أنباء عن اغتيال ناظر في السودان    الصادق الرزيقي يكتب: الدعم السريع وشهية الحروب التي فُتحت في الإقليم    خسائر ضخمة ل"غانا"..تقرير خطير يكشف المثير    إسرائيل تستهدف القدرات العسكرية لإيران بدقة شديدة    "خطوة برقو" تفجّر الأوضاع في دارفور    الترجي يسقط أمام فلامنغو في مونديال الأندية    الحلقة رقم (3) من سلسلة إتصالاتي مع اللواء الركن متمرد مهدي الأمين كبة    افتتاح المرحلة النهائية للدوري التأهيلي للممتاز عصر اليوم باستاد الدامر.    فيكم من يحفظ (السر)؟    في السودان :كيف تتم حماية بلادنا من اختراق المخابرات الإسرائيلية للوسط الصحفي    من الجزيرة إلى كرب التوم..هل دخل الجنجويد مدينة أو قرية واستمرت فيها الحياة طبيعية؟    التقى بروفيسور مبارك محمد علي مجذوب.. كامل ادريس يثمن دور الخبراء الوطنيين في مختلف المجالات واسهاماتهم في القضايا الوطنية    هيمنة العليقي على ملفات الهلال    الحرب الايرانية – الاسرائيلية: بعيدا عن التكتيات العسكرية    نشاط مكثف لرئيس الوزراء قبل تشكيل الحكومة المرتقبة    نقل أسلحة إسرائيلية ومسيرات أوكرانية الى افريقيا بمساعدة دولة عربية    والي الخرطوم يصدر عدداً من الموجهات التنظيمية والادارية لمحاربة السكن العشوائي    أدوية يجب تجنب تناولها مع القهوة    شاهد بالصور والفيديو.. الفنان حسين الصادق ينزع "الطاقية" من رأس زميله "ود راوة" ويرتديها أثناء تقديم الأخير وصلة غنائية في حفل حاشد بالسعودية وساخرون: (إنصاف مدني النسخة الرجالية)    رئيس الوزراء يطلع على الوضع الصحي بالبلاد والموقف من وباء الكوليرا    إدارة مكافحة المخدرات بولاية البحر الأحمر تفكك شبكة إجرامية تهرب مخدر القات    شاهد بالصورة والفيديو.. وسط ضحكات المتابعين.. ناشط سوداني يوثق فشل نقل تجربة "الشربوت" السوداني للمواطن المصري    (يمكن نتلاقى ويمكن لا)    سمير العركي يكتب: رسالة خبيثة من إسرائيل إلى تركيا    عناوين الصحف الرياضية السودانية الصادرة اليوم الأثنين 16 يونيو 2025    شاهد بالفيديو.. الجامعة الأوروبية بجورجيا تختار الفنانة هدي عربي لتمثل السودان في حفل جماهيري ضخم للجاليات العربية    شاهد بالفيديو.. كشف عن معاناته وطلب المساعدة.. شاب سوداني بالقاهرة يعيش في الشارع بعد أن قامت زوجته بطرده من المنزل وحظر رقم هاتفه بسبب عدم مقدرته على دفع إيجار الشقة    رباعية نظيفة .. باريس يهين أتلتيكو مدريد في مونديال الأندية    بالصورة.."أتمنى لها حياة سعيدة".. الفنان مأمون سوار الدهب يفاجئ الجميع ويعلن إنفصاله رسمياً عن زوجته الحسناء ويكشف الحقائق كاملة: (زي ما كل الناس عارفه الطلاق ما بقع على"الحامل")    على طريقة البليهي.. "مشادة قوية" بين ياسر إبراهيم وميسي    المدير العام للشركة السودانية للموارد المعدنية يؤكد أهمية مضاعفة الإنتاج    المباحث الجنائية المركزية بولايةنهر النيل تنجح في فك طلاسم بلاغ قتيل حي الطراوة    من حق إيران وأي دولة أخري أن تحصل علي قنبلة نووية    أول دولة عربية تقرر إجلاء رعاياها من إيران    السودان..