى داخل الحمام من جديد، وبينما هي تغير السدادة القطنية (التامبون): "هذا هو اليوم الأول، كنت قد ظننتي حامل"، ضحكنا معاً، ثم واصلت فانيسا حديثها: "قل لي ما هي التجربة الذهنية المقاربة التي تود فعلها بي كما أنك قلت أنا أمثل الكون كله، قل لي كيف يكون ذلك؟".
المادة الحية "البيولوجية" في معادلة بسيطة تكون محصلة تصورات، مشاعر، غرائز ومادة بايلوجية "الجسد". الجسد مجرد مادة من نظائر الكون الفيزيائية وخاضع لقوانين الجاذبية والنظرية النسبية وفيزياء الكم وأي قوانين فيزيائية أخرى محتملة إنه مادة ميتة مؤقتاً حتى تتلبسه الخصائص الأخرى فيدب فيه النشاط الحيوي الذي نشهده في الحياة اليومية.
"كيف تحدث الشرارة الأولى؟"، "لا توجد شرارة أولى وأخرى نهائية، عناصر الكون بما فيها الروح (التصورات والمشاعر والغرائز) تقوم في دائرة غير مبتدئة من نقطة محددة ولا منتهية بأخرى، كل لحظة موت مفردة تعقبها لحظة حياة مفردة جديدة وهكذا دواليك وكل لحظة موت كلية تعقبها لحظة حياة كلية أي بيق بانق جديد وهكذا دواليك في دورة غير منتهية البدايات ولا النهايات".
لا يوجد بيق بانق واحد ولا كون واحد ولا قانون فيزيائي واحد وشامل ومطلق. هناك عدد غير محدود من الأكوان التي تشبه أو تختلف عن كوننا هذا الذي هو في تصورنا. الكون الواحد يتكون بدوره من عناصر غير محدودة العدد ذات قوانين فيزيائية مختلفة جذرياً ونحن ككائنات حية في اللحظة المفردة نستطيع فقط التعرف على العناصر التي تشابه خصائصنا الفيزيائية ما لم نستطع إختراق السمت الفيزيائي الذي يحجبنا وهو أمر من الصعوبة بمكان كبير.
الروح تقوم من كل الأكوان مقام الهواء من غلاف الأرض، التصورات والمشاعر والغرائز تسبح في الفضاء في حرية مطلقة وفق قوانينها الخاصة المختلفة جذرياً وليس الفضاء فحسب بل كل مكان. وبمثل ما يتكون البيولوجي من عناصر محددة من النسق المادي الذي نعلم تتكون الروح من مادة قائمة سلفاً فقط ذات قوانين فيزيائية مختلفة.
جميع التصورات المعنوية والمفاهيم والآراء ومشاعر الحب والإيثار والبغض والحقد و لذعات الألم والمرارة والحسرة والمتعة واللذة والخوف قائمة سلفاً في النسيج الكلي للكون، للأكوان. الأكوان كلها هنا، عدد غير محدد من الكائنات الحية يقيم بين ظهرانينا، لكن السمت المختلف لا يجعلنا نراها بالعين المجردة أو حتى نفكر مجرد تفكير في القدر الأعظم منها، لا توجد كائنات فضائية، جميع الكائنات هنا، لا يوجد فضاء بالمعنى الحرفي للكلمة، لا توجد مسافات في مليارات السنين الضوئية، هذا وهم، الأكوان كلها ملخصة في جوهر واحد هو "هنا" فقط ذي سمت فيزيائي غير محدود في إختلاف قوانينه.
"هذا أمر غريب، قل لي ما هي التجربة الذهنية المقاربة التي تودني أن أقوم بها معك يا بيبان، كما أنني مغرمة بقولك أنني أنا ألخص الأكوان كلها دفعة واحدة!".
"15"
"الآن نبدأ التجربة، سأغلق باب الغرفة والنافذة، ربما تستغرق العملية عدة ساعات"، "إذن لحظة، دعني أخبرهم أننا مشغولان، دانيس ربما داهمنا في أي لحظة قاطعاً تراسل التجربة، قال قبل قليل أنه يود اللعب معنا على شاطي النهر، سأخبر جانيت". نزلت فانيسا إلى الأسفل ثم عادت: "أها، قل لي يا بيبان ما هو المطلوب مني، أنا جاهزة ومليئة بحب الإستطلاع". "ستخلعي ملابسك، وتقفي من أمامي عارية كل مدة التجربة الذهنية"، "سأفعل"، "ليس ذاك فحسب"، "ماذا إذن؟". في تلك الأثناء رن جرس الموبايل: "آسفة كان وجب أن أغلق الجهاز، نسيت، إنه رقم أليسكا الحزينة: "هللوو أليسكا، ، نعم صحيح، لا بد أنها المومياء، سأستشير بيبان وأهاتفك لاحقاً، مع السلامة أليسكا". "إنها أليسكا صديقتي الأخرى، نسميها أليكسا الحزينة، هما فقط أليسكا وليليان، عندي صديقتان مخلصتان، تحدثت أليسكا مساء الأمس مع ليليان وعرفت أنك معي، هي تود لقائنا، إنها فضولية، دعتنا للغداء معها يوم الغد، ما رأيك؟، لكن دعك الآن من هذا، سنفكر لاحقاً، أنا شديدة الفضول تجاه التجربة".
