وزير الخارجية المكلف يتسلم اوراق اعتماد سفير اوكرانيا لدى السودان    فيديو.. مشاهد ملتقطة "بطائرة درون" توضح آثار الدمار والخراب بمنطقة أم درمان القديمة    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تقارير: القوات المتمردة تتأهب لهجوم في السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    د. مزمل أبو القاسم يكتب: جنجويد جبناء.. خالي كلاش وكدمول!    محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    الخارجية الروسية: تدريبات الناتو في فنلندا عمل استفزازي    مصر تنفي وجود تفاهمات مع إسرائيل حول اجتياح رفح    السوداني في واشنطن.. خطوة للتنمية ومواجهة المخاطر!    "تيك توك": إما قطع العلاقات مع بكين أو الحظر    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    مدير شرطة شمال دارفور يتفقد مصابي وجرحى العمليات    منتخبنا يواصل تحضيراته بقوة..تحدي مثير بين اللاعبين واكرم يكسب الرهان    حدد يوم الثامن من مايو المقبل آخر موعد…الإتحاد السوداني لكرة القدم يخاطب الإتحادات المحلية وأندية الممتاز لتحديد المشاركة في البطولة المختلطة للفئات السنية    المدير الإداري للمنتخب الأولمبي في إفادات مهمة… عبد الله جحا: معسكر جدة يمضي بصورة طيبة    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



زمن عبد الله الطيب الثقافي
نشر في الراكوبة يوم 05 - 04 - 2015


كتب المقدمة
د. الصديق عمر الصديق
صمم الغلاف
حيدر خالد
الإهداء
إلى روح والدتي التي لبت نداء ربها مع نسمات الفجر، وإلى أرواح كل الراحلين من عترتها الطيبة، أبناء وأحفاد المرحوم عمر عوض السيد عبد الله سليمان.
الفهرس
رقم الصفحة الموضوع
الإهداء
الفهرس
حنين إلى زمن عبد الله الطيب الثقافي
تقديم د. الصديق عمر الصديق
الفصل الأول
جديد العادات المتغيرة في السودان النيلي
الفصل الثاني
أصل الثقافة السودانية الصدام الحضاري
الفصل الثالث
الإسلام دخل السودان قبل المدينة المنورة
الفصل الرابع
التهميش أفة ثقافتنا منذ القرن السادس
الفصل الخامس
الأرجح أن زوجة سيدنا موسى بجاوية
Abdulla Al-Tayeb's Cultural Domain
Nostalgia for Abdulla Al-Tayeb's Cultural Domain
تقديم د. الصديق عمر الصديق لكتاب (عبد الله الطيب وزمنه الثقافي)
محمد الشيخ حسين
[email protected]
قلت في مقال كتبته من قبل نشر في كتاب (عبد الله الطيب في مقالات ودراسات) ولئن رسم الخيال (الجمعي) في بلادنا لعبد الله الطيب صورة أعرابي في شملته، فقد كان يتحدث العامية الجزلة بلا تكلف. وقد آنست فيه إشفاقا على تهجين العامية أوضار المدنية الحديثة, فيتحدث عن أن أهل المدن مالوا إلى الحذلقة واللين حين قالوا: (مين) بدلاً من (منو)، وله من جنس الفكاهات في هذا الباب ذخائر، إذا روى طرفة منها ضحك ضحكا عميقا:
في راجل قال لولدو: ياولدي أولاد الزمن عندهم كليمات بالحيل مزعلاتني
رد الولد: إزاى يا أبوي
قال الوالد: طَلَّق دي واحدة منهن.
وقد آثرت أن أنقل هذه الصورة السودانية الطليقة عن العلامة عبد الله الطيب، لأن ما استقر في الأذهان من صورته موصول بمفارقة تصنعها شخصيته العلمية الملتمسة لعربية البطاح بين أضواء المدن ممن أكلوا شيراز الألبان، وجعلوا الثمر في الثِّبان كما قال أبو العلاء.
