بنى المفكر الجزائري مالك بن نبي تحليله العميق لظاهرة الاستعمار في كتابه شروط النهضة (1948)، علي معاملين اساسيين هما المعامل الاستعماري الذي تقوده اطماع الدول الكبرى في التوسع والمعامل الثاني هو القابلية للاستعمار وهو ذلك الشعور الذاتي الذي يحول الافراد الي ادوات في يد المستعمر تنفذ مخططاته على الوجه الاكمل، ومن ثم فان الاستعداد النفسي للشعوب هو المحفز الاساسي لبقاء واستمرار الاستعمار، وفي المقابل يرى الكاتب الايراني علي شريعتي في كتابه النباهة والاستحمار (1984)، ان الاستحمار هو نقيض النباهة والشعوب المستحمرة هي الشعوب التي يستغل غباؤها حكامها الطغاة ليستحمروها ويلغوا طبيعتها الانسانية ويصلوا بها لمستوى الحمير. ونصل من خلال ذلك السرد التاريخي لمصطلحي القابلية للاستعمار و الاستحمار الي غاية المقال التي تتناول تجديد تعريف مصطلح القابلية للاستعمار من خلال قراءة الواقع المحلي والاقليمي وتعريف الازمة على انها قابلية الشعوب المسلمة للاستحمار، والحالة رهن الفحص هي حالة الشعب السوداني بعد حكم اسلامي استمر لاكثر من 25 عام. نُعرّف العوامل التي تحكم ظاهرة القابلية للاستحمار بثلاثة عوامل بدلا من عاملين، فالعامل الاول هو المعامل الاستحماري والذي تتبناه فئة تسعى لاستحمار الشعوب واستخدامها لتحقيق فهم تلك الفئة للدين، غالبا تضم تلك الفئة التحالف بين رجال الدين ورجال السلطة، وسمة تلك الفئة ادعاؤها الفهم لصحيح الدين وسعيها الدوؤب لتطبيق ذلك الفهم بغض النظر عن الاختلافات الفقهية مع الفئات الاخرى، وفي بعض الحالات بعض النظر عن الاختلافات داخل الفئة نفسها، وبغض النظر ايضا عن تعاليم الدين نفسه فهي تحل ماحرم الله للوصول الي الغايات، في ميكافلية حاشا لله ان تكون جزءا من تكوين الدين نفسه. بالرجوع لحالتنا في السودان، فقد اجبرت حكومة الانقاذ الشباب السوداني على "الجهاد" في جنوب السودان وهو جزء من الوطن "سابقا"، ويظهر جليا ان الشعب السوداني قد تم استحماره غاية الاستحمار خلال تلك الحرب، ودفع فاتورة باهظة لهذا الاستحمار من دماء شبابه الغر، ومن اموال كان اولى بها افواه الجوعى في الجنوب والشمال على حد سواء، واتضح لاحقا ان المسألة خلاف سياسي قابل للحل بضغط من المجتمع الدولي وان الملائكة التي كانوا يدعون انها تقاتل مع المجاهدين عجزت عن الجلوس في طاولة نيفاشا لنصرة النظام الاسلامي في شمال السودان مما ادي الي انفصال الجنوب!!!!. العامل الثاني هو معامل الاستحمار الاني والذي يصيب الشعوب المحكومة بحكومات دينية، ويتم استخدام مختلف الاساليب لالهاء تلك الشعوب اتكاءا على عاطفتها الدينية، فمثلا عندما يشتد السخط على الفشل والفساد والضغوط الاقتصادية يطل ائمة المساجد بتفسيرات على شكل "ان ما يحدث هو امتحان رباني لتذكير الخلق بصحيح الدين، وقد عاقب الله الامم السابقة بالريح الصرصر العاتية وبالغرق وبالمرض لتعود الي كتابه المبين". ومثال اخر من السودان فقد ظهرت احاديث شق عصى الطاعة وتحريم المظاهرات عندما رفعت الحكومة الدعم عن المحروقات في سبتمبر 2012، وهو اجراء اقتصادي جدلي قابل للنقض والمعارضة، وللشعب كل الحق في التعبير عن رفض ذلك القرار بالمظاهرات السلمية والاعتصامات في الساحات العامة، غير ان الروية الدينية تفسر ردود الافعال تلك على انها شق عصى الطاعة وخروج على الحاكم المسلم، بل وتتجاوز ذلك لتحرم الخروج مطلقا ما اقام ذلك الحاكم الصلاة في شعبه !!!!!. اما العامل الاخير فهو معامل الاستحمار التراكمي والذي نتج من خضوع الشعوب الاسلامية لفترات طويلة لتحالفات الائمة ورجال السياسة، وتم تقطير نمط تفكير محاصر و انهزامي، وظل الوعي الجمعي الاسلامي يمتص ذلك النمط على المدى الطويل، ويحدد قدرته الابداعية والفكرية ذاتيا، وتبع ذلك التحديد انكفاء وتقوقع ناتج من عدم القدرة على المقاومة للوارد لعدم وجود القابلية للمقاومة والتي كما ذكرنا صادرها نمط التفكير المهزوم. والمثال الاخير الذي يوضح اثر هذا المعامل هو عدم التقبل البُدائي للنقاش الحر في المجتمعات الاسلامية، فالتساؤل عن وجود الله الذي قاد سيدنا محمد (ص) لغار حراء يقابل رسميا في السودان بحد الردة، ويقابل مجتمعيا بالاستعاذة وحمد الله على نعمة الهداية. وتلبس المجتمع السوداني "ومعظم المجتماعت الاسلامية" خوف داخلي مبهم من الحرية الفكرية، وارتبطت في المخيلة بالاباحية والانحلال، وتبنى المجتمع تحاشي التفكير في كثير من القضايا التي تم تسويرها بواسطة رجال الدين. خلاصة القول ان الطريق نحو التقدم والرخاء يلزمه صراع داخلي مع الفئات التي تسعى لاستحمار شعوبها واستدامة ذلك الاستحمار، وليس صراع خارجي مع القوى الامبريالية، وحرية الشعوب لن تحصّل دون حرية التفكير في المقام الاول، والقدرة على مقاومة الثقافة الغازية لا يكون باستتابة المرتد، وانما بإمتلاك المنطق القادر على الرد و الجدل في جو خالي من الارهاب بمختلف اشكاله. [email protected]