"أليكسا الحزينة؟". قتلت والدها عبر خطأ فادح، كانت كلمة واحدة فقط "نعم"!. أجابت على السؤال الخطر والمباغت بالإيجاب، قالت كلمة واحدة كان مفعولها كالبارود في صدر والدها رودريك كوزينس. قالت: "نعم"، كرر الموظف السؤال من جديد " تحرش بك جنسياً؟"، "نعم"، صمتت خططت تأصل الكذبة : "لكن لا يجب أن يعلم أني جئت إلى هنا، سيقتلني". موظف قسم الحالات الطارئة ببلدية سيلبي أدى عمله بكل صرامة مع بعض القسوة في تقريره المكتوب في حالة الوحش المغتصب لإبنته وفق إقرارها بنفسها، إنه أمر في غاية الشذوذ، لكنه للأسف يحدث، نادراً جداً، لكنه يحدث بكل بشاعة، إنه من حقائق الواقع، وهناك حالة هذه المرة في مواجهة الرجل المدعو (رودريك كوزينس) والد الصبية أليسكا خمسة عشر عاماً.
تم تجهيز مأوىً خاص بالفتاة المسكينة بعد إقرارها بالأمر الفادح مع الأخذ في الحسبان الإحتياطات اللازمة لضمان سلامتها الجسدية والنفسية. أليكسا كان عمرها ذاك الوقت خمسة عشر عاماً لكن مذ بلغت الثالثة عشر ملت الحياة بالبيت، كانت مراهقة طامحة بطريقة مفرطة ذات علاقات غرامية وجنسية متعددة وتدخن التبغ سراً كما تشرب الكحول كلما حانت الفرص ولا تهتم كثيراً بواجباتها الدراسية ولا الأسرية. والدها كان محاسباً مالياً مرموقاً بإحدى المدارس الخاصة بسيلبي ووالدتها (كورا روسيل) تعمل في وظيفة مشرفة بمخازن مستشفى النصب التذكاري للحرب العالمية الأولى في شارع دونكاستر .
(النظام الرأسمالي في إنجلترا وعلى وجه العموم مضاد للتنظيمات الطبيعية مثل الأسرة والعشيرة كما النقابات العمالية وكل ما له صلة بالتشكيلات الإجتماعية التي من شأنها أن تكون نواة للمطالبة بمزيد من الحقوق ذات الصلة بالعدالة الإجتماعية، إنه يسعى حثيثاً في سبيل المزيد من الفردانية. ليس بالضرورة أن النزعة الرأسمالية ساعية إلى تدمير وإختفاء كلي لتلك التجليات الإجتماعية مرة واحدة وإلى الأبد، لا، فقط يريدونها ضعيفة وباهتة وغير فاعلة كي يسهل إستغلالها في سبيل المزيد من تمكين الطبقة المسيطرة) مثل ذاك القول سمعته مرة من السيدة مارغريتا أكرمان والدة فانيسا وهي يسارية أصيلة تناصر حزب العمال لكنها تتحفظ على الكثير من نقاط ضعفه في برامجه الإجتماعية.
سمعت أليسكا المراهقة بعض قصص قريناتها من المراهقات الناشزات والأخريات اللائي نجحن بطريقة درامية في التخلص من ربقة الإلتزامات والضوابط الأسرية المملة واستطعن إيجاد مأوى آمن وأكثر حرية بمساعدة سلطات بلدية سيلبي إذ هناك قسم خاص بالحالات الطارئة يختص بالأطفال والنساء اللائي يتعرضن في الواقع أو من المحتمل أن يتعرضن للعنف أو الطرد أو التحرشات الجنسية على وجه العموم كما بواسطة الأباء أو الأزواج أو العائلين من كانوا.