خطوة جديدة بشأن السفر    3 آلاف و820 شخصا"..حريق في مبنى بدبي والسلطات توضّح    ضربة إيرانية مباشرة في ريشون ليتسيون تثير صدمة في إسرائيل    بالصور.. زوجة الميرغني تقضي إجازتها الصيفية مع ابنتها وسط الحيوانات    معلومات جديدة عن الناجي الوحيد من طائرة الهند المنكوبة.. مكان مقعده ينقذه من الموت    بعد حالات تسمّم مخيفة..إغلاق مطعم مصري شهير وتوقيف مالكه    رئيس مجلس الوزراء يؤكد أهمية الكهرباء في نهضة وإعادة اعمار البلاد    إنهاء معاناة حي شهير في أمدرمان    وزارة الصحة وبالتعاون مع صحة الخرطوم تعلن تنفيذ حملة الاستجابة لوباء الكوليرا    فجرًا.. السلطات في السودان تلقيّ القبض على34 متّهمًا بينهم نظاميين    رئيس مجلس الوزراء يقدم تهاني عيد الاضحي المبارك لشرطة ولاية البحر الاحمر    وفاة حاجة من ولاية البحر الأحمر بمكة    اكتشاف مثير في صحراء بالسودان    رؤيا الحكيم غير ملزمة للجيش والشعب السوداني    محمد دفع الله.. (صُورة) تَتَحَدّث كُلّ اللُّغات    في سابقة تعد الأولى من نوعها.. دولة عربية تلغي شعيرة ذبح الأضاحي هذا العام لهذا السبب (….) وتحذيرات للسودانيين المقيمين فيها    شاهد بالفيديو.. داعية سوداني شهير يثير ضجة إسفيرية غير مسبوقة: (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام وأوصاني بدعوة الجيش والدعم السريع للتفاوض)    تراجع وفيات الكوليرا في الخرطوم    أثار محمد هاشم الحكيم عاصفة لم يكن بحاجة إلي آثارها الإرتدادية علي مصداقيته الكلامية والوجدانية    وزير المالية السوداني: المسيرات التي تضرب الكهرباء ومستودعات الوقود "إماراتية"    "الحرابة ولا حلو" لهاني عابدين.. نداء السلام والأمل في وجه التحديات    "عشبة الخلود".. ما سرّ النبتة القادمة من جبال وغابات آسيا؟    ما هي محظورات الحج للنساء؟    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجهاد الألماني في سبيل دارفور
نشر في الراكوبة يوم 15 - 12 - 2014


1
السودان في الحرب العالمية الأولى
Roman Deckert رومان دكرت2
ترجمة د. حامد فضل الله برلين
إن "عسكرة الاقتصاد السياسي" في سودان وجنوب سودان اليوم نمت
منذ عهد الاستعمار وقد كان لألمانيا مساهمتها التاريخية في ذلك.
عندما يحضر الماني الى السودان ينبهر من الحفاوة البالغة التي يحظى بها هناك. وهذا نابع من الاِدراك الشائع ،بأن المانيا ليس لها موروث استعماري في البلد تتحمل تبِعاته. إن هذا الاِدراك خاطي وملتبس، صحيح إذ أن الدور الألماني لم يكن بادِ للعيان مثل دور الدول الكبرى الأخرى ، ولكن بلا ريب له أهمية مركزية.
الألمان " مكتشفون " للاستعمار.