ومرد الصورة النمطية التي ذكرنا إلى أن ضوء تخصص العلامة في شدة بريقه ولمعانه قد حجب عن العيون آفاق الفكر السوداني، وموارد الحكمة القروية العميقة في كتبه وأحاديثه، واكتفى الناس في هذا بتناول القريب اليسير من تلك الآفاق في المظان التي أفردت للشعبيات السودانية كالأحاجي والعادات المتغيرة، ولم يحاولوا الإيغال أكثر من ذلك إلا قليلا.
ويجيء كتابُ الصّحافي الحاذق محمد الشيخ حسين إسهاما قويا في استخلاص فكر سوداني، وحكمةٍ شعبية نثرها العلامة أشتاتا في نزهات الاستطراد الممتع، وأغوار فضول السطور، ثم عمد من بعد إلى تحليلها تحليلا بارعا حتى زَهَت صحائفها.
والحق أن رِفد هذا الكتاب لا ينتهي عند موضوعه، ومحتواه المعلن في عنوانه، بل يتعداه إلى شأن الكتابة في أدب العلامة، وفكره لتخرج عن كونها درسا علميا يُجريه تلاميذه في باب من أبواب اللغة والأدب أو الفلكلور .... إلخ بإعمال المعايير والقواعد العلمية التى تمت إلى هذه المعارف، ليصبح الأمر بسطا فكريا ثقافيا يخرج العلامة من الحصر والتنميط إلى السَّعة والطلاقة، وتعدد الرؤى.
لقد صنع صديقنا محمد الشيخ صنيعا عظيما يجلّى به مرأى العلامة، ويسلط به أشعةً قوية على زوايا لا تكاد تبينُ للقارئ المتعجل، والدارس السطحي، فهنيئا لنا بهذا السفر القيم.
دكتور الصديق عمر الصديق
مدير معهد البروفسر عبد الله الطيب بجامعة الخرطوم
(أستاذ الأدب والنقد)
حنين إلى زمن عبد الله الطيب الثقافي
أكثر من عشرة أعوام مضت على رحيل العلامة البروفسير عبد الله الطيب، أمر الزمن ومحا الملامح، أم أن الحنين إلى زمن عبد الله الطيب الثقافي يسكن بين الضلوع، ويطل من فسحات العيون بحثا عن الثقافة السودانية الجامعة.
قد ينساب هذا الحنين في الخاطر مثل أنين ساقية في ليلة هانئة تسقي الحرث والنسل، أو زقزقة عصافير منتشية في طمأنينة الفضاءات المتجدّدة التي رافقت المسيرة، وسجّلت في الذاكرة ملامح المعاني والأبعاد لسفينة الإبداع والعطاء التي قادها العلامة الراحل.
ولا تبرز ثقافة الحنين هنا كمحاولة لحصر أمجاد وفتوحات العلامة الراحل بقدر ما تؤكد أن زمن عبد الله الطيب الثقافي، كان علامة فارقة في الزمن الثقافي السوداني، بل مثل بلغة المثقفين نقلة نوعية في المفهوم والرؤية.
واقع الحال أن الزمن الثقافي السوداني يرزح بين مطرقة أنواع الثقافة التي تبثها مؤسسات السلطة، وسندان الأنماط الثقافية التي تحد عوائق الأيديولوجيا من تأثيرها.
غير أن زمن عبد الله الطيب الثقافي يستمد مشروعيته من رؤية العلامة الثاقبة أن (المجتمع السوداني البسيط أعلم منا)، وأن (على المتعلم أن يشارك بما لديه من معرفة في نهضة هذا المجتمع بقدر الاستطاعة)، وأنه إذا أردنا أن (نجود معرفتنا أخرجناها للنقاش مع بقية الناس، وأن المثقف المترفع على وسائل الاتصال المتاحة، كاللوحة الجميلة عليك أن تصلها لترى جمالها).
والشواهد على هذا الزمن كثيرة، فمنذ وقت مبكر اهتم العلامة الراحل بلفت اهتمام طلاب وعلماء الاجتماع والانثروبولوجيا والتاريخ إلى ضرورة الاهتمام بتوثيق العادات السودانية قبل أن تزول تماما، وتضيع ألوان من أنماط الحياة وتطويها أساليب الحديثة وسلوكياتها.
