ذكرت نبذة عن التعليم الثانوى فى السودان وامدرمان خاصة وفى مدرسة الاحفاد بالأخص فيما تناولته فى المقال السابق ، وعندما التحقنا بالثأنوى انتابنا شعور بالسمو وطالت قامتنا فلم يكن من المتاح للأكثرية تخطى المرحلة المتوسطة لقلة أو بالأصح ندرة المدارس الثأنوية ناهيك عن التعليم العالى ، فكانت هناك كلية غردون والتى رفعت الى كلية جامعية مرتبطة بجامعة لندن ثم استقلت وصارت جامعة الخرطوم ، وكان العمل الحكومى متيسرا" لخريجى المتوسط والثأنوى ولهذا السبب نعتبر من المحظوظين حينذاك . ووقفت عند الاساتذة فى الثانويات الحكومية والاهلية وكانوا جميعا" من خيرة المعلمين علما": وخبرة ، ومع ذلك لم ينج بعضهم من ( شقاوة ) الطلبة المشاغبين ، وفى السنة الأولى كان يدرس لنا الانجليزى مستر باريرا بفتح وتعطيش البآء، ودرس لنا كتاب رواية الفرسان الثلاثة الاستاذ على توفيق السودانى ، وكان مستر بريرا يجيد اللغة العربية ويتكلم بها بلهجة مصرية فقد كان يدرس بالجامعة الامريكية بالقاهرة وهو أنيق فى ملبسه ويمتلك عربية وكان شديد الاعجاب بالشاعر المصرى على محمود طه ويحمل معه ديوان الشاعر ( الملاح التآئه ) ، ولا يفوت حصة لا يقرأ لنا فيها قصيدة منه أو يكلمنا عن ذكرياته فى مصر، وكان يشنع على المصريين ، وخرجنا من حصصه ونحن نعلم عن الشاعر على محمود طه اكثر مما نعرف عن الانجليزية ! وفى الصف الثانى درس لنا شاب انجليزى وسيم من عائلة ارستقراطية واعطانا دروسا" فى اداب المائدة وأتى بشوكة وسكين وملعقة واخذ يشرح لنا كيف نمسك بالشوكة فى اليد ايسرى وبالسكين فى اليد اليمنى وكيف نمضغ الطعام وفمنا مقفول ، واعطانا قصائد لشعرآء انجليز مشهورين وفرض علينا حفظها غيبا" وجعل لذلك حصة للتسميع ، وكان متعاليا" وكثير ألتأفف ، وكان الطلبة الكبار ( الشفوت ) يجلسون عادة فى اخر الفصل ( ويحدرون ) له ) فيقول لهم ( لا تنظروا الى هكذا فانا اعلم اننى جميل ) ، واصابنا ضيق شديد من صلفه وغطرسته وقررنا جميعا" ان نوقفه عند حده ، وفى حصته التالية لم نقف له كما نفعل عادة للاساتذة واخذنا ( نحك ) البلاط بأحذيتنا (الصنادل ) محدثين اصوات مزعجة ، وصار يصيح فينا ، استوب استوب أت ولم نبال به وهاج وصار وجهه كالفشفاش وخرج جاريا" الى مكتب العميد مستنجدا" به ، واوقع بنا العميد عقوبة الجلد ، ونقل المدرس من المدرسة فى نهاية السنة . واما فى السنتين الثالثة والرابعة فقد درس لنا الكابتن مستر كوك وجاءته هذه الرتبة عندما جند فى الحرب العالمية الثانية ، وبعد انتهآء الحرب رجع الى مهنته الأصلية وهى التدريس ، وهو رجل فوق الخمسين من العمر وهو نشط كالنحلة ولم أر فى حياتى من هو أنشط منه ، وكان مدرسا" مقتدرا" ، وكان يشرف على المكتبة الانجليزية بالمدرسة ، ويركب الدراجة ويتنقل بها ، وقد استفدنا منه كثيرا" فى اللغة الانجليزية . وكما ذكرت فان كل المواد الدراسية كانت تدرس لنا بالانجليزية ، وندرس تأريخ وجغرافية بريطانيا بالتفصيل بينما كنا نجهل تاريخ وجغرافية قطرنا السودان ، ولولا كتاب سبل كسب العيش فى السودان والذى وضعته بخت الرضا فى اسلوب جذاب وظف لاصدقائنا منقو زمبيرى فى الجنوب ومحمد عبد الرحيم فى القولد وبقية الاصدقآء فى محمد قول وودسلفاب التعرف على المنطقة وانتاجها فى الزراعة أو الرعى أو صيد البحر وطعام السكان ، ودرسنا تاريخ الفراعنة المصريين ، ونجهل تماما" تأريخ السودان والذى لم ندرس عنه شيئا" فى كل مراحلنا التعليمية ! وكان يدرس لنا التاريخ مستر جف وهو رجل غريب الاطوار وسريع الغضب ، وعرفنا انه اجريت له عملية جراحية لاستئصال خراج فى المخ فى انجلترا ، وانه اعتدى بالضرب على ناظر مدرسته هناك ، واخبرنا العميد بأن نكون مؤدبين وهادئين معه ، واظن ان العميد نفسه كان يتحاشاه ، وتوجسنا منه خيفة ومكث معنا شهرا" ثم عاوده المرض فسفروه الى انجلترا . وخلفه الرجل المهذب المثقف صاحب الصوت الهادئ الخفيض مستر جد بفتح وتعطيش الجيم وعلمنا انه من الاشتراكيين الفابيان الانجليز ، واصبح صديقا" للاستاذ عثمان محجوب الذى كان يعتنق الاشتراكية الماركسية ويعمل مدرسا" بالاحفاد ، ومن المدرسين المصريين والذى درس لنا الجغرافية الاستاذ الأنيق محسن وكان بارعا" ويرسم خريطة أى قطر فى العالم من الذاكرة على السبورة ويبين فيها الموانئ والعواصم والمدن الهامة ، ومن الطريف انه يتكلم الانجليزى بنطق ( زى الدراب ) ويتهكم علينا بمعرفته للغة ويقول بلهجته الصعيدية ( آه يا واد يا محسن لو كنت اديتهم لغى ، ومن المدرسين المصريين الأفذاذ الاستاذ سعد الدين التاودى مدرس الرياضيات والذى ذاع صيته فكان يقصده الجالسون للشهادة الثانوية من منازلهم ليعطيهم دروسا" خاصة فى المسآءبمنزله ، واما مدرس اللغة العربية المصرى فى السنة الرابعة الاستاذ عبد الجليل شلبى وهو أزهرى يرتدى الزى الافرنجى ، وكان مقررا" علينا فى الادب العربى فى الشهادة الثانوية كتاب شوقى وحافظ ، وسالته عن السبب الذى جعل العقاد يتحامل على شوقى ويحط من قدره ويفضل حافظ عليه فى الوقت الذى بايعه شعرآء البلاد العربية بأمارة الشعر ، فأجابنى بقوله بلهجته الصعيدية : ( أصله العقاد دى شرموطة ) وضحكنا ، واستمر يقول انه عندما كان شوقى شاعرا" مرموقا" وبويع بامارة الشعر كان العقاد لم يشتهربعد وكان عاطل الذكر بالنسبة لشوقى ومن ثم اراد بهجومه على شوقى ان يصنع له اسما" ، وكان يدرس لنا العربى فى السنة الثالثة الاستاذ المصرى عبدالجليل الشرقبالى وهو استاذ مجيد وله طريقة مبتكرة وبسيطة لتدريس القواعد والنحو . ودرسنا الدين فى السنة الاولى الشيخ ابو بكر المليك والذى أفتتح مدرسة متوسطة لتعليم البنات بعد ذلك فى حى الملازمين واظنها قائمة حتى اليوم ومديرتها ابنته المعروفة الاستاذة نفيسة المليك ، وفى السنتين الثالثة والرابعة درس لنا الدين شيخ أزهرى سودانى وكان يلبس الكاكولة ( البالطو ) والعمامة الازهرية وله لحية كلحية التيس ويشبه شخصية عمى تنقو التى كان يرسمها الفنان شرحبيل احمد فى مجلة الصبيان ، فاطلقنا عليه اسم تنقو وكان احدهم فى الفصل يقول بصوت مرتفع ( تنقو ) ، فيقول الشيخ باللغة العربية الفصحى : ( من قال تنقو ) ولايرد أحد ، ومرة ثانية يتردد اسم( تنقو ) ويهتاج الشيخ ، ومرة ثالثة يعلو الصوت ( تنقو) ويشتد هياج الشيخ وتهتز لحيته التيسية وخرج من الفصل مهرولا" الى مكتب العميد شاكيا" واستجاب العميد وأمر بأن يجلد أى طالب 15 جلدة اذا قال تنقو فى داخل الفصل أو خارجه ، وفى دروس الدين عانينا المر من حفظ جوهرة التوحيد وهو كتاب بالنظم لتدريس الفقه والتوحيد وفيه مقادير زكاة الانعام من الضأن والماعز وسن كل نوع تستخرج منه الزكاة ، واذكر من اسمائها