كانت قرية آمنه مطمئته ، لا تذكرها الحكومة الا ايام الانتخابات ، حيث يأتون طلباً لأصواتهم ، وبالمقابل يقدمون لهم الوعود الزائفه ، نفس الوعود التي تتكرر في كل دوره انتخابية ، حتى ان اهل القرية أصبحوا يحفظونها عن ظهر قلب . (ولكن لا بأس , فلتكذب الحكومه كما يحلو لها , فطالما السماء تمطر فلا حاجة لنا بالحكومه _ على الاقل لن نموت جوعاً ) . هكذا يقولون . ولكن خريف هذا العام أتى على غير العاده ، فعندما كان الناس في شهر يونيو ينتظرون السماء أن تمطر ماءً اذا بها تمطر قنابل عبر طائرات الانتينوف , قنابل كأنها ( حجارة من سجيل ). إنها الحرب ... تباً للحرب وتب .... ذلك اليوم كان سيمر عاديا كايّ يوم في القريه ، الأطفال في المدارس ، المزارعين في المزارع والحقول ، الرعاة في الوادي ، والنساء بين الطهي وجلب الماء والحطب ... ولكن حدث شيئاً غريباً ، فما أن انتهى اهل القرية من شرب الشاي والقهوة وتوجهوا نحو اعمالهم المعتاده حتى بدأ الرصاص ينهمر عليهم من كل حدب وصوب ، واصوات المدافع والرشاشات تشق عنان السماء ... تحصنوا بمنازلهم لفتره من الزمن _ ولازال الإشتباك مستمراً بين الحكومة والمعارضة المسلحة _ والطيران لا محالة قادم _ بعد قليل ستتدمر القرية !! ( إذن لا بد أن نخرج من القريه ، صحيح ان بعضنا سيموت ولكن حتماً لن نموت كلنا ، سيبقى بعضنا " تيراب " ليعمر القرية من جديد ) . هكذا تقرر الرحيل ... وهكذا خرج الناس من القرية وسط زخات الرصاص الذي لا يرحم _ خرجوا كما جاءوا الى هذه الدنيا لا أحد يملك شيئ , حتى أن كثيراً منهم خرج فقط بملابسه الداخليه ... وبينما هم سائرون في الطريق _ تسائلوا _ الى أين سنذهب ؟!!!!!! عندها _ أحسوا بعظم الفاجعة ( نحن فقط فارون من هذا الجحيم المسمى بالحرب ، فلنذهب حتى تنتهي " الواطه " أو نجد مكاناً نطمئن له ... والأطفال وبرغم الإرهاق والتعب الذي كان يبدو عليهم ، إلا أنهم تسائلو ايضاً _ حبوبه لي شنو ما جات معانا ؟!!!! وحبوبه ( الجدة العزيزه ) تلك المرأة ذات الثمانين ربيعاً ، والتي هي محور تماسك الاسرة ، تهدي الأطفال الحكاوي الجميلة . وتزود الكبار بالحكمة _ قد اعلنت موقفها الواضح والصريح قبل الرحيل : ( إنتو يعني حتمشوا لي حته ما فيها موت !؟ ، ايّ مكان في الدنيا دي فيهو موت ، وموت لي موت أحسن أموت في بيتي دا وفي أرض جدي ، انا ذاتي ما فضل لي كتير _ أمشوا إنتوا الزمن زمنكم ، أمرقوا الشفع ديل ، أنحنا زمنا كمل ...) . ورجعت الى بيتها بإصرار وعناد من خبر الحياة ستون عاماً ونيف . ولكن لا وقت للجدال _ سنرجع ليكي يا حبوبه بعد ما نمرق الشفع _ سلام . وبعد مئات الكيلومترات من المشي المتواصل , وفي أثناء هذا المشوار الطويل _ وضعت كل ذات حمل حملها من شدة الخوف _ وبعد أن هدأ صوت الرصاص قليلاً , جلس اهل القرية يستريحون ويفكرون في مصيرهم _ نعمل شنو يا جماعه ؟! قال أحدهم نمشي نشوف لينا محل نقعد فيهو يمكن الكفار ديل يجيبوا لينا إغاثة _ أو يجونا مسئولين من ناس الحكومة يشوفوا لينا حل ) . فيرد عليه اخر : (هو عليك الله في كافر أكتر من الجوع دا _بعدين المسعولين ديل أحسن ما يجونا _ لو جونا إحتمال يقولوا دايرين رسوم نزوح وتشرد ! _ " الحكومة دي ذي تيس فاطنه" ) . وشيخ الحله الذي ظل صامتاً طوال فترة الرحله يخرج من صمته: ( لا حول ولا قوة الا بالله _ المصيبة دي جاتنا من وين ؟!! _ هسع أنحنا اصبحنا في الخلاء _ والبهائم طشت مع الضرب _والعيش الفي البيوت حرق _ ومافي طريقه للزراعة السنة دي _ أمرنا لله ) . حيث أن اهل القرية يعتمدون في أقتصادهم ومعيشتهم علي الزراعة والرعي ، والأن لا زراعة ، لا رعي ، لا مأوي ، لا مسكن، لا شيئ غير المعاناة .... .. خالد مصطفى إسماعيل جامعة الخرطوم - كلية الصيدلة 7/يونيو 2012 [email protected]