ولا يخضع زمن الثقافة السودانية بنظر العلامة الراحل لمقاييس التوقيت الطبعي والسياسي والاجتماعي، بل له مقاييسه الخاصة، إذ هو زمن ثقافة مازال يتحرك أبطالها التاريخيون أمامنا على خشبة مسرحها، ويشدونا إليهم برباط وجداني وثيق، والشواهد عند العلامة الراحل على ذلك كثيرة جدا في محاضراته وكتبه: (من نافذة القطار)، (حقيبة الذكريات)، (في ذكرى صديقين)، و(العادات المتغيرة في السودان النهري النيلي).
على أن الأهم في زمن عبد الله الطيب الثقافي محاضرة قيمة بعنوان (أصول الثقافة السودانية) قدمت ضمن فعاليات مؤتمر الاستراتيجية القومية الشاملة الذي عقد بالخرطوم في عام 1991.
وفي هذه المحاضرة تجلت ريادة العلامة الراحل في تخليق العقلية السودانية، إذ كان حتى مرضه ووفاته لم يمل من بث شكوى فحواها (إن الأخذ بمظاهر الحضارة دون الغوص في جوهرها تكون مضاره أكثر من فوائده). وضرب مثلا بأن ( فرش إحدى الخلاوي بالموكيت قد أدى إلى حرمان الطلبة من سبورتهم الطبيعية وهي الرمل، حيث يتعلم الحيران الكتابة وتصويب أخطائهم في نفس الوقت).
يهتم زمن عبد الله الطيب الثقافي إجمالا بأصول الثقافة السودانية من جهة أنها موضوع شاسع الأطراف. ولا يسع المجال هنا للتعريف، لأن (الثقافة) تحتاج إلى تعريف، و(السودانية) تحتاج إلى تعريف، و(أصول الثقافة) أيضا تحتاج إلى تعريف. لكن يمكن القول إن لطائف الحياة السياسية أدخلت عبارة (المشروع الحضاري) في حياتنا منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي. وأيا كانت النظرة إليها فالأصل في الثقافة السودانية عند العلامة الراحل، هو (الصدام الحضاري) بين هذا الإقليم وأقاليم أخرى.
ودون الخوض في تفصيلات لا يتسع المجال لها، يقدم لنا العلامة الراحل مثلا من تاريخ موغل في القدم يتمثل في الصدام الذي كان بين مروي القديمة وبين قمبيز ملك الفرس. وقد حاول قمبيز أن يدخل هذه البلاد. ثم لما استعر الأمر ورأى أنه يكلفه حربا طويلة في بلاد قليلة المياه، ولا يعرف أخاديدها وطرقاتها ترك الأمر واكتفى بفتح مصر.
يرى العلامة الراحل المشهد الثقافي السوداني مشهدا مركبا بعنصر المكان ومقتضياته، وبعد الزمان وتأثيراته بالحركة وأسبابها وتداعياتها، وعلاقة المتحول بالثابت في قلب المشهد وعلى أطرافه. يرى أن هذه البلاد بدأ تهميشها من حوالي القرن السادس قبل الميلاد، قبل ذلك كانت مهمة، وبدأت تهمش ويهمش معها لون الناس، السواد يعتبر متأخرا، وأهله يعتبرون متأخرين، وهذه البلاد على حضارتها أخذوا ينكرون وجود حضارتها، وانتقلت هذه العدوى إلى المسلمين، فالصلة كانت قوية جدا بين هذه البلاد وبين الشاطئ الشرقي، والتبادل كان مستمرا واستمر حتى بعد الإسلام لمدة طويلة، لأن ابن بطوطة عندما جاء شاطئ البحر الأحمر وجد بني كاهل ووجد قبائل البجة متصاهرين مع أهل مكة، وبينهم صلات واشجة، مع هذا ذكر هذه البلاد قد اختفى مع أهميتها التاريخية. البرتغاليون هموا أن يفتتحوا شاطئ البحر الأحمر ليهاجموا منه مكة، رينودي شاتلون القائد الصليبي الكبير جهز أسطولا ليغزو به سواكن وليهاجم من سواكن مكة، ولم يتمكن وقد قتل في معركة حطين، قتله صلاح الدين الأيوبي بسيفه وكان من أشد الناس عداوة للمسلمين في تلك المنطقة. فهذا الإقليم ظل مهما، ومع ذلك ظل يهمش ولا يعطى منزلة مهمة.
