لم أحلم بعد بدخول القصر الجمهوري يوماً كحلمي بتعلم اللغة الصينية ، كانت الأيام الخوالي من شيخوخة الطفولة العرجة البائسة بؤس الكلاب الضالة في ليالي الزمهرير ، كنا أيام الأعياد بعد وجبة فطور دسم بالخبيز والكعك المغلف بسلوفان و السكر المقرمش الأسمر اللون ، كنا نشد الرحال عبر الكباري الثلاث العتيقة ، النيل الأزرق وكبري أم درمان وكبري شمبات ، تبدأ الرحلة مشياً علي الأقدام من مدينة الخرطوم بحري مدينة الجمال والفن مروراً بالنقل الميكانيكي حيث الميكانيكا العذبة علي أصولها كم دفنت من أعمار ، وكم شيدت من بيوت ، وكم خرجت من أجيال ، ثم تسلقاً علي أسوار منتزه النيل الأزرق حيث الهواء العليل يشفي شقاوة الطفولة طفولة الكاتب شالس ديكنز ، ندق الخطي في كبري النيل الأزرق كالغزاة مبتهجين والأنفاس السكري برائحة الشوق تلهث ناظرة الي شارع النيل خلف جامعة الخرطوم مروراً بأشجار عالية البنيان تقع علي خدر الشاطي البتول ، كانت طفولة أحلي من الشهد العسجد ، بلا آيباد ولا فلاش مموري ، ولا أقمار إصطناعية ترقب تحركاتنا المجنونة ، نهلو تارة وأُخري نجري جري الوحوش في الضهاري ، نضرب بعضنا البعض في براءة الفراش ودعة الفنان المرهف عبر غيثارة حلوة الأوتار ،كان القصر الجمهوري شامخاً بصولجانه الأبيض كنا نرمي للجنود علي البوابة الشمالية تحية الإسلام ، أن السلام عليكم ، ويردون علينا برفع البنادق الي أعلي وضرب ارجلهم علي الأرض بقوة رداً للتحية ، كان يعجبنا هذا ونكررالسلام مثني وثلاث ورباع ، حتي ندع الجنود يرقصون ويتمايلون ويضحكون ، كانت لحظات المرور علي القصر الجمهوري من أرع اللحظات ، لم نكن نكترس لساكني القصر الجمهوري ، العسكر ، الأشاوس ، كنا نحن في ناظرهم مارقون عن حدود الطاعة ، وخارجون عن طوعهم بالتظاهر المرسوم علي الجبين ، و أغصان النيم تشهد لثورتنا القوية ، من مدرسة بحري الحكومية مروراً بجامعة الخرطوم ، فترة الراحة للرحلة الطويلة عند معدية توتي ، علي ركابها ألف سلام ، وعلي عيقانها مليون تحية ، مكللة بالرياحين والورود ، ثم قاعة الصداقة تلوح بالبشر والترحاب بأيادي بيضاء ، نركض قفذة واحدة الي كبري أم درمان نقف عنده الوهلة ، ثم الي شارع الإذاعة حتي كبري شمبات لا نكل ولا نتعب ، حتي العودة للديار عند صلاة العشاء ، عزالدين عباس الفحل ابوظبي [email protected]