ظنت أليسكا أن الأمر في غاية البساطة وأن موظف الحالات الطارئة سيعطيها في التو مصروف جيب ومفتاح غرفة خاصة بها في إحدى أحياء البلدة ولا أحد يعلم بشيء وستذهب لاحقاً تخبر أهلها أنها ستكون في نزهة طويلة الأمد مع عدد من رفيقاتها إلى مدينة يورك المجاورة، كي لا يجهدون في البحث عنها أو يسعون إلى إبلاغ الشرطة، كانت تلك خطتها الإبتدائية. كانت خطة شديدة الخلل وذات تبسيط فادح لا حساب فيه للوقائع الكبيرة المحتملة في مثل تلك الحالات.
أشتهر والد أليكسا بالإحترام والمثابرة وأداء الواجب وكان معظم وقته مكرساً للعمل وكان شديد الإنضباط مع أفراد أسرته وصارماً في المعاملة معهم بدرجة لا تفوق المعتاد إلا بقسط ضئيل . وكانت والدتها من الناحية الأخرى طيبة القلب لكنها تعاني من الإكتئاب بسبب وزنها الزائد الذي لم تفلح جميع الحيل في إنقاصه منذ عهد بعيد الأمر الذي تسبب في برود لم يصل حد الجفاء مع زوجها كونهما على أي حال كانا زوجان مخلصان. رودريك كوزينس مصاب بعدد من الأمراض المزمنة منها ضغط الدم كما أنه أصيب مرة واحدة قبل عدة سنوات خلت بأزمة قلبية متوسطة الوقع.
قبل يوم واحد من قرار أليكسا بالذهاب إلى قسم الحالات الطارئة كانت ثملة فسقطت من دراجتها الهوائية في إحدى المنحنيات الحادة فأصيبت بعدة خدوش صغيرة بساعدها الأيمن كما كتفها الأيمن في محاذاة ترقوة الرقبة.
"مللت الحياة بالمنزل مع أفراد أسرتي، إنني أشعر بالإكتئاب، أريد أن أعيش وحدي بعيداً عنهم، لكني لا أملك المال اللازم لإستئجار غرفة خاصة بي، وهم يرفضون الفكرة، لا يساعدونني، مازالوا يحسبونني صغيرة، إنهم هكذا دوماً يثبطون من همتي، هل تساعدني؟"، فرد موظف الحالات الطارئة: "تلك ليست أسباب كافية، أنت بالفعل لم تبلغي السن القانونية التي تتيح لك حرية التصرف في حل عن والديك،"، ثم أستفسرها: "هل تتعرضين للعنف أو الحرمان من الطعام والشراب أو يمنعونك من الذهاب إلى المدرسة؟"، "لا"، "تلك إذن ليست حالة طارئة، أنصحك بالذهاب إلى المنزل مباشرة والتحدث من جديد مع والديك".
شعرت أليسكا بالإحباط الشديد وشرعت تنهض في تثاقل واضح، فلاحظ الموظف خدشاً صغيراً على عنقها فدعاها إلى الجلوس من جديد: "هل لديك شيئاً جديداً لتضيفينه؟"، لقد ساوره بعض الشك من وحي تجاربه السابقة مع حالات أشد بؤساً وجدية: "لا، لا، ليس عندي أي شيء أضيفه".
وفي اللحظة التي فتح لها الموظف باب الخروج أسقط عليها سؤالاً صغيراً لكنه فادحاً: "هل يتحرش بك والدك؟، أعني جنسياً؟". تلكأت، تلعثمت، تمتمت، مسحت بكفها سائلاً نفذ ناحية الجهة اليسرى من شفتيها، ثم أجابت على السؤال الخطر: "ن.ع.م.. نعم". دعاها للدخول من جديد.
في اليوم التالي جاء مدير المدرسة إلى رودريك كوزينس يخبره بإيقافه عن العمل مؤقتاً حتى تكتمل التحريات، دهش رودريك كوزينس غاية الدهشة كونه لا يعلم بعد، بحكم الإحتياطات الضرورية: "ماذا هناك؟!". وعندما علم بالأمر أخذته المفاجأة فسقط مغشياً عليه ومات بعد ثلاثة أيام بمستشفى النصب التذكاري للحرب العالمية الأولى لحقته بعد عدة أسابيع كورا روسيل.