عندما يصل زمن عبد الله الطيب الثقافي إلى مسألة عروبة السودان وإفريقيته، يعيد إلى أذهاننا أن المرحوم الرجل النابغة محمد أحمد محجوب رحمة الله عليه، كان يقول نظر شمالا إلى العرب ونظر جنوبا إلى إفريقيا في بعض حديثه. والسودانيون دائما عندهم عقدة، عقدة أهم إفريقيون أم هم عرب؟
العلامة الراحل بالنسبة لجيلي وأجيال سابقة وأخرى لاحقة سيظل البوصلة التي نهتدي بها حين يملأ حياتنا الضباب وتكثر الجهالات وتختلط الاتجاهات وتغيب الحقائق.
آن الأوان لكي نسترشد بكتابات العلامة الراحل بأفكاره ورؤاه وتحليلاته، عن وطن أريد له أن ينسى تاريخه ليفقد حاضره ويضيع مستقبله. وأريد له أن يغفل عن جغرافيته ليضل الطريق ويخطئ المسير وينأى عن القصد، وذلك هو زمن عبد الله الطيب الثقافي الذي نريده.
جديد العادات المتغيرة في السودان النيلي
تبدأ القصة بمأثرة طيبة أو مكرمة حميدة تزامنت مع الذكرى السنوية التاسعة لوفاة العلامة عبد الله الطيب. وموضوع هذه القصة واسع الأطراف فضفاض، وبدأ حين أضاف الدكتور الصديق عمر الصديق مدير معهد البروفسير عبد الله الطيبمكرمة جديدة إلى سجل مآثره في حياتنا الثقافية حين دفع لي بنسخة المراجعة من الترجمة العربية التي أعدها الأستاذ محمد عثمان مكي العجيل لكتاب (العادات المتغيرة في السودان النهري النيلي) للعلامة الراحل.ويحتوي الكتاب على أربع مقالات للعلامة عبد الله الطيب نشرت باللغة الإنجليزية في مجلة (السودان رسائل ومدونات) في الأعوام: 1955، 1956، 1964، و1998.
ريادة التخليق
حين فرغت من التهام المخطوطة شعرت أن الصديق الدكتور الصديق قد شرفني تشريفا كبيرا، حين قال لي أرجو أن تطالع هذه فربما عنت لك شيئا ما. وسأحاول أن أبذل بعض الجهد لعلي أصيب بعض الصواب، خاصة أن الوقوف عند باب العلامة الراحل عبدالله الطيب، يتطلب تجهزا خاصا، لأنه كان رجلا بقامة وطن، وعقلا بقامة أمة.
وحين عدت إلى أوراقي القديمة قبل نحو عشرين عاما وجدت محاضرة قيمة بعنوان (أصول الثقافة السودانية) قدمت ضمن فعاليات مؤتمر الاستراتيجية القومية الشاملة الذي عقد في العام 1991. وفي هذه المحاضرة تجلت ريادة العلامة عبد الله الطيب في تخليق العقلية السودانية، إذ كان حتى مرضه ووفاته لم يمل من بث شكوى فحواها (إن الأخذ بمظاهرالحضارة دون الغوص في جوهرها تكون مضاره أكثرمن فوائده). وضرب مثلا بأن (فرش إحدى الخلاوي بالموكيت قد أدى إلى حرمان الطلبة من سبورتهم الطبيعية وهي الرمل، حيث يتعلم الحيران الكتابة وتصويب أخطائهم في نفس الوقت).
