للسجن سطوة لاتخطئها الانفس سيما عندما يوغل الليل وترخي الظلمة سدولها على الكون، وللسجان صولة يجد السجيبن وطأتها في كل عصر ومصر. وفي تلك الاجواء الخانقة انفق الشاعر عبدالرحمن الابنودي (29) ليلة خلف قضبان سجن القلعة، احد اشهر السجون المصرية، قطعا في ظروف غير طبيعية واوضاعا غير متكافئة فالصلة لاتتعدى علاقة تبادلية بين سجين وسجان، لم يكن يملك الابنودي وقتها سوى التلصص من ثقب باب زنزانته او من(النظارة) كما يسمونها هناك تندرا وسخرية للتعرف على مايجري في الفضاء الخارجي الذي لم يكن يتعدى حوش السجن او تحسس الاخبار عن من دخل الى السجن ومن خرج منهم. يروي عبدالرحمن الابنودي او(الخال) كما يدعى تحبباً الى برنامج "الزنزانة" بفضائية "دريم" ذكرياته عن السجن عندما حل نزيلا بالزنزانة(21) بسجن القلعة، ويقول:" داهمني زوار الفجر ليلة وصول والدي الى القاهرة من الصعيد بعد جفوة طويلة بيننا، لأنه كان يريدني ان اصبح موظفا ب(الميري) وانا فضلت الذهاب الى القاهرة، والدي اخذ قليلاً بمظهر الضباط والعساكر وهم يقتحون شقتي فجراً لكنني طمأنته وقلت له" ما تشغلش بالك ياابوي، في مشاكل فكرية بيني وبينهم". يقول الابنودي: "حملوني الى التحقيق وهناك التقيت ضابط جاهل غناه جهله عن كل علم، وجه الى سؤالا غريباً عن من هو الابنودي؟!.. يعني من الذي يقف خلف ظاهرة الابنودي ولماذا هو منتشر بين الناس بهذا الشكل؟! تعجبت من سؤاله وقلت له اسأل الناس، او اسأل من فعلوا ذلك.. فانا حقيقة لا اعرف اجابة لسؤالك". ويمضي الابنودي في سرد حكايته الشائقة ويقول: "انا حقيقة كنت خائفا بعض الشئ لكن كان محض خوف، ولم يكن انهياراً كالذي يدفعك للانكسار او تغيير مبادئك". بعدها حمل الابنودي لينزل ساحة الزنزانة رقم(21) بسجن القلعة، وبعد ان فتح الصول بسيوني الباب دفعه بقوة داخلها فارتطمت عصبة قدمه بقسوة ببقايا سريد حديد كان مثبتا في حائط الزنزانة، قوة الارتطام ادخله في نصف غيبوبة وانسحب ببطء وسط كثافة الظلمة حتى بلغ الحائط، لكنه ظل مستغيظا حيث حرمته وطأة الالم من الرقاد. وفي غمرة انشغاله بالامه احس بعرق شديد يتصبب من جسمه بالرغم ان وقت شهر اكتوبر حيث الاجواء باردة نسبياً، عندما اطل الفجر فوجأ بان العرق الذي كان يتصبب منه لم يكن سوى دماء البراغيث او (البق) واكتشف ان الصول بسيوني دفع اليه ببطانتين تقاسمت البراغيث خيوطهما . يقول الابنبودي:"في السجن رغم حلاوة التجربة لكن الزمن عبارة عن يوم واحد فقط يتكرر، فالزمن خلف القضبان بطئ، بليد لا يتغير ولايتبدل يصعب كسره الا بالعمل وبالتفاؤل فليست ثمة شئ يربطك بالحياة". لذلك تجتهد لتجد شيئا يربطك بحياة الناس بالخارج وبالنسبة للابنودي كان صدى مشاجرات تلاميذ وغنائهم يأتي اليه كصدى نشيد بعيد هو ذلك الشئ، حتى تعلق به قلبه واضحى يحفظ مواعده رغم ان التقاط الاصوات البعيدة كان بالغ الالم والصعوبة. كان الابنودي احد الذين لم يكتب عليهم العذاب اذ كانت توجيهات وزير الداخلية وقتها شعرواي جمعة واضحة (الابنودي.. ممنوع اللمس)، فلم يضرب ولم يؤذى لكن مع ذلك لم يعطى مفاتيح كل شئ فقد منعت عنه الاقلام والاوراق فاضطر لتنشيط الذاكرة على غرار مايفعل الشعراء الاقدمون والاكتفاء بالحفظ دون تدوين، وقد روى المناضل اليساري رفعت السعيد تجربة قريبة من تلك اذ روى بذات البرنامج انه اضطر لتدوين رواية كاملة في ذاكرته وخرج من السجن ينوء بحملها ولم يتنفس الصعداء الا بعد ان سطرها على الورق تماما كالمرأة التي استراحت بعد الولادة كما يقول. وقبل ان يبرح الابنودي محطة التدوين هذه اشار الى ان الشاعر فؤاد حداد احد اكثر الشعراء المصريين حبساً معظم قصائده تأخذ شكل هندسة ابواب وشبابيك السجن لانه لم يجد بدا ايضا من الالتجاء لذات الطريقة، فكان كل شباك وكل باب وكل زنزانة تحيله الى مقطع من قصائده. وذات مرة وجد الابنودي نفسه مضطرا لتدوين قصيدة بقلم "كوبية" على ورق سجائر "بفرة"، وعانى من امره رهقا من ضيق الورقة وغلظة خط القلم. ويؤكد الابنودي انه لم يلتقي الشيخ عبدالحميد مطلقا داخل السجن رغم ادعاء الاخير ذلك ويقول:" لما زادت اعاءات الشيخ كشك بانه التقى بي داخل السجن وحاورني، رغم انني كنت متأكدا ان ذلك لم يحدث، سألت الذين رافقتهم داخل السجن حيث اكدوا لي انني لم التقي كشك داخل السجن وقتها". وينهي الابنودي ذكرياته الباذخة بأن السجن والاعتقال ليس بطولة ولاينبغي لا احد ان يعتبرها كذلك فهي حالة عادية وسلوك عام "زي ما ناكل ونشرب ونسجن" كما يقول الابنودي ويضيف "كثيرا من كنت اذهب لتقديم برامجي بالاذاعة بعد جلسات تحقيق مطولة لكنني لم اكن اخبر احدا بذلك، لانني اعتبرها مسألة عادية وليست بطولة". [email protected]