المك.. والباشا.. وجهاً لوجه بخطى حسيرة نحو معسكر الترك.. تلكأت خطى جواد المك ونزلت السماء بثقلها على صدره الرحب وهو يواجه موقفاً لايتمناه له الا عدو. غشاه حزن صموت وهو يرى جنود إسماعيل يتبعون موكبه كسير الخاطر. متلكئ الخطى، قاصداً ود الباشا. وتبعاً للطقوس المتعارف عليها، جلس المك على كرسي قبالة الباشا، كان يرتدي زياً يرتديه زعماء الفونج ويتحلق حوله بعض من حرسه الخاص، قدم نمر لاسماعيل باشا هدايا معتبرة لم يكترث لها الباشا كثيراً وتلقاها بعدم مبالاة مما سبب ضيقاً للمك الذي اعتبر ذلك (حقاره) واهانة لا تغتفر.. وبرغم ذلك أدى المك قسم الولاء للسلطان التركي. قدم الباشا للمك عباءة قرمزية اللون تشبه كسوة الشرف التي كان يقدمها المستعمر الانجليزي لشيوخ القبائل والاعيان، وحجب عنه السيف الذي قدم مثله لملوك بربر وأرقو وشيخ قبيلة العبابدة (فهدية السيف تعني بأنه صار حليفاً حقيقياً ومدافعاً عن العدو ضد أعداء السلطان). الرهينتان تقدمت الحملة جنوباً قاصدة سنار.. يصحبها رهينتان برتبة (مك) هما نمر ومساعد، اللذان أجبرا على مصاحبة الحملة تحت حراسة جنود من الاتراك لديهم أوامر واضحة بإطلاق النار على الملكين عند أي بادرة هروب او عدم طاعة يقوم بها أحدهما لاسيما أن هناك تقارير سرية تشير الى (ململة) وسط المواطنين قد تؤدي الى انفجار وتمرد شعبي ضد الغزاة. وضع كل السجناء في القيود الحديدية، يرسفون في اغلالهم الثقيلة، بل وحرق بعضهم أحياء وكان الاتراك يقطعون آذان ضحاياهم ويجزون رؤوسهم بعد قتلهم. صار القتل ممارسة مستحبة عند أفراد الجيش الغازي، وصار النهب سلوكاً مشروعاً بعد أن تأخرت المرتبات لعدة شهور وللحصول على المال والغذاء. وظل الملكان في سنار لفترة من الزمن لم يسمح لهما بالعودة الى ديارهم إلابعد عودة اسماعيل من فازوغلي التي قصدها ابن الباشا باحثاً عن منابع النيل. وعاد وهو يحلم بمواصلة رحلته الى المنطقة خلف جبال القمر حيث ينهمر النهر المندفع من هناك ويتئد الخطى بعدها ويتلوى وئيداً في رحلته الازلية ليلتقي بالازرق ويمتزجا نيلاً هبة من الاله قاصداً مصبه في (المالح الكبير)، البحر الابيض المتوسط اول ما فعله ابن الباشا بعد عودته من فازوغلي، أن قام بتعديل الضرائب في منطقة النيل الابيض واجرى بعض التخفيضات، ولم تشمل هذه الاجراءات منطقة شمال الخرطوم وظلت على حالها كما السابق.. جائرة، وظالمة تركت في نفوس الاهالي ظلالاً من الغبن والشعور بغياب المساواة حتى في الظلم. شن جنود الحملة في المنطقة غارات مسلحة طلباً للماشية والحبوب مما ادى الى هروب شيوخ قبائل المنطقة الى شندي فصدر الحكم باعدامهم وقطع رؤوسهم، وطلب من المك نمر شراء جسد الشيخ جبل أبيض، أحد الزعماء الهاربين الذين أعدموا بعد لجوئهم الى شندي.. واشترى المك جسده وستره حتى لايمثل بجثته. مرة اخرى.. الباشا في شندي في بدايات عام 1822 صدر فرمان بتعيين إسماعيل باشا حاكماً على السودان.. وقرر إسماعيل العودة الى أم الدنيا للاستشفاء والعودة بعد ذلك لاداء مهمته في السودان.. شد رحاله بصحبة طاقم طبي وقرابة ال 250 من الاتراك المسلحين.. لم يرض الباشا الكبير محمد علي عن حصاد حملة ابنه من العبيد وتدهور الوارد منهم، إذ كان يصل الى مصر في عام واحد اربعون الفاً وتناقص وصار ما وصل مصر خلال السنوات الثلاث الاخيرة، قرابة الثلاثين الفاً فقط، وكان سبباً في عدم ايفاء الحكومة التركية بمرتبات المقاتلين في صفوف الحملة الذين أعياهم المرض ونقص الطعام والسكن الملائم خلال ذلك الموسم الذي كثر فيه هطول الامطار في سنار وانتشرت الاوبئة والامراض.. بلغ المك نمر الاربعين من عمره ووصف بأنه كان طويلاً يبلغ طوله حوالي 6 أقدام.. مهيباً.. بهي الطلعة.. اسمر اللون.. ووصفه بعض الكتاب بأنه يميل الى السواد.. أي زنجياً ولكنه كان جعلياً (أخضر) اللون حسب الوصف السوداني للتمييز بين الزنوج وعرب الفونج. عند وصول إسماعيل الى شندي بادر باصدار أمر بحضور المك نمر والمك مساعد امامه.. لم يتعد عمر اسماعيل باشا آنذاك الواحد والعشرين ربيعاً، وكان هو الابن الوحيد لمحمد علي باشا الذي ظل على قيد الحياة، اذ ولد في كافالا وعاش هناك مع والدته ولحق بوالده في القاهرة.. وصف اسماعيل بأنه كان ودوداً ولكنه بدا متعجرفاً أمام المك وأخيه مساعد. اخطرهم الباشا بانه قد صدر قرار بفرض ضريبة على الجعليين تدفع مقابل المال والماشية والجمال والحبوب قدرت بنحو مائتي الف جنيه استرليني، لم يفلح جمع القبيلة في توفير شئ منها فأخذ الاتراك كل ممتلكاتهم ماعدا ما يمكن إخفاؤه ودفنه مثل الذهب والمجوهرات.. وقيل إن هناك خمسة الاف جنيه كانت ملكاً للمك نمر لم يصل اليها الغزاة لانها كانت مدفونة في مكان ما في بيته. المواجهة بدأ إسماعيل متوتراً ولم يستطع السيطرة على اعصابه والفاظه الفظة تجاه المك، وكان الغضب بادياً ومسيطراً عليه، ولم يكن رد المك على ذلك مهادناً وكان لايخلو من الغلظة فاستشاط الباشا غيظاً وبادر المك بلطمة على وجهه بغليونه (الذي شجته جبهة المك ولم يشجها). وضع المك يده على مقبض سيفه وفكر في سحبه من جفيره لغسل عار القبيلة من غطرسة ابن الباشا فعاجله المك مساعد بنصيحة غالية قدمها لأخيه باللهجة البجاوية التي كانا يجيدانها، بحكم التداخل القبلي الممتد من شطآن النيل ودارالابواب حتى سهوب البطانة ومنطقة التاكا ومهاوي القاش والستيت. انصاع المك لنصيحة اخيه الغالية.. وأضمر في نفسه شيئاً يشفي به غليله والانتقام جراء ما لقيه من إهانه من الباشا الصغير.. الذي لم يقبل الاعتذار، ووعد بزيادة الضريبة في اليوم التالي. يتبع [email protected]