وينقسم الكتاب الذي يضم 240 صفحة من القطع الصغير إلى جزئين: جزء أول يضم الترجمة العربية للمقالات في 110 صفحة. وجزء ثاني يضم أصل المقالات باللغة الإنجليزية.
وفي جميع صفحات الكتاب بجزئيه يؤكد العلامة الراحل رؤيته الثاقبة (أن المجتمع السوداني البسيط أعلم منا، وأن على المتعلم أن يشارك بما لديه من معرفة في نهضة هذا المجتمع بقدر الاستطاعة، وأنه إذا أردنا أن نجود معرفتنا أخرجناها للنقاش مع بقية الناس، وأن المثقف المترفع على وسائل الاتصال المتاحة، كاللوحة الجميلة عليك أن تصلها لترى جمالها).
يرصد الكتاب ملامح التغير السريع الذي تحولت بفضله الحياة السودانية من مجتمع العصر الوسيط، والذي تتعمق فيه التقاليد الراسخة إلى أمة أفريقية عربية حديثة متأثرة بالحضارة الغربية.
في توطئة الكتاب يلفت العلامة الراحل اهتمام طلاب وعلماء الاجتماع والانثروبولوجيا والتاريخ إلى ضرورة الاهتمام بتوثيق هذه العادات قبل أن تزول تماما وتضيع ألوان من أنماط الحياة وتطويها أساليب الحديثة وسلوكياتها.
أما مقدمة الدكتور الصديق عمر الصديق، فقد أرست مبدأً مهما في كفالة حق النص الأدبي لمدونه أو مترجمه، حين امتنع عن أي إضافة أو حذف للنص المترجم مؤكدا حق الترجمة، ثم يكشف بعد كلمات طيبات مستحقات في حق العلامة الراحل، عن عزم أكيد على طباعة الأعمال الكاملة للعلامة الراحل.
إجمالا تتناول المقالات الأربع أصول الثقافة السودانية من جهة أنها موضوع شاسع الأطراف، لأن الثقافة في ذات نفسها تحتاج إلى تعريف، ولأن السودانية تحتاج إلى تعريف، ولأن أصول الثقافة تحتاج إلى تعريف.
السودان النيلي
يحصر العلامة الراحل موضوع مقالاته في الجزء النيلي الذي يشار إليه كثيرا باسم شمال السودان، ورغم أن الأمر فيه ضيق، ولكنه، أساس وجوهر، لأنه عسى أن يكون السودان بالمعنى الواسع متفرعا من هذا المجال الذي يبدو ضيقا حسب تعبير العلامة الراحل.
وأصول الثقافة في هذا الجزء من السودان كثيرة جدا، وثمة اتفاق على صعوبة حصرها، وهنا يقر العلامة الراحل بأنه (لا يستطيع أن يعددها كلها، وإنما يحاول أن يرتب من ذلك بعض الترتيب الزمني).
ويرى العلامة الراحل أن الأصل النيلي يربطنا بحضارات النيل القديمة، التي نشاهدها حتى اليوم في حياتنا اليومية مثل الاحتفال بالأربعين في حالات: خروج المرأة من النفاس، في الأعراس، في الختان، في الوفيات. وهذا مرده إلى عصور قديمة، وإلى أصول نيلية قديمة، تسمى أحيانا أصولا فرعونية، وقد تكون أقدم من الفراعنة.
عادات قديمة
بقيت من الأصل النيلي عبادة (إيزيس) في بعض الطقوس التي تتصل بالنفاس وبالعرس وبزيارة النيل، وبالغناء للبحر الجاري وبنات الحواري وأصول تتصل بعبادة الخصوبة القديمة.
