تداعيات هذا المساء يغيظني ، المدينة تبدو انوارها خافتة ، ربما لانها بعيدة عن هذا المكان الذي إعتادت ان تلفط فيه موتاها ، كنا اربعة مختلفي الوظا ئف و الاشكال تجمعنا لفة صغيرة بيضاء تبحث لنفسها عن فتحة في التراب و كنا نحن المكلفون بصنع هذه الحفرة ، الارض تصرخ تحتنا ، انا اثقب من جهة و عبد العاطي من جهة اخري و يزيل كل من عباس و الرحيمة التراب ، كان الامل بيننا ان يلتقي الثقبان ، المعاول و المحافر تزيل قشرة اليد و الارض تئن و انا كنت اصرخ مع كل ضربة علي الارض ، لكني كنت وحدي الذي اسمع صراخي ، ادخلت يدي في اعماقي اخرجت شارعا بسطته مخترقا وسط المدينة ، ادخلت يدي الاخري في اعماقي ، اخرجت نجمة علقتها فوق الشارع و سألتها ان تعطي الشارع بقعة من الضوء ، شجرة الزان التي كانت تزامن منزلنا السابق إتخذت لها مكانا في الطرف الاوسط للشارع ، هي نفسها كانت متكئة علي الشجرة ، صوتي تجسد بالقرب منها فقالت باسمة (( هدية جميلة منك هذا الشارع )) ((هذا قليل من كثير )) (( لكن هل تكفي نجمة واحدة من فوقه ؟ )) (( هذا يتعلق بالضوء الذي يخرج منها )) (( و الشجرة ايضا وحيدة )) (( ربما تثمر )) (( انت احيانا خيالي )) ضحكت بعمق ، الارض لا زالت تئن ، توقف الحفر ، كانت عيونهم ترمقني بنظرة تلومني ، شعرت بالحرج الشديد فالموت يمنع الضحك ، بدل كل منا مكانه و استمر الحفر ، عيوني كانت تغوص في اللفة البيضاء ، الصمت كان سلطانا علينا ، اصابع رجلي بدأت حوارا تعارضيا فأخرجتها من النعل الممزق ، الرحيمة نظر الي و سرق من الصمت إ بتسامة ، تعلقت عيناي به ، امسكت بخيوط عينيه و تسلقتها ، دخلت فيه و حين ازاح نظرته كنت انا بداخله استمع اليه (( هذا الزمن يصر علي ان لا نمتلكه ، ضاع الان وسط كل هذه الشواهد ، عثمان غاب كل هذا الزمن ، من يدري ربما اصبح حجرا و شاهدا ، لكن امي تصر علي وجوده حيا ، هي التي صنعت منه رجلا و مني انا ايضا ، لكنه اصبح جاحدا ، ما اقسي قلب الانسان ، كان يأكل من عرقها و هي تبيع اللقيمات لتلاميذ المدرسة و لولاها لما استطاع ان يصبح ضابطا لمجلس او حتي خفير ، نساها الكلب و هي لا زالت تذكره ، إنها تبحث عنه حتي الان ، لم يزل الثقبان بعيدان ، ربما لن يلتقيا ، المباراة الان في امتع ظروفها و نحن نبحث عن حفرة لهذا الطفل الشقي )) نسي الرحيمة نفسه و ارتكب المعصية قائلا (( ابو التومة كان رائعا بالأمس ...... كانت مباراة ....... )) (( احرز اغلي الاهداف )) عبدالعاطي نفسه جرفه التيار و خرجت انا من الرحيمة مع بداية المعصية ، نظر اليهما عباس و الحزن لا زال بداخله فقد كان هو صاحب الحق الشرعي في هذه اللفة البيضاء التي فرضت وجودها من خلال الموت ، نظر اليهما و كأنه يعتذر عن مضايقتهما هذه المرة ، إنها المرة الثالثة فقد كان هذا ثالث طفل ذكر يموت ، كان الامر يتم في السابق بهدوء دون ضجة ، يأتيهم علي إنفراد و يحدثهم بالامر فيأخذ أي منهم الة حفر و يخرج معه ، الارض كانت اصلب هذه المرة و التراخي كان منا اكثر ، صوت الارض يغوص في ، اللفة البيضاء تملأ عيوني و انا اصرخ ، لازالت هي متكئة علي الشجرة و الشارع في وسط المدينة خاليا ، صوتي تجسد بالقرب منها ، هذه المرة لن أحادثها ، النجمة تنظر و هي قد أصابها نعاس خفيف ، لا ، لن أدعها تنام ، لكزتها برفق ، إنتبهت و اخذت نفسا عميقا (( لا زال الشارع خاليا )) (( لن يتم هذا في وقت قريب )) (( صار الصبر خانقا ) (( الامل، ألا يزال موجودا؟ )) (( الشجرة تعطيني الكثير و النجمة ايضا )) صوت عباس جاء رخيما مع ضربات الارض (( دائما اسبب لكم المتاعب ، لكن الامر خارج عن إرادتي ، لا ، لم اقصد إلا انني تذكرت برامجكم )) أوقف عبد العاطي الحفر و قال (( دعك من الفارغات ، انت غريب و الله غريب جدا )) (( هل تريد ان تعتذر عن موته ؟ و كأن الموت يقبل الاعتذار )) قلت انا و نظرت اليه متعمقا فيه ، كان يهرب من نظراتي و يعود اليها و بين هروبه و عودته تسللت انا فيه (( كانت تحلم بالاطفال و كانوا يأتون و يذهبون ، لازال الاسم – منتصر – موجودا لكنه لم يجد من يحمله ، سلوي نفسها قالت لي ربما أصابتنا عين ، أنا لا اؤمن بالشعوذة ، أبي اصبح متبرما من موتهم و قال لي إنها شؤم ، لكن الحياة لا تحتمل تنفيذ اراء الاخرين خاصة اراء أبي ، وهي ما ذنبها ؟، هولاء الاخوة عانوا معي لكني لا استطيع الاعتذار ، المستشفي لم تستطع ان تكون مهدا لاطفالي ، حتي المستشفي ترفضهم ، زملائي في المكتب كل مرة ينتظرون السماية فيجدون مأتما )) صوت سيارة مرت مسرعة فخرجت انا من عباس ، الارض لا زالت ، لم يلتقي الثقبان بعد ، اكوام التراب الهواء يبعثرها ، الشواهد تبدو و كأنها تتحرك ، الاسماء فيها تبحث عن زمن مضي و عن جسد كان ، اللفة البيضاء بارزة وسط الليل و لا زالت تبحث عن حفرة و نحن المكلفون بها ، عبد العاطي وقف و تمطي ليجلس ، تبادلنا الاماكن ، الارض لا زالت تصرخ وانا اصرخ ، الصوتان يتصارعان بداخلي ، هي لا زالت منتظرة تحت الشجرة ، النجمة تسلط من ضوءها الخافت عليها ، الشارع خال و هي كانت تحلم ، صوتي تجسد بالقرب منها ، نظرت اليها ، علي طرف الشارع الاخر بدأت المنازل تنمو ، لا زالت في طور النكوين ، أيقظتها (( هل جاء اليك احد ؟ )) (( لم يأت احد ، لكني لا زلت انتظر )) ((بماذا كنت تحلمين ؟ )) (( لا ، لم اكن احلم ، كنت امارس هوايتي ، الانتظار )) (( دون حلم ؟ )) (( الجلم موجود ، لكن الانتظار اعمق وجودا منه )) (( سوف يأتون ، لا تيأسي )) الارض لا زالت تصرخ ، لم يلتقي الثقبان بعد ، اللفة البيضاء تشع بحثا و نحن نحاول ان نصنع لها حفرة (( الارض قوية هذه المرة )) عبد العاطي قالها و في صوته بعض يأس ، لم يرد احد ، كان الصمت سلطانا علينا ، نظرت انا اليه ، يبدو انه احس بنظرتي ، رفع عينيه ، إلتقينا ، الة الحفر ترتفع لتنخفض نظرته و تنخفض لترتفع نظرته و مع إنخفاضها تلتقي عيناه بي ، فتسلقت انا الة الحفر و دخلت فيه (( دراجتي تغيظني ....... اه متي يأتي زمن الكورلا ؟ ، قريبا ، هذا الغبي لم يفعل شيئا حتي الان ، كل الاوراق معه ، حتي العمولة أخذها مني ، غدا سوف اقابله ، ربما فعل شيئا و منها رأسا الي السعودية ، انهم هناك يملؤونك مالا وانت تدفق عرقا ، العربة تلمع في عيون الناس و المع انا ، اختار من اختار و ارفض من ارفض ، هذه الحفرة كأنها تتعمد الصعوبة ، الموت ربما كان اقرب ، هذا العمر ليس عمرا ما لم تطعمه العربة و ملحقاتها )) خدشت يدي و خرجت من عبد العاطي ، تفحصت يدي برهة و عدت للحفر ، صوت الارض و هي تئن يختلط بأنفاسنا الاربعة ، اللفة البيضاء تشع بحثا و نحن نحاول ان نصنع لها حفرة ، صرخ عباس (( إقتربنا ، ادخل يدك يا سالم )) ، ادخلت يدي و استطعت ان المس اطراف اصابعه من الجهة الاخري ، قليل من الجهد و يلتقي الثقبان حفرنا هذه المرة بسرعة فقد زال التراخي الذي كان بيننا ، التقي الثقبان و نهضنا ننظر لاكوام التراب ، تحرك عباس نحو اللفة البيضاء و كنا نحن نزيل من ايدينا التراب ، اخيرا بإستطاعتنا ان نخفي هذه اللفة ، لكن لا زالت الارض تصرخ ، بدأنا ندخل الطفل الذي كان صرخ قبل ساعات في الحفرة ، ندخله برفق شديد و الارض تصرخ و انا اصرخ و هي لا زالت تنتظر تحت الشجرة ، النجمة هذه المرة ازدادت لمعانا ، اللفة البيضاء خرج منها الطفل ، صوتي تجسد بالقرب منها ، لم تكن وحدها ، كان معها هذه المرة طفل ، الشجرة تبدو اكثر إخضرارا و النجمة كثفت الضوء عليها و الشارع لا زال خاليا ، المنازل في الطرف الاخر تبدو ظلالا ميتة امام عمارة كبيرة تلمع ، لكن ، الشارع كان خاليا (( إزداد الامل قوة بوصوله )) قالت و هي تشير الي الطفل (( متي وصل ؟ )) (( ولدته ، هذا وليد الانتظار )) (( و الباقون ؟ ، الم يصلوا ؟ )) (( لا زال الشارع خاليا ، لكنهم سيأتون )) (( الفاتحة )) قالها عباس بعد إختفاء اللفة البيضاء و تحولها الي كوم تراب ، رفعنا ايدينا بالفاتحة و انا اسمع الارض تئن و اسمع صراخي و اسمع صوتها يقول (( لا زال الشارع خاليا ...... لكنهم سيأتون )) و كان الطفل ينظر الي العمارة التي وقفت وسط منازل الجالوص