بدأ السودان الحديث لسودان وجنوب سودان اليوم في عام 1821 مع الغزو المتعاقب ل " بلاد السودان "("بلد السوُد") بواسطة الحاكم العثماني في القاهرة محمد علي باشا. زار السودان بعد ذلك بقليل في حاشية الغزو التركي – المصري أيضاً "المكتشفون" الأوائل من المانيا. كان من بينهم في سنوات 1830 Hermann von Pükler-Muskau باحثين بارزين مثل الأمير هيرمان فون بُكلر- موسكاو
وكتابه " من امبراطورية محمد علي "والذي حقق نجاحاً عالمياً. -
في عام 1844 "البعثة (Ägyptologie ) أحد مؤسسي علم المصريات وقاد كارل رتشارد لبسيوس الملكية البروسية"
حتى وصل الى الخرطوم التي كانت قد تأسست حديثاً وقتها. Königlich Preußische Expedition
بعد عودته قام بأقناع فريدريش فلهم الرابعFriedrich Wilhelm IV ، بشراء جزء من ذهب مقبرة
الملكة المروية الكنداكة أماني شخيتو للمتحف المصري في برلين، والذي لايزال حتى اليوم يثير الدهشة و الاعجاب .أكتسب النصف الآخر من الكنز الملك لودفيج الأول فون بيرن Ludwig I von Bayern عن طريق أحد سارقي القبور الإيطاليين .
إن ازدهار السياحة المصرية، أدى ابتداء من منتصف القرن التاسع عشر الى تصاعد عدد الألمان في السودان، فواصل الجغرافي من هامبورج هينرش بارت Heinrich Barth، الذي يعتبر كأهم باحث لأفريقيا ، رحلته ماراً بغرب سودان اليوم الذي يعتبر من وجهة النظر الأوروبية بلداً مجهولاterra incognita
من مدينة كرفلد، Eduard Vogel كما تطور مصير ادوارد فوجل
المفقود في منطقة تشاد اليوم، الى قضية قومية في الصحافة الوطنية. لقد استغلت الجمعية القومية الألمانية مطالب بعثة الإنفاذ ونظمت ، استكشافاً اضافياً بمساعدة بارت هيرسوج فون ساكسن- كوبورج
1862 الذي قام في عامHerzog von Sachsen Sachsen- Coburg- Gotha- جوتا
برحلة صيد في شرق السودان . لقد كتب الفرد يرْهم
الذي كان في صحبة السمو العالي، عن رحلته الأولى للسودان 1847- 1852Alfred Brehm
إن تاريخ البلد " طمس بدماء آلاف الضحايا من البشر بسبب الجشع والثأر " تلك هي جملة لايزال لها مفعولها المحزن بعد أكثر من مئة وخمسين عاماً.
أثار الاهتمام في المانيا تقارير الرحالة الباحثين عن النهب المنظم للسودان بواسطة الغزاة العثمانيين كونهم الوحيدون كشهود على تجارة الرقيق التي كانت تمارسها القوى الاستعمارية غير الأوروبية لأفريقيا (المقصود هنا العثمانيون – المترجم ) وما تضمنه ذلك من مُلابسات سياسية. وهذا ينطبق على وجه الخصوص على عالم النبات الألماني البلطيقي جورج شفاين فورت
Georg Schweinfurth الذي رافق من عام 1868 الى 1871، بتكليف من الأكاديمية البروسية للعلوم ومؤسسة هومبولت التي أنشئت حديثاً، البعثة المصرية لاِكتشاف سن الفيل (العاج) والرقيق في جنوب سودان اليوم، وللبحث في التفرعات العديدة لمجرى النيل في بحر الغزال. وفي كتابه " في قلب أفريقيا"، الذي يعتبر حتى اليوم مرجعا في وصف الأعراق، مُروجاً علناً بمنع اصطياد الرقيق وايضاً بمنع مشاركة المانيا في الاستعمار.