ومن العادات القديمة النيلية عبادة الأنهار الذي ذكره (فريزر) في كتابه (الغصن الذهبي) وربما التضحية بالبشر من أجل الحصاد. وكان الأمر في مصر القديمة قد يصل إلى تضحية سنابل القمح. ليكونوا ضحية للقمح. ثم أنه بعد ذلك استبدل بحلق الشعر، فصار الشعر ينوب عن ذبح ضحية بشرية. وصار هذا الشعر رمزا للتضحية. وهكذا يصل بنا العلامة الراحل إلى أن حلق الشعر في السودان من ضمن العرف القديم. وكان كثير من الناس في شمال السودان (ولاية نهر النيل) يحلقون شعورهم عند (أبشر أبو بشرية) في شمال بربر. والبعض يحلقون عند (عبد المقيت) في ناحية الدامر. وتنتشر عادة حلق الشعر في أنحاء كثيرة من السودان وأصلها نيلي قديم. ويتوقف العلامة الراحل عند أمر الختان، لأن الختان يرده كثير من الناس إلى أصل يهودي. ويوشك اليهود أن يقولوا إنهم وحدهم في الدنيا هم الذين يختتنون، ولكنهم يعلمون أن غيرهم يختتن. والراجح في الأمر أن إبراهيم عليه السلام، أخذ الختانة من أرض النيل، لأن المذكور أنه اختتن وهو كبير جدا في السن. فينبغي أن يكون أخذ هذا من أرض النيل، وانتشر الختان من أرض النيل إلى أرض الحجاز. وافتخر العرب الحجازيون، بأنهم يختتنون، على غيرهم ممن لم يكن يختتن، في الرجال وفي النساء.وبعض العرب يقولون: (إن ثقيف غرل، أي لايختتنون فارتاعوا من ذلك وكشف قتلى من ثقيف، فعلم الناس أن ثقيف ليسوا بغرل). ويبين هذا أن عادة الختان انتشرت من وادي النيل إلى الحجاز.
ويلفت العلامة الراحل الانتباه إلى الأشياء التي تميزت بها هذه الحضارة النيلية القديمة أنها كانت حضارة مستقرة لاعتمادها على الزراعة وما يتصل بها من مواعيد ومواقيت. وكذلك نجد في الآثار القديمة معابد فيها تشير إلى منازل القمر المختلفة، مما يدل على أنهم حذقوا أمر درس النجوم منذ أقدم العصور.
التصنيع الحربي
هناك جانب آخر ارتبط بحياة الناس في ذلك الزمان وأتقنوه، وهو جانب التصنيع الحربي، بنجاحهم في صناعة عدة أنواع من الأسلحة، استخدموا أنواعا منها في حفلات الأعراس والختان. والسلاح الذي يذكر هنا هو القوس (النشاب).
وليس صحيحا ما يتردد من أن النشاب غير معروف في أرض النيل. ويستدل العلامة الراحل بخبر المك نمر لما خرج من شندي في طريقه إلى الحبشة قالوا تهيب جدا من لقاء قبيلة التكارين في ناحية القضارف، لأنهم كانوا أهل نشاب. ويبين هذا الخبر أيضا أن أهل شرق البحر الأحمر أهل سيوف وحجارة، ولا يعرفون النشاب. كذلك أهل دنقلا، أهل زراعة وأهل سيوف وحراب ولا يعرفون النشاب. ولكن الأخبار التي في التاريخ أن سلاح النشاب كان من أهم الأسلحة التي دافع بها قدماء أهل هذه البلاد عن أنفسهم.
من الأسلحة المهمة التي عرفت في العهد النيلي القديم الخيل. والقول الرائج أن الخيل جاء بها الهكسوس إلى مصر ووجدت طريقها إلى هذه البلاد. ولكن هذا القول غير محقق والمحقق أن ملوك هذه البلاد في القرن السابع الميلادي أو الثامن الميلادي كان يهتمون بالخيل وإطعامها ويعتنون بها غاية العناية. وكان ملوك بابل وأشور يهتمون بالخيل التي جلبت إليهم من بلاد كوش، وأنها من أجود الخيل، ويحتفلون بها ويخرجون بها في الزينة وما أشبه ذلك.
ولا ينتهي الكلام عن العلامة الراحل دون أن يتطرق للأصول المهمة التي صممتها حضارتنا القديمة وصارت من الفروع الأصلية للحضارات الأوروبية الحديثة، ولاسيما قيم الحياة الاجتماعية والمدنية.