بنت لبون وجدعة وفى امتحان النقل فى آخر العام كانت ورقة الدين تحتوى على الزكاة ، وكان زميل لنا يرحمه الله قد كتب ( بخرة) من عدة اوراق ، وكان المراقب أحد مدرسينا الانجليز ، واطمأن الزميل لجهل الأستاذ بالعربية ، واخرج ( بخرته ) الدسمة لينقل منها الأجوبة ، ولكن وقع فى شر أعماله وضبطه المراقب متلبسا" . ولا يفوتنى أن أذكر انه عندما كنا افى السنة الأولى كان أبو الفصل الاستاذ الكبير عبد الرحيم الأمين ، وعمل فى ثانوية الاحفاد بعد أن فصل من وزارة المعارف وكان بمدرسة وادى سيدنا أن لم تخنى الذاكرة ، وترك الاحفاد ليرأس الجريدة التى كانت صوت حزب الأمة ، وبعدها تعين فى الاممالمتحدة مديرا" للأنروا فى القدس لاغاثة الفلسطينيين . وعقب اضرابنا عن الدراسة احتجاجا" على قيام الجمعية التشريعية والتى قال عنها الزعيم اسمعيل الأزهرى رئيس الحزب الاتحادى الوطنى ( لن ندخلها ولو جآءت مبرأة من كل عيب ) ، وقاطعتها جميع الأحزآب الاتحادية والجبهة المعادية للاستعمار ( الحزب الشيوعى لآحقا" ) ، ودخلها حزب الأمة والذى كان متعاونا" مع الادارة البريطانية ، ولم يكن هناك تنظيم للاخوان المسلمين حينذاك ،وانما عدة أفراد يعدون على اصابع اليد الواحدة ، وكان ذلك أول أضراب ندخل فيه فى عام 1947 ولمدة يوم واحد ولما عدنا فى الغد وقع علينا العميد يوسف بدرى عقوبة الجلد 5 جلدات لكل واحد منا ، واستثنوا من العقوبة طلبة الصفين الثالث والرابع ( السينيرز ) مع انهم كانوا هم القادة ، وسأوضح مسألة السيينيرز والجونيرز فيما يلى من أنظمة المدرسة ، وجآءنا أبو الفصل الاستاذ عبد الرحيم الامين فى الحصة الأولى واخبرنا بقرار العميد وهيئة التدريس ، وكان الاستاذ طويل القآمة مهيب الطلعة ويرتدى البدلة ، وكان موقعه المفضل داخل الفصل الجلوس على كرسى بجانب شباك يطل على الشارع ، ولا يقف ولا يكتب على السبورة وكان يدرس لنا العربية ، وطلبنا منه أن يعفينا من العقوبة مثل ما فعلوا مع طلبة الصفين الرابع والثالث ، وكان رده الوحيد المتكرر وهو لاويا" عنقه وناظرا" الى الشارع : ( لا بد من العقآب لا بد من العقاب ) ، ونادى على الصول بخيت لتنفيذ العقوبة وامتثلنا للأمر ونحن ساخطين وغاضبين . ويصاب المرء بالدهشة من قرار العميد لعقوبتنا لأنه وللتاريخ كان مشاركا" بفعالية فى أول اضراب طلابى فى السودان قام به طلاب كلية غردون فى عام1931 وكان الاضراب احتجاجا" على سياسة الحكومة الاستعمارية الانجليزية عندما استغنت عن اعداد من الموظفين السودانيين والبريطانيين والمصريين والسوريين ، وخفضت مرتبات من أبقت عليهم ومن يتعينون لاول مرة من خريجى كلية غردون ، وشملت حركة الاضراب الصديق المهدى ويوسف بدرى وحسن محجوب وعبد الحميد ابو القاسم ، ومعظمهم ان لم يكن كلهم من أسر ذات ميول مهدوية ، ( كتاب تاريخ الحركة الوطنية فى السودان للبروفسسير محمد عمر بشير صفحة 153 ) وكانت لجنة الاضراب قد تشكلت ورئاستها بامدرمان من طلاب السنة الرابعة بقيادة مكى المنا ومحمد عبد الكريم . وتتابع علينا نفر من الاساتذة الأجلآء وان لم يمكثوا كثيرا" أذكر منهم الاستاذ عبد الكريم ميرغنى والاستاذ كمال ابراهيم بدرى ، ولا يكتمل الكلام عن ثأنوى الاحفاد بدون التحدث عن سياستها وطلبتها ، فالى اللقآء فى المقال الآتى هلال زاهر الساداتى [email protected]