"قصة محزنة أليس كذلك يا بيبان؟"، "نعم، محزنة حقاً، جداً، محزنة، لكن، لكن، لكن كيف تصادقين مثل هذا الإنسان، أليست، أليست مجرمة؟"، "لقد أرتكبت أليكسا حماقة دفعت ثمنها في المستقل غالياً، تلقت العقاب اللازم على كذبتها من السلطات المختصة كما قامت بتربية شقيقيها الصغيرين على الوجه الأكمل وما تزال تفعل، لقد غيرت حياتها الأولى تماماً، أنا على ثقة أن روح أبيها في السماء قد غفرت لها كما روح أمها، أفلا نفعل نحن يا بيبان؟"، "نعم، نفعل، أنا أفعل!"، "أثق بك يا بيبان، هي ما تزال حزينة، إنها أليكسا الحزينة، تحتاج عوننا، أليكسا الحزينة، هي التي دلتني على التطوع بمنظمة حماية البيئة، كانت ناشطة من قبلي، إنها إيجابية جداً، غداً ستلتقيها وترى بنفسك يا بيبان".
سادت لحظة صمت، قبل أن تقطعها فانيسا: "هل نقم إلى التجربة يا بيبان؟"، "نعم لنفعل"، "أخلع ثيابي هكذا كلها؟"، "نعم كلها حتى الداخلية منها، وليس ثيابك فحسب أريدك أن تخلعي المزيد"!.
"16"
" اخلعي القشة الذهبية التي في جفنك، اخلعي كل مثيل، اخلعي الأسورة، اخلعي نعليك، كوني على السجية من حيث المظهر، اخلعي اللغة، انتِ ليس لديك لغة، ليس لديك مثل وقيم إجتماعية، اخلعي عنك ألبسة المجتمع، اخلعي المحيط، انت لا تعرفين من هما والداك، ليس لديك أخوات، ليس لديك جانيت ولا دانيس، ليس لديك أصدقاء، ليس لديك بيبان، أنتِ مقطوعة من شجرة، أنتِ لا تفهمين كيف جئتِ إلى الوجود بأي تصور موضوعي، أنتِ لا تعرفين الوجود، أنتِ لا منطقية، لا تفهمين الموت، لا تعرين أنك ستموتين، اخلعي كل شيء مكتسب، كل عادة كل سلوك. المحصلة أنتِ مجرد تصورات محضة ومشاعر محضة وغرائز محضة. لماذا؟. لأنك ولدتِ في جزيرة نائية بعيدة مذ كان عمرك صفر وحتى هذه الأثناء، لا يوجد مجتمع في تلك الجزيرة التي لم يغشاها خيال بشر، لا يوجد إنسان من نوعك أبداً في تلك الجزيرة، هناك فقط بعض الحيوانات وكل مظاهر الطبيعة المتاحة للعيان.
"ما هذا الذي في صدرك؟، فوق نهدك الأيسر". "شامة". "انقلبي ناحية الظهر"، "حسناً". "ما هذا الذي على لوحة كتفك اليمنى؟"، "أيضاً شامة". " أنتِ لا تعرفين ما هذا، أنتِ لا تعرفين مذ هذه اللحظة اي معنى لأي جزء أو عضوء من أعضاء جسدك".
"من أنا؟". " أنت طبعاً حبيبي بيبان"، " لا، أنتِ مذ هذه اللحظة لا تعرفينني، ولا تعرفين الحب ولا معناه بأي صورة موضوعية". " أنتِ حيوان"، "ناطق؟"، "لا، انت حيوان غير ناطق لأن لا لغة لديك، لكن ربما كان لديك تصورات محضة". "من أنا إذن يا بيبان؟"، " أنتِ لست فانيسا، أنتِ لا تعرفين من أنتِ ".
"اغمضي عينيك، الآن سنبدأ التجربة في صورتها العملية، وعندما تعودين إلى العالم الواقعي ستروين لي مسارات ومآلات غرائزك ومشاعرك وتصوراتك وقتئذ كنت في الجزيرة النائية في حياتك الأولى ثم رؤية مقارنة لحيواتك كلها.
أنتِ ستنامين مغنطيسياً، وعندها سأعيد عليك ذات الكلام وزيادة ثم تصحين و أنتِ في الجزيرة تعيشين بوعي وحرية ثم تتقمصين الدور من جديد ثم تنامين مغنطيسياً من جديد فتصحين و أنتِ في ذات الجزيرة وستخبرينني بما يجري هناك ثم تعقدين مقارنة بين هناك وهنا في كل مرة من المرات ".
وبينما كنا نعيش التجربة الشيقة عند خواتيمها سمعنا جلبة ما تحدث بالأسفل ووقع أقدام وأشياء تتحطم، لكننا كنا مستغرقين في فعلتنا لا نهتم. كل ذاك كان متزامناً مع موجة رياح شمالية شرقية هزت الأشجار وأحدثت إرباكاً في نسق شقشقة العصافير وكانت النافذة الصغيرة المستطيلة تحدث بعض الصفير كما أثارت الرياح شجون نهر الأوز فأهتاج موجاً صاخباً يبارز أشعة شمس الأصيل في لعبة أزلية لا تعرف الكلل ولا الملل.