اللغة والتعليم
على أن الأهم في ذلك كان طريق اللغة والتعليم، وهذا الذي يسمى الآن التحديث. ولا يخفى أن الحضارة الأوروبية العصرية غزت كل العالم من طريق اللغة. فنابليون عندما جاء إلىمصرجاء معه مستشرقون يعرفون اللغة العربية، ولكن لم يكن غرضه تعليم اللغة العربية، كان غرضه تعليم اللغة الفرنسية والحضارة الفرنسية، ونجح الى حد كبير في ذلك ثم جاءت بعد ذلك الدورة الإنجيلزية، ونشأت المدارس العصرية، والمدارس العصرية هذه صيغ أوروبية جديدة. الباحث والدارس لشؤون التعليم يستطيع بعد البحث والنظر والتدقيق أن يرد أصول المدارس الأوروبية إلى أصول إسلامية، لأن أوروبا كانت تغط في الجهل.
أما المدارس التي نشأت في أوروبا في أوائل العصور الحديثة، فقد تأثرت بالجو الأوروبي مثل استحداث الكراسي في المدارس، لأن الجلوس على الأرض الباردة تنشأ منه أمراض كثيرة وقد لا يحتمله الإنسان، فلذلك كانت غرف الدراسة تزود بكراسي. وعندما أدخلت الكراسي كان الصغار يربطون على الكراسي كما يربط عبيد السفن، فالسفن كان يربط فيها الرقيق على كراسي وتوضع المجاديف في أيديهم ويجبرون على العمل، كذلك الأطفال في بعض المدارس كانوا يربطون على الكراسي لكي يدرسوا مكرهين، ثم لما تبين للأطفال أن هذا الأمر في صالحهم وهم طبقة عليا مثلا تركت هذه الربطات وأصبحوا يجلسون بلا ربطات.
ثم جيء بالكراسي إلى بلدنا وانتقل الناس من الجلوس على البروش إلى الجلوس على الكراسي. وكان هذا الأمر في أوله شيئا ميسورا لينا حلوا، ولكن بعد قليل صارت كلفته باهظة وصارت مناظر الكراسي في بعض المدارس نفسها في غاية القبح، واحتجنا إلى نظام غير نظام الفصول.
المهم في الأمر أن التعليم الذي جاءنا من أوروبا مع أن أصوله أخذت من الإسلام ومن مدارس الإسلام اكتسى صيغة الرومانية، وأصبحنا (رومانيين)، على الرغم من أن المثل السوداني يقول (التركي ولا المتورك) ولذلك نحن لم نحسن أخذه، أصبح لازما علينا أن نصلح هذا.
أصل الشلوخ
الشلوخ في السودان قديمة، والذي يذهب إلى المصورات والآثار القديمة، يجد آثارا لهذه الشلوخ. وقد كان يخيل إلى بعض الناس أن هذه الشلوخ قبلية، فالدناقلة مثلا لهم شلوخ طويلة جد، وأن الشايقية لهم شلوخ معترضة، وأن العبدلاب لهم شلوخ تماثل الحرف H، وأن الجعليين لهم شلوخ متوسطة، وأن أهل الشرق لهم شلوخ صغيرة، هذه الشلوخ نسبها الناس إلى القبائل، ولكن الأمر يحتاج إلى درس أكثر، لأن هذه الشلوخ قديمة جدا، ولها صلة بالطلاسم والأسحار والحجب.
ومن ينظر في كتاب شمس المعارف للبوني ربما وجد كل الشلوخ هناك، ومن أتيح له أن يكتب حجابا عند أحد المشايخ فلينتهز الفرصة ولينظر في الحجاب فلعله يجد فيه شلخا أو شلخين، وهذه الشلوخ ترسم على الوجوه أحيانا لتكون حجابا.
ويقول العلامة الراحل (خبرني أحد الفقهاء الأفاضل أن كافي فيها مائة وإحدى عشرة وهي تساوي الشلوخ الثلاث وهذا من بعض التأويلات ليس إلا).