الإداريون الألمان ضد الجهاد
استغلت بريطانيا العظمى وهى السلطة الاستعمارية بالفعل وضع مصر المالي المتردي وغضب الراي العام الأوروبي وطالبت بأن يقوم الحاكم العثماني في القاهرة بتنفيذ تعيين " إداريين غربيين " وهكذا صار شارس غردون الذي اصبح أسطورة في الحرب الأهلية الصينية، حاكماً لمديرية الاستوائية التي تم احتلالها حديثا وكانا في خدمته أيضاً أثنان من الألمان. كما تم تعين عام 1878 الطبيب محمد أمين الياس أدورد اشنتزر، الذي اشتهر باسم أمين باشا Mehmed Emin Alias Eduard Schnitzer
الذي أعتنق الاسلام بعد اليهودية، مديراً للاستوائية خلفاً للاسكتلندي شارلس غوردون. وفي نفس العام تم تعيين رجل الأعمال كارل فريدريش روزتKarl Friedrich Rosset حاكماً لدارفور وقد كان من قبل ممثلاً لألمانيا كقنصل عام في الخرطوم . ولكنه مات مسموماً فور وصوله الى السلطنة التي تم إخضاعها توا. وأعقبه المهندس الألماني كارل كرستيان جيجلر Carl Christian Giegler وقد عينه غردون الذي صعد الى وظيفة الحاكم العام ، عام 1879 نائباً له. كما اصبح المصور الألماني كارل بيرجهوف Carl Berghof مسؤولاً عن مكافحة الرق في فشودة الجنوبية السودانية. ولكن أيضاً كان هناك ألمان ناشطون شاركوا أيضا في تجارة الرقيق والإتجار في البشر.
من المؤكد و الثابت تقديم كارل هاجنبيك Carl Hagenbeckفي ذلك الوقت كمدير لحديقة الحيوان
في مدينة هامبورج ضمن " استعراضه امام الجمهور" " أفرادا من النوبة الأحياء من السودان داخل الأقفاص بجانب الحيوانات.
بعد ستين عاماً من النهب المنظم انفجر عام 1881 تمرد عاصف للمواطنين في غرب السودان ضد الحكام الأتراك- المصريين، الذين وهنت من قبل علاقتهم بالإمبراطورية العثمانية. ادعى محمد أحمد من دنقلا الذي تعود سُلالته الى النبي محمد (ص) ، بأنه المهدي المنتظر. وأعلن الحرب المقدسة „الجهاد" ضد الحكم التركي المصري. من سخرية القدر أن يكون عدم الرضا بمنع تجارة الرقيق سبباً بأن تحظى فكرة ذلك الثائر المنقذ اقبالاً هائلاً وان تجعل منها أول حركة كفاح اسلاموية للحداثة. وعندما حدثت المواجهات وانتصرت فيها جيوش المهدي وغنمت فيها كميات كبيرة من السلاح والذخيرة و من ضمنها كمية كبيرة من مدافع كروب الصلبة والتي كان قد استخدمها الجيش المصري في المعارك . كما قتل أثناء المعركة عدد من الاداريين الألمان .
ثم بدأ بعد ذلك حصار العاصمة لمدة عشرة أشهر ليقتحم المجاهدون بعدها، في يناير 1885 الخرطوم وترتب على ذلك حمامات من الدم. لقد تباطأت الحكومة البريطانية في ارسال حملة لإنقاذ غرودون. وهكذا سجلت هذه الثورة أول انتصاراً على المستعمرين الأجانب في تاريخ أفريقيا الحديث.
وهذا في نفس الوقت الذي اتفقت فيه القوى الأوروبية في مؤتمر برلين على الأسس التي تقسم بها افريقيا الى مستعمرات.
هذه الحقيقة النادرة وغير المألوفة والرعب من قطع المهدويون لرقبة غرودون اصبح السودان موضوعاً دائماً في الصحافة الأوروبية.
المهدي وكما زُعم ، بأن سيفه كان يملكه فارس في الحملة الصليبية، تُوفى عام 1885 وهو في قمة سلطته. مع كُل ذلك نجح خليفته، الخليفة عبد الله أن يبني حكماً استبدادياً دينياً وعبودياً – المهدية – الذي استنزفت البلد بمعنى الكلمة.