دق أحدهم باب الغرفة بينما كانت فانيسا ما تزال تقف من أمامي عارية من الثياب ومن الحلي ومن اللغة ومن كل شيء إلا من القاعدة . كانت جانيت: "آسفة، آسفة جداً، أعلم أن عندكما أمر خاص وهام، لكن هناك مشكلة صغيرة في الأسفل". في الوقت الذي وقفت به جانيت على حافة الباب نصف المفتوح وشرعت تشرح في قليل من الكلمات فحوى القضية بدأت فانيسا تلف جسدها بإزار حريري أحمر على المنطقة الممتدة من فوق نهديها إلى أعلى ركبتيها ثم أخذت في الحال بيدي مذعورة وشرعنا في النزول إلى الأسفل.
كان هناك داخل المنزل أربعة رجال شرطة ورجل آخر مقيد اليدين من الخلف هو كيمبرلي باول بينما كانت هناك ورقة صفراء اللون ملقية على الطاولة عليها إمضاء جانيت ومارغريتا حصرت بها الخسائر التي حدثت بالمنزل وفستان وصدر جانيت (زجاج النافذة اليمنى، ثلاث فازات ورد طبيعي، عدد من الأنتيكات والتحف الفخارية والخشبية، شاشة جهاز الكمبيوتر الخاص بجانيت والجهة اليسرى ناحية الصدر من فستان جانيت ممزقة إلى ما تحت إبطها بعدة سنتمترات مع خدش أحمر اللون عدة سنتمرات في الناحية اليسرى من صدرها).
كيمبرلي والد دانيس على خلاف مزمن مع شريكته السابقة جانيت وهو يعيش في منزل خاص به خمس كيلومترات في الناحية الشرقية من البلدة. كيمبرلي يجيء وفق إتفاق عائلي لزيارة إبنه دانيس كل يوم سبت بين الساعة الرابعة والسابعة مساءا. لكن تلك المرة فوجيء بحدث جديد أربك خواطره إنه "أنا".
أخبر دانيس والده بوجود شخص ما جديد لطيف يقيم في الطابق العلوي مع خالة فانيسا، شخص يحبه جداً "إسمه بيبان بابا" يلعب معه الكرة على شاطي النهر ويروي له القصص البطولية الرائعة في حضور فانيسا: "إنه شخص رائع بابا، جدتي مارغريتا تقول أنه ممتاز بابا، كلنا نحبه وماما جانيت أيضاً تفعل، كل الناس يحبونه بابا". أخذت الغيرة من كيمبرلي كل مأخذ كما داهمته مشاعر أخرى جميعها سلبية مستثارة بالأحكام العنصرية المسبقة فهاج وماج بغتة فاقداً حكمته على أثر موافقة جانيت على شهادة الإبن دانيس مضيفة جملة شديدة الحساسية :" فانيسا دائماً محظوظة ليست مثلي".
"17"
فانيسا متوعكة بعض الشيء: "أشعر بالإرهاق، لم أنم بالقدر الكافي ليلة الأمس كما أن بطني تؤلمني بعض الشيء، لكن لا بد أن نذهب إلى أليكسا". بينما كنا داخل البص في طريق الوفاء بوعدنا مع أليكسا وعلى مشارف مدخل جسر سوينغ على نهر الأوز رن جرس موبايل فانيسا: "أين أنتما الآن؟"، "في الطريق، على بعد ربع الساعة تقريباً"، "ممتاز، إلى اللقاء، مممم، من فضلك دقيقة، هل يحب بيبان الأرز الأسمر بالروبيان؟"، "لحظة". كانت فانيسا تتكي على كتفي عندما بدأ البص يعبر جسر سوينغ بينما هي تخبرني بإقتراح أليكسا حول طبق العشاء الرئيس الخاص بي، ثم واصلت من بعدها المكالمة في عادية كالعادة : "نعم، تمام، وهل تطبخين أنت بنفسك الأرز بالروبيان؟"، "لا، خالتي دوروسي ستفعل".
مد نهر الأوز تلك الناحية من منعطف الجسر لساناً صغيراً من المياه مرتبطاً بجذع ضيق مع النهر وبدى في تلك الحالة كطفل غرير مشاغب يعاكس أمه (الطبيعة).
فانيسا وليليان وأليكسا يمتلكن خواص كثيرة مشتركة غير أن كل واحدة منهن لها شخصيتها المتفردة. القاسم المشترك الأساس بينهن أنهن نباتيات كما أنهن من دعاة المساواة بين الرجل والمراة ولو دون مغالاة مع نزعة شبه متطرفة في الدفاع عن الطبيعة والبيئة. فانيسا أكثر أنوثة بالمقارنة، في سمت حميم مع الجنس الآخر "الرجل" مع إعتبارات موضوعية شديدة الحذر، غير أن ذاك الطابع كثيراً ما أحبط أي نزعات سحاقية محتملة: "مررت بعدة محاولات من نساء سحاقيات لكن وجدتني اشمئز من مجرد الفكرة، ليس لدي إعتراض على المبدأ العام للتحرر والحرية، لكن أنا لا". ليليان أقل تطرفاً حيال خيار نوعية الأطعمة تستطيع أحياناً أن تتعاطى مع اللحوم البحرية وأليكسا سنام الفكرة الداعية إلى الحفاظ على نهر الأوز أكثر نقاءاً من التلوث وبل إعادته إلى سيرته الأولى قبل عدة قرون خلت "لقد هجرته الطيور البديعة".
كما أن لأليكسا آراء أخرى عديدة منسجمة مع شخصيتها فهي ضد إقتناء السيارات الخاصة كونها السبب الرئيس في تلوث البيئة وتقوم بحملات توعية منظمة في أحياء سيلبي وفي مدينة يورك وبالرغم من أنها تحب كرة القدم فإنها تعتبرها لعبة ذكورية صرفة "لا بد من خلط الفريق بالتناصف، خمسة من النساء وخمسة من الرجال مع حارس مرمى حسب الحالة".
هناك عدة قوارب في ألوان زاهية على ضفة النهر. عندما كان البص على مشارف الخلاص من الجسر أهتز حديده بشدة جراء عسر الأسفلت فانفلت جسد فانيسا لوهلة صغيرة من وقع الرجة فانكشفت برهة الستيانة شانتيل كما أحتك حذاءها بحذائي المقابل، سرعان ما أعتدلت وبدت أكثر جدية حينما قالت: "هذه القوارب تلوث النهر، إنها تحوي مواد كيمائية ضارة من الأصباغ والفولاذ الصدئ، كان يجب أن تكون من الأخشاب الطبيعية".
عندما أكمل البص عبوره النهائي للجسر القائم فوق مياه الأوز تفادى السائق بمهارة العادة اليومية سرب حمائم حط برهة على الشارع من أمامه. في تلك الأثناء أخذت فانيسا بأصابع يدى اليمنى تمسح بها راحة كفها اليسرى : "يدي متعرقة وأشعر بالإرهاق، أووه بيبان، أنفاسي تضيق". شعرت فانيسا بغتة بألم في الصدر وتعرق في اليدين والقدمين وحرقان في فم المعدة وضغط ناحية الحجاب الحاجز ورجفة بالجسد وهزال كلي وخوف بالخواطر. فانيسا تتعاطي بالضرورة الكثير من البقوليات بديلاً للحوم، ربما كان ذاك هو السبب.
"كل شيء سيكون على ما يرام، لا تقلق بيبان، ليست المرة الأولى، إنها حالة عابرة".
عندما ترك البص الجسر من خلفه كانت يد فانيسا باردة في يدي الساخنة بالمقارنة. كانت فانيسا لبرهة قلقة "بيولوجياً".
الشيء الأهم والأكثر حضوراً في الحياة هو "الألم". عندما يخرج الإنسان إلى الحياة يتألم وعندما يخرج منها يتألم وبين المحطتين دفقات متتاليات من الآلام الجسدية (البيلوجية) والنفسية (الشعورية) والعقلية (التصورية). بالألم نحيا وبالألم نعيش وبالألم نموت. وفي الألم متعة وذاك سر الحياة. كل العمليات الفطرية التي يفعلها الإنسان تنطوي على قدر صغير أو كبير من الألم اللذيذ أو/و الممتع كالولادة والجنس والعمليات الإخراجية. ليس العمليات التي نصفها بالغرائزية وحدها بل في ألم المشاعر وألم التصورات لذة ومتعة بذات القدر. أي وخزة دبوس تعقبها متعة كما كل لحظة ولادة وكل لحظة موت.. كما هو الأمر عند كل لحظة بيق بانق وهكذا دواليك.
فتحت السيدة دوروسي الباب: "تفضلا، مرحباً بكما، أليكسا بالحمام". بدت السيدة دوروسي لطيفة، قصيرة القامة، صغيرة البنية، كانت تتحدث بلا توقف "يبدو أن صديقك متفرد يا فانيسا، أجلسا هنا، آسفة الصالون غير منظم بالقدر الكافي"، كانت تصيح مخبرة أليكسا "لقد وصلا، أصدقائك الآن هنا" بينما كانت تحاول إزالة عدد من بذور الطماطم ملتصة بالمريلة البيضاء الناصعة.
"18"
كان على الحائط المقابل عدة لوحات معلقة أكثرها بروزاً الملكة القتيلة " آن بولين" والدة الملكة إليازبيث الأولى. زواج آن بولين من الملك هنري الثامن في القرن السادس عشر شكل أعظم التحولات في تاريخ النظام والسلطة والمجتمع البريطاني وبذات القدر كان أثر مقتلها على يد الملك ذاته بتهمة ملفقة "الخيانة العظمى". فظلت آن بولين على مر القرون وما تزال ملهمة للأدباء والرسامين والفقهاء والقانونيين على حد سواء ومثيرة للعبرة والشفقة في الخيالات الجامحة كما الشكوك والظنون والمزيد.
كان هناك طارق بالباب الخارجي في تزامن مع خروج أليكسا من الحمام. إنها ليليان. صوت محرك سيارة البروف إسكوت ميناري كان يتناهى إلى الأسماع خفيضاً عندما كان يقف لوهلة في وداع إبنته ليليان يطمئن عليها قبل أن يرحل لشأنه دون أن يدخل المنزل. توقفت دوروسي عن طحن الزنجبيل وأتجهت إلى الباب. جاءت أليكسا ناحيتي "أها، هذا هو بيبان، مرحباً بك".
نهر الأوز ليس ببعيد من هنا، إنه يلتف بخاصرة البلدة كطوق النجاة، النوافذ المشرعة كانت تأذن لأنفاس النهر بالولوج إلى الصالون في دفقات متتاليات. مدت أليكسا يدها محيية ثم قبلتني ثلاث مرات على الخدين وفق الإتكيت لكن بحرارة صادقة، فأنزاحت أنفاس النهر برهة تفسح المجال لرائحة شامبو الصبار المضمخة بالزيت العطري. في تلك الأثناء كانت ليليان قد فرغت من شعائر تحية روتينية مملة مع فانيسا وشرعت تتقدم ناحيتي. دوروسي منهمكة في إعداد الأرز بالروبيان، أكملت طحن الزنجبيل ثم أعادت رباط المريلة حين شعرتها تنزلق ناحية اليسار: "ساعة واحدة وتكون المائدة جاهزة، أليكسا فعلت كل شيء، شكراً لها، أنا فقط أعد الآن الأرز بالروبيان".
كانت دوروسي بالكاد تتوقف عن الكلام دون أن تهتم بردود أفعال الآخرين إلا في الأحوال العملية والضرورية. الشيء الوحيد الذي يخفف من وقع ثرثرتها أن حبالها الصوتية رهيفة وصوتها خفيض جل المرات إلى الحد الذي يجعله همساً.
عندما أكتملت لحظة الترحاب المتبادل، ما زلنا أربعتنا وقوفاً وسط الصالون، فانيسا وأليكسا وليليان في كتلة واحدة يهمسن في وجوه بعضهن البعض، يقلن عبارات مضحكة لا أفهمها، يضحكن، ليليان تمسك بيد فانيسا وأليكسا تتكي على كتف ليليان، يضحكن بشهية، فككنا وثاق بعضهن البعض لوهلة مترنحات إلى الوراء من وقع شهقات الضحك، بينما تراجعت أنا نصف متر إلى الوراء أشعر بالغربة وتتناهى إلى مسمعي ثرثرة قادمة من المطبخ، فأنتبهت بغتة على صوت فانيسا: "وأنت؟"، لم أستطع الإجابة على السؤال في الحال كوني لم أكن على وعي تام بالأمر، فدفعتني فانيسا إلى فحوى الموضوع: "ألست سعيداً؟"، "طبعاً، طبعاً، أنا سعيد، سعيد بك، سعيد بكم أجمعين"، في تلك الأثناء وقع ناظري في وجه أليكسا، قبضت عليها متلبسة بالنظرة، كانت تتأملني للحظة فتأملتها بدوري، كانت تنظر ناحيتي وكأنها تبحث، تبحث في دخيلتي عبر سمت الملامح الفيزيائية.
أليكسا: مائة وسبعون سنتمتراً أقصر بثلاثة سنتمترات عن فانيسا . كانت تلك المرة في قميص طويل الأكمام في اللون اللبنى الفاتح المائل للأبيض مع بنطلون جينز في اللون البنى يتقاصر ناحية الكاحل حيث يكون الخلخال من الفضة الخالصة وحذاء من الكتان الرمادي محلى بنقاط بنية تتكثف عند مقدمته. خصلات شعرها ذات اللون الزيتوني الطبيعي تتدلي في كتلة واحدة ناحية الظهر متماسكة بفعل بقايا الماء. وعينان صغيرتان زرقاوتان مع ميل للخضرة تحت حواجب رفيعة مستقيمة بميل مفاجي عند الأطراف وشفاه رفيعة حادة النهايات وبشرة داكنة مقارنة بفانيسا تتخللها بقع صغيرة قرمزية في المسافة المرئية من صدرها ذي النهدين الصغيرين. وبرغم ماضيها المشاغب فهي على علاقة مستقرة بالمدير التنفيذي لمنظمة حماية البيئة (ماكسيميليان ريموند) الذي كان تلك الليلة غائباً لأسباب خاصة به.
أشارت أليكسا بيدها :"تفضلو بالجلوس"، ثم خطت ناحية دوروسي. أليكسا من طراز فانيسا من حيث التفاصيل الجسمانية، فقط فانيسا ذات خاصرة ضامرة بطريقة تجعلها أشبه بكلب صيد سلوقي أسباني كما صدرها أكبر مما لدى أليكسا. غير أن أليكسا وحشية العبارة في الضد من فانيسا وذات دربة في الحياة تفوق فانيسا عدة فراسخ ليس بواقع حساب العمر، ذاك ليس بالأمر المهم، سنة ونصف، لكن جراء الحياة المغامرة التي عاشتها أليكسا في صباها والأحداث الكثيرة غير العادية التي مرت بها. ولكل هذه الخواص وأخرى فإن أليكسا تكون صاحبة المبادرة في كثير من المرات.
"هيا بنا إلى المائدة" صاحت دوروسي . وفي اللحظة التي تحلقنا حول المائدة وقبل أن نمد أيادينا إلى الطعام شرعت دوروسي تصلي كعادتها عند كل لحظة طعام: " تباركت يا رب .. ارفع عقولنا إليك كل حين لطلب طعامنا الروحي غير البائد.
اعطنا أن نعمل للطعام الباقي للحياة الأبدية، وهَب لنا نصيبًا في الاشتراك في وليمتك السمائية. امنحنا خبز البهجة، وكأس الخلاص، واملأ قلوبنا من البهجة والفرح. انعم علينا بحياة مطمئنة هادئة، وسعادة في النفس، وصحة في الجسد. علمنا أن نطلب رضاك في كل شيء، حتى إذا أكلنا أو شربنا أو عملنا أي شيء، نعمله لمجد اسمك القدوس، لأن لك المجد إلى الأبد... آمين".
دوروسي إنجيلية صارمة، كرست جل حياتها من أجل الكنيسة، كما مساعدة أبناء أختها الصغرى المتوفية كورا، فهي شديدة العناية بأليكسا وشقيقيها الأصغرين، عاقر لم تلد ولم تتزوج. قبل بلوغ العشرين أزيل رحمها في عملية جراحية بعد أن تأكدت أصابتها بسرطان في عنق الرحم.
"نحن لسنا كلنا مؤمنين على طريقتك يا خالة" قالت أليكسا تلك العبارة بحذر وكأنها تحاول أن تخفف من وقع الملل الذي أصاب الناس من جراء الصلاة الطويلة التي أدتها دوروسي بتلقائية ودون إذن أحد. ثم واصلت أليكسا مستقلة لحظة الصمت والإرتباك "أنا شخصياً غير مؤمنة البتة وليس لي"، قاطعتها دوروسي: "
وجب على الإنسان أن يصلي لأجل نفسه ولأجل الآخرين، يصلي من أجل الأقرباء والأصدقاء وحتى الأعداء، فما بالكم وأنتم جميعكم أحبابي".
تمتمت ليليان ثم قالت بلا إكتراث "أنا لا أهتم". قالت فانيسا "أنا أيضاً لست مؤمنة لكنني على قناعة محددة بوجود عقل منظم لهذا الكون" ثم ضربتني بساعدها على كتفي بدلال بينما تقول: "بيبان أيضاً يصلي، إنه يصلي من أجل الكون، الأكوان كلها" ضحكت فانيسا وليليان في ذات الوقت وشرعنا من بعدها في العشاء.
يتواصل.. حكايتي مع الشابة الإنجليزية فانيسا أو الإنفجار الكوني العظيم/بيق بانق.. محمد جمال الدين
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.