ويضيف: بهذه المناسبة أن كلمة شلك قريبة من كلمة شلخ، ولذلك زعم أركل أن سلطنة الفونج لها أصول برناوية أو أصول شلكية واستكبر أن ينسب لها أصولا أموية مع أنه أقرب إلى أن ينسبها إلى أصول أموية، لأننا نعلم أن مروان بن محمد قتل في جنوب مصر، وأن اثنين من أبناء مروان جاءا إلى دنقلا ومعهما غيرهما من الأمويين، وطردهم ملك دنقلا خوفا من العباسيين، فقيل إن بعضهم ذهب إلى الحجاز، وهذا كسل من المؤرخين، لأنهم لا يمكن أن يعودوا كلهم إلى الحجاز وفي ذلك الزمان كان الأقوى يقتل، فقد يكون بعضهم قد نجا، لكن أغلب الظن أن كثيرا منهم تسربوا إلى المناطق التي خرجوا منها أخيرا وأظهروا نسبتهم أنهم من بني أمية، لهذا يصح كثيرا نسب الفونج إلى بني أمية، وأنكر المنكرون نسبهم بحجة أن السودان لا يمكن أن يكون عربيا فهذا غير صحيح.
وبهذه المناسبة يستطرد العلامة الراحل: أن الفضل بن العباس بن أبي لهب من بني هاشم وعربي طهر كان يجلب دلو فوق بئر من الآبار وينشد:
فأنا الأخضر من يعرفني أخضر الجلدة من لون العرب
من يساجلني يساجل ماجدا يملأ الدلو إلى عقد الكرب.
فسمعه الفرزدق والفرزدق كان من سادة بني تميم فشمر ليساجله ثم قبل أن يساجله قال له من أنت، فقال: له أنا فلان بن فلان بن فلان قال له لن أستطيع أن أساجلك وسلم. والمعروف أن اللون الأخضر كان كثيرا في العرب وكان من ضمن ألوانهم، حتى إن حسان وصف قبيلة كاملة من قريش بخضرة الألوان قال:
لو كنت من هاشم أو من بني أسد أو من بني جمح الخضر الجلاعيد.
ولام ابن الرومي العباسيين الملوك لما قتل يحيى العلوي، لأنهم بيض الألوان لكثرة تزوجهم من الروم.
أصل الثقافة السودانية الصدام الحضاري
إذا لم يتكلم العلامة عبد الله الطيب الآن فمن يتكلم إذن؟
العلامة بالنسبة لجيلي وأجيال سابقة وأخرى لاحقة سيظل البوصلة التي نهتدي بها حين يملأ حياتنا الضباب وتكثر الجهالات وتختلط الاتجاهات وتغيب الحقائق.
آن الأوان لكي نسترشد بكتابات العلامة بأفكاره ورؤاه وتحليلاته، عن وطن أريد له أن ينسى تاريخه ليفقد حاضره ويضيع مستقبله. وأريد له أن يغفل عن جغرافيته ليضل الطريق ويخطئ المسير وينأى عن القصد.
الصدام الحضاري
مثلنا ينظر العلامة لكنه يرى ما لا نراه، فالأصل الثاني في الثقافة السودانية، هو الصدام الحضاري بين هذا الأقليم وأقاليم أخرى.
ولم يشأ العلامة الراحل أن يخوض في تفصيلات لا يتسع المجال لها، لكنه يذكر الصدام الذي كان بين مروي القديمة وبين قمبيز ملك الفرس. وقد حاول قمبيز أن يدخل هذه البلاد. ثم لما استعر الأمر ورأى أنه يكلفه حربا طويلة في بلاد قليلة المياه، ولايعرف أخاديدها وطرقاتها ترك الأمر واكتفى بفتح مصر.
وينسب إلى الفترة التي هاجم فيها قمبيز، أو حاول أن يهاجم هذه البلاد، ينسب إليها، أنه هاجر بعض أهل السودان إلى غرب إفريقيا. وبعