مدهشة وعجيبة ، حيوية وصاخبة ، كل مكان فيها ينبض بالحياة ويزدان بعبق التاريخ سميتها مدينة الحياة ، سكانها خفيفي الظل ، يتحدثون معك كثيرا وفي كل شئ فتدب فيك الحياة ، وينتعش من حولك الامل ، ويزداد فيك الترقب لاندهاش قادم وجديد ، قال لي احد الاصدقاء أنها المدينة الوحيدة الذي تنفق فيها أموالك ، ثم تظل سعيدا بهذا الانفاق ، ضحكت وقلت له : لانك تلقي بجيبك في بحيرة حياتك الراكدة .. القاهرة ، وسمها ماشئت بلد الألف مئذنة ، أو مدينة الحياة ، أو المدينة التى لا تنام ، أو قاهرة المعز ، فكلها واقع وجميعها حقيقة ، وصلت اليها هذه المرة ليست للقاء أو عمل وانما هكذا حزمت حقائبي وتيمت شطرها مثل مريد صوفي يزور شيخه ، فلا غرض لي فيها الا زيارتها ، فقد جلست ذات مساء على طاولة مكتبي وعبر الشبكة العنكبوتية التى نسجت خيوطها في حياتنا فأشتريت تذكرة ، وحجزت فندقا ، واخذت جميع ذلك وذهبت الى المطار . في مطار القاهرة الحيوي ، اكتشفت انني قد حجزت فندقا بعيدا ، بل هو منتجع يمتلئ بالسواح الاجانب ، فأمضيت فيه ليلة ساكنة وسطهم أرتقب فيها مرة بعد اخرى نجوما ساطعة ظلت تطل نحوي عبر سماء الشرفة ، وفي الصباح الباكر استيقظت ناشطا و لما اكتشفت قربي الشديد من الاهرامات قررت زيارتها وطلبت من الفندق سيارة ليموزين بسائق وانطلقت قاطعا مسافات الامكنة صوب تاريخ عريق مصطحبا سائقا لطيف ومثقف .. عند باب الهرم الصغير منعني الحارس من اصطحاب كميرتي فتضايقت من منعه لي الا انني نسيت ذلك عندما تفاجأت بشكل ممر الدخول الى داخل الهرم الصغير ، فقد كان الممر يجبرك على ان تظل منحنيا على هيئة الركوع على طول المسافة ، وينحدر بك تدريجيا الى ان يفضي بك الى ساحة صغيرة مثل صالون صغير ، وفي وسطها مقبرة . عندما وصلت لم يكن بالساحة سوى فتاة أجنبية حسناء ، تتربع في الركن الشرقي للساحة وهي مقبلة بوجهها نحو المقبرة ، وقد ركزت عيناها على الفضاء أمامها كمن ذاك الذي يؤدي تمارينا لليوجا ، انها لم تحفل بوجودي على الرغم من انني جلست غير بعيدا عنها وقد كنت لاهثا أتصيد الهواء كي أشبع رئتاي الجائعة وعضلاتي التى تشنجت من طول الانحناء . هنيهة ووصل وفد من زوار آخرين الى ذات الساحة ، ثم غادروا ، وأنا والفتاة على حالتنا هي جالسة وانا أرقبها بين الفينة والاخرى ، ثم توجست ، خاصة عندما ادركت انني لوحدى معها ، وأننا أمام مقبرة سمعت كثيرا عن أسرارها ، وخفاياها ، أو قل لعناتها ، فخفق قلبي بشدة حتى أحسست بعدم مقدرتي على النهوض للعودة ، وفيما انا على هذه الحالة تحركت الفتاة بشكل سريع وكانها تود اصطياد شئ ما ، ثم اخرجت كميرا رقمية حديثة ذات فلاش ساطع ، والتقطت صورا للمقبرة من عدة زوايا ، ثم اخفت الكميرا سريعا في حقيبتها وعادت الى جلستها ، أما انا فقد أنتهزت وصول ضجيج زوار جدد الى ساحة المقبرة و استجمعت قواي وقفزت عائدا الى بوابة الخروج مودعا هذه الريبة وتلك المقبرة . الخروج هو على نفس الشاكلة ، وهو ان تكون منحنيا على هيئة الركوع ، ولكنه ايسر قليلا حيث انك تتدرج صاعدا وفي كل مرة تقترب فيها من السطح تحس بانك تلتقط الهواء بشكل افضل . قد كان في بالي ان اعاتب الحارس على منعي من حمل الكميرا معي الا ان فرحي بالوصول وتعجلي لاتقاط كوب ماء بارد جعلني اكتفي باستراجاع كميرتي منه شاكرا له. دلقت الماء في جوفي ، وعبأت رئتاي بالهوا ، ثم سالت البائع كم الحساب ؟ ، لم يتردد البائع بأن يخبرني أن المطلوب هو عشرة جنيهات ، ولم اتردد أنا في نقدها له ثم توجهت الى سائقي الذي كان يرقبني فسالني كم دفعت لقاء قارورة الماء ؟ فقلت له : عشر جنيهات فعاتبني مستنكرا المبلغ ، ومذكرا لي بان سعرها لا يتجاوز واحد جنيه ونصف، لم ارد على السائق ، ولكني ابتسمت في وجهه وقلت في نفسي : اذا ثمانية جنيهات ونصف هي قربان خروجي سالما من صاحبة اليوجا التى تسرق الصور دون ان تصيبني لعناتها . من الصعب ان تكون في القاهرة ثم تتجاوز النيل والكبدة الاسكندراني ، فالنيل في القاهرة له طعم خاص فهو رائق وحنون ، كما ولو انه بطل يستريح من عناء سفر طويل، وكأنما القاهرة في صخبها وحيويتها تحتفل بقدومه ، وتغني لوداعه ، ففي صباح اليوم التالي طلبت أن يرشدوني الى مطعم على النيل ، ومن عادتي أنني لا أحب ارتياد الاماكن الفخمة بل أحبها دوما أن تكون بسيطة وشعبية ، نظيفة وانيقة فوجدت ما أريد ، وهناك اكتشفت طعم الكبدة الاسكندراني عندما تكون على نيل يستريح في مدينة تغني له . الصعود الى القمة دوما صعب ، ولكنه جميل لانه يمكنك من تقدير الاشياء على حقيقتها وهذا ما أحسسته وانا على قمة جبل المقطم في هذا الليل البارد من شهر مارس وقبيل الغروب ، وانا اشاهد القاهرة من اسفل منا تتلالا كعروس مزدانة في ليلة زفافها من هناك كنت اقترب رويدا وأحاول جاهدة استدعاء حقبا من التاريخ مستلهما قدرتي على التصور من روح هذه المدينة البطل. وفي القاهرة التاريخية حيث تقع قلعة صلاح الدين ومجموعة من الابنية والمساجد تنفست ملء رئتاي من أريج الهندسة الاسلامية ، وعبق الفكر المعماري الجيد ، مسجد يصل ارتفاعه الى 37 مترا ، ولاتوجد فيه نوافذ ، وليس به مكبرات صوت ولكنه من الداخل يتمتع بجو لطيف وتهوية ممتازة ، وصوت مؤذنة ، وخطيب جمعته يصل الى جميع الاركان وبوضوح تام ، كل هذا بفضل التصميم الهندسي فقط والزوايا المدروسة التى اختيرت لجدرانه ، خرجت من هذا المسجد وأنا شارد الفكر يحدثني مرافقي ولا اسمعه جيدا ، كنت قد ذهبت بعيدا الى هناك حيث أشكر اجداننا في حضارة الانسان واستسمحهم لاعفاءنا من محكمة التاريخ . المقاهي تلعب دورا مؤثرا في الحراك الثقافي فهي في وجهها الاخر ملتقيات ادبية على ايقاع الشاي ، والقهوة ، والشيشة ، والهواء الطلق ، واذا ما تسنى لك الجلوس عند احدى المقاهي العريقة فلاشك انك سوف تجد كل ملامح الحياة وقد أتت اليك ، ففي المقهي قد ياتي اليك مطرب قديم ، يحمل آلة العود وكل راس ماله انه احتسى الفن مع العمالقة ، وان صوته لابأس به ، وانه يحب الطرب، ثم يقيم لك هذا المطرب حفلا خاصا ليس فيه احد سواك ، نعم حفل خاص هو المغني فيه وانت الجمهور ، والجميل انك ستستمتع فعلا بهذا الحفل الخاص ، وقد تحس في اللازمن بان المطرب صار صديقا حميما لك ، واذا ارخيت اذنك قليلا فضولا وليس تلصصا فقد تستمتع بحوار ثقافي جميل على الطاولة التى الى جوارك وقد تحس بالاعتزز اذا ما التقطت اذنك اسما لاحد الكتاب ممن هم اصدقاؤك فها انت تشاهد الفعل وصورته انك تشاهد الحياة وتعيشها ان الحياة قد أتت اليك . الانسان كائن اجتماعي ، يمتعه التواصل الشفيف ، وتستهوية المعية الفاعلة ، ففي اليوم الذي كنت أودع فيه سائقي عرفت ان لديه قريب له يستكمل الشفاء في أحدى المستشفيات ، فاصريت عليه أن نذهب سويا لزيارته ، ثم بعدها يوصلني الى المطار ، كنت أمارس انانيتي الانسانية في استنهاض رغبة التواصل الاجتماعي ذلك الذي يستهوينا ويضيف عمقا وعبقا لوجودنا وحياتنا ، وعند باب المستشفي اكتشفنا ان لا موعدا للزيارة ، ولكنني لم استسلم بل حاولت ان استلطف حارس الباب وابرز له تذكرة الطائرة وأفهمه أنني على عجلة للسفر وانني ... وانني ... واخيرا قال لي البواب وهو يفتح الباب : طيب خمسة على الماشى ، فماكان مني الا ان أمسكت يده شاكرا وانا اتقدم للدخول، ودخلنا ، ومعي السائق الذي ما ان تجاوزنا الباب حتى بدأ يتحدث معي قائلا : الراجل قال ليك خمسة على الماشي ، فقلت له : نعم سوف لن نستغرق أكثر من خمسة دقائق ، فضحك السائق على جهلي وقال لي : لا يا بيه هي خمسة جنيهات على الماشى وليست دقائق فضحكت أنا ، وانشرح قلبي لهذا الالتماس خفيف الظل ، ثم اسررت في قلبي شئيا عند الخروج ، ليس وفاءا للبواب فقط وانما لهذه المدينة التى تغني للنيل وتمنحنا الحياة بكثير من الفن والأدب . أسامة رقيعة من كتابي : خواطر وترحال [email protected]