لقد استطاع أمين باشا حاكم مديرية الاستوائية الذي كان معزولاُ عن العالم الخارجي ان يصمد في وجه المهدية. وبات مصيره في محط اهتمام قراء الصحف والمجلات والكتب الألمانية وتحولت من خلال ذلك Carl Peters لقضية سياسية. وقد نظم كارل بيترس
المراوغ والمدافع عن الاستعمار بمساعدة شفاينفورت Schweinfurts حملة أنقاذ ، وكان الهدف الأساسي هو وضع اليد على مناطق جنوب السودان ا. وقد تم هذا ضد رغبة اتو فون بسماركOtto von Bismarck مستشار (امبراطورية الرايخ الألمانية)
وكان السباق من اجل تحرير أمين - والذي كان لا يرغب في اجلائه - وأيضاً بهدف الحصول
على الحقوق على الأرض ولكن كسبتها الحملة الاستكشافية البريطانية في ديسمبر عام 1889 بقيادة Henry Morton Stanley هنري مورتن استانلي
وبذلك فشلت السياسة الألمانية في الهيمنة على النيل التي عرفت" بالقبضة الألمانية " كجزء مركزي للسياسة الألمانية في وسط أفريقيا.
بعد نصف عام أعلن الرايخ الألماني في معاهدة عن "مقايضة" هلقولاند Helgoland بزنجبار وبذلك التخلي نهائياً عن أي حقوق على منطقة مجرى النيل الأبيض لمصلحة بريطانيا العظمى.
3 Sedan und Sudanسيدان وسودان
و كانت أيضاً مناطق استعمار الرايخ الألماني في شرق إفريقيا لها علاقة مباشرة مع السودان، حيث كان يتكون هناك معظم الجيش المحتل ، من المرتزقة السودانيين. لقد وافق البرلمان الألماني عام 1889 على طلب بسمارك للحصول على أموال لتكوين قوة حربية من أجل قمع ما يسمى الانتفاضة العربية. وقام مستشار حكومة الرايخ هيرمان فسمان Hermann Wissmann بتجنيد حوالى 600 سوداني
المتواجدون في القاهرة والذين عملوا من قبل في الجيش العثماني والذين اصبحوا بعد انتصار المهدويين
عاطلين عن العمل. كان الضباط الألمان يمدحونهم لمهارتهم القتالية وحسن سلوكهم وليس فقط لأنهم لا يشربون الخمر. لقد اغتالت فرق الجهاديين الألمان- السودانيين أكثر من مئة ألف مواطن أثناء القتال ضد المنتفضين. أن حرب الماجي ماجي والجدال والحوار حولها والذي وصل ذروته بين عام 1905- 1907، يعتبر أول تطهير عرقي في القرن العشرين.
اليس من قمة السخرية عندما تضغط الحكومة الألمانية على بريطانيا العظمى للقيام بحملة عسكرية ضد المهدويين بحجة دوافع انسانية.
كان الباعث السياسي الحقيقي لهذه المناورة الدبلوماسية، هو انهزام الحملة الاستعمارية الايطالية أمام قوات قيصر اثيوبيا في مارس 1896.كان الخوف في برلين ، بأن تخترق فرنسا وبلجيكا عبر جنوب السودان شواطئ شرق أفريقيا. ولتجنب ذلك ولمساعدة حليفتها ايطاليا، مارست الدبلوماسية الألمانية ضغطاً على الشركاء في لندن. وفي نفس العام كلفت الحكومة البريطانية الجنرال هربت كتشنر، لينظم غزوة تحت العلم المصري لإعادة احتلال السودان. لقد تم تمويل الحرب من صندوق الديون الدولي الذي يشرف على الديون المصرية المتراكمة، وتمت الموافقة من مجلس الدائنين بفضل صوت المانيا ضد المعارضة الفرنسية والروسية. وجهزت الحملة بمدافع كروب وبجانب الجنود المشاة من السودانيين الذين حاربوا ضد أبناء شعبهم انضم اليهم أيضاً ضباط المان كمراقبين. لقد عاش المعركة الفاصلة في أم درمان يوم 2 سبتمبر 1898 بجانب الشاب ونستون تشرشل ، كلاً من برنس كرستيان فون اشليزج- هولشتاين و أدولف فون تيدامان والذي كان قد أنضم من قبل الى حملة بيتر- أمين باشا، وشاهدوا كيف عشرات الالوف من الدراويش المجاهدين يندفعون ضد نيران المدافع الرشاشة البريطانية. ويستشهد تشرشل مغتاظاً وبسخرية مبطنة بالبارون الألماني متلاعباً بالكلمات، ومشيراً الى المعركة الفاصلة بين القوات الفرنسية والقوات الألمانية في يوم 2 سبتمبر 1870 في سيدان بفرنسا: " أنه يومنا العظيم ومن ثم أيضاً يومكم العظيم ": سيدان وسودان3.
تعتبر معركة ام درمان عموماً نقطة تحول في تاريخ الحرب، فمن ناحية لعبت الفروسية الكلاسيكية دوراً أخيراً ومن الناحية الأخرى استعراضاً للأسلحة النارية الاتوماتيكية لأول مرة ضد تفوق عددي خارق. وبذلك كانت الغزوة ايضاً اختباراً للحرب الصناعية، التي ابتلت بها بعد فترة وجيزة نصف البشرية. وكادت أيضاً في عام 1898 أن تشتعل الحرب العالمية الأولى في جنوب السودان.
فقد أسرع كتشنر مع قوته الحربية مباشرة بعد انتصارهم على المهدويين الى فاشودة ،المنطقة العثمانية على النيل حيث احتلتها حملة استكشافية فرنسية بقيادة جان- بابتستا مار شاند Jean-Baptiste Marchand . فأزمة فاشودة أوصلت البلدين الى حافة الحرب، مما دفع فرنسا أخيراً الى التراجع.
ومن ثم أعلن الحكم الثنائي الإنجليزي- المصري على السودان. وقد كان للرايخ الألماني بتعزيزه الدبلوماسي لسياسة الرهان الأقصى( عض الأصابع) إسهاماً كبيرا لتأسيس الحكم المشترك.
الجهاديون الألمان
ومن هذه الخلفية لا يتعجب المرء، بأن اندلاع الحرب العالمية الأولى، دفعت السودان مرة أخرى في مرمى نظر الاستراتيجيين في برلين. لقد ابتكرت هيئة أركان الحرب ووزارة الخارجية خطة تدعو فيها الشعوب الإسلامية في المستعمرات الى الحرب المقدسة ضد مقاومي الحرب. فأعلن الحلفاء العثمانيين عام 1914 الجهاد. لقد كتب المؤرخ ميشيل بيسك : Michael Pesek:
" لقد وجد هذا الإعلان تربة خصبة في السودان. فذكريات الثورة المهدية وإخمادها لاتزال حاضرة. لقد كانت القيادة العليا البريطانية في الشرق الأوسط في أعلى حالة التأهب. لقد وصلت الاشاعات للبريطانيين عن طريق أخبار التجار، بأنه قد تم تنصيب حاكم الماني- تركي في مدينة ام درمان العاصمة السابقة للمهدي. وتفجرت انتفاضة في جبال النوبة بتدبير من عملاء المان أو أتراك حسب تخمين البريطانيين. وساد الغليان في فيلق الضباط السودانيين. وأظهر الضباط استقبالاً حماسياً لفكرة الحرب المقدسة. تفاعلت المخابرات البريطانية بصورة عاجلة واستطاعت أن تكسب في أبريل 1915 أصحاب النفوذ من علماء السودان وحتى أبن المهدي الى جانبهم".
لقد تم تكليف عالم الاثنولوجيا (علم الشعوب البدائية ) ليو فروُبينيوص Leo Frobenius من قبل بارون ماكس فون اوبنهايم Baron Max von Oppenheim الذي كان يدير في وزارة الخارجية " محطة أخبار الشرق"
أن يقوم بتنفيذ مهمة سرية في السودان. لقد رفضت السلطات الايطالية في مصوع الإرتيرية لمجموعة العملاء الألمان مواصلة الرحلة وبالرغم من ذلك وحسب تقارير وزارة الخارجية في نهاية عام 1915، بأن الاشتباكات في شرق السودان شارك فيها المان.
كانت وزارة الخارجية البريطانية في توتر فوق العادة من احتمال تحالف بين السلطان علي دينار- الذي أستعاد استقلال سلطنته في غرب السودان بعد سقوط المهدية – وبين قوى متوسطة. تثبت تقارير وزارة الخارجية الألمانية ،بأن السلطان علي دينار ، بعد الهزيمة الفاصلة أمام الفاتحين الإنجليز-والمصريين ، طلب نهاية عام 1916 مساعدة المانيا، وذلك بفترة قصيرة قبل أن يقتل في كمين. بعد عام طرأت حادثة جديدة، عندما دخل المنطاد الألماني الذي يقوم بتزويد جيش الاحتلال الألماني في شرق أفريقيا بالإمدادات، في المجال الجوي السوداني. و عند تحليقه فوق سماء الخرطوم تلقت البعثة المثيرة أمراً بالرجوع. ساهم قدماء الجهاديين السودانيين من أن يستطيع الجنرال بول فون لوتوف- فوربك Paul von Lettow- Vorbeck مواصلة حرب العصابات الساحقة في تنجانيقا حتى أخر يوم في الحرب.
مخلص حتى الموت
لقد حارب سوداني أيضاً في معارك أخرى لصالح القيصر والرايخ .كان محمد خليل صادق من وادي Freiherr von Witzlebenحلفا خادماً لفراهر فون فتسليبن
، الذي كان يعمل في البنك الشرقي الألماني. كما شارك أولاِ متطوعاً في الحملة الفرنسية، ثم
في فرقة القائد الأعلى، كولمار فراهير فون دير جولتز Colmar Freiherr von der Goltz الذي
كان يقدم مع فرقته المشورة للجيش التركي. انتمى النوبي محمد خليل في العراق الى حملة هوبمان فرتز كلاين Hauptmann Fritz Klein
التي كانت مهمتها تخريب أنابيب امداد البترول الخام في محافظة خوزستان الايرانية. ومنح محمد
صادق وسام الصليب الحديدي في الموصل وكذلك شُرف بمرافقة جثمان فون دير جولتز الذي تُوفي في بغداد الى القسطنطينية، كما خدم أخيراُ في الجبهة الفلسطينية في مقر قيادة فون اوتو لِمان فون ساندرس von Otto Liman von Sanders ، وهو واحد من قلائل
جنرالات يهودية في جيش الرايخ. وعمل بعد نهاية الحرب في برلين " حارسا "ثم تاجر حلوى .وفي عام 1922 ترك المحل الذي كان يعرض فيه أيضاً العسل التركي وعاد الى السودان. وعمل حتى الشيخوخة كحارس في مفوضية المانيا الاتحادية وبذلك تجنب على الأرجح مصيراً مثل الذي قاسى منه ابن وطنه محجوب بن أدم محمد.
لقد كان محجوب أحد أبناء الجهاديين السودانيين في شرق أفريقيا الألمانية وكان قد أنضم بنفسه الى الفرقة الألمانية. وهو لايزال في سن الطفولة وسافر الى برلين بعد الحرب ليطالب بمتأخرات راتبه وراتب والده المتوفي. وتزوج هناك عام 1933من إمراه المانية وأسس أسرة
أنضم اليها ايضاً طفله الأخر من إمراه المانية ثانية. قامت البروفيسورة مريانا بشهاوس- غرست Marianne Bechhaus- Gerst المتخصصة في علم الأفريقيات بإنجاز دراسة خاصة عن محجوب أدم وما يخفيه من تناقضات في شخصيته والذي اطلق على نفسه مرة أسم بيومي محمد حسين. وبالرغم من حرمانه من حقوقه بسبب هوس العنصرية ، " برز كجهادي" في كثير من الاحتفالات الاستعمارية تحت الصليب المعقوف وظهر في العشرات من الأفلام الدعائية في دور جانبي. مع بداية الحرب عام 1939 طلب الانضمام الى القوات المسلحة ولكن رفض طلبه. وعندما انجب محجوب عام 1941 طفلا من امرأة المانية ثالثة، افتضح أمره كأب أنجب من عدة نساء وتم التشهير به واعتبر مدنساً وعارا للجنس الآري ،اُدخل سجن الجستابو في برلين. ثم رُحل الى معسكرات النازية في منطقة ساكسنهاوزن Sachsenhausen وبدون محاكمة وكسجين يحمل رقم 39604 حيث تُوفى في 24 نوفمبر 1944 في ظروف غامضة.
ولتذُكر المصير المحزن للألماني- السوداني وضع عام 2007 حجر تذكاري4...أمام منزله السابق في
في وسط برلين وليس بعيداً من ميدان روزنتال .Brunnenstarasse 193شارع
هذه اللوحة الصفراء تنعش من جديد ذكرى لفصل غطى عليه النسيان من العلاقات الألمانية – السودانية والتي لاتزال حتى اليوم في تفاعل مستمر، ولأن" العسكرة التاريخية للاقتصاد السياسي" هو الجذر الأساسي للصراعات المتواصلة في السودان وجنوب السودان.
هوامش
1- نشر المقال في مجلة " INAMO الألمانية "المتخصصة في قضايا الشرق الأوسط العدد79- 2014.
بمناسبة مرور 100 عام على الحرب العالمية الأولى والمقال مأخوذ من أطروحة دكتوراه غير منشورة عن العلاقات الألمانية السودانية، ونأمل في ترجمتها الى اللغة العربية مستقبلاً.
2- نورمان دكرت درس علم التاريخ وباحث في الشأن السوداني ،زار السودان وجنوب السودان عدة مرات ويشارك بالكتابة في المجلات المتخصصة والصحافة ويعمل حالياً كباحث في منظمة الاِعلام "MICTعبر التعاون وفي التحول"
3- يشير هنا تشرشل الى انتصار الألمان على الفرنسيين في معركة سيدان في فرنسا بقوله (يومكم العظيم) أما قوله ( يومنا العظيم ) وهولا يعني انتصار البريطانيين على المهدويين فحسب وانما أيضا
بسخرية مبطنة على انتصار البريطانيين على الفرنسيين في السودان عندما قامت قوات كتشنر بطردهم من فاشودة وفشل الألمان في الهيمنة على النيل ويتلاعب بالكلمتين لتقاربهم في النطق. (المترجم)
4 - حجر تذكاري، تقليد جديد في المانيا، اذ يوضع أمام منازل الذين استشهدوا أو عذبوا أو اعدموا ظلماً، حجراً مرتفعاً تضع عليه لوحة معدنية من النحاس باللون الأصفر ليكون ملفتاً للمارة.، مكتوب عليها الاسم والتاريخ –
(حجر عثرة) )وهى تعني حرفيا Stolperstein) يستخدم الألمان كلمة معبرة للوحة التذكارية
وبالطبع ليس المقصود أن يتعثر المرء وانما أن ينتبه الى الحجر النافر عن سطح الأرض وبذلك يطلع على مضمون اللوحة المعدنية.(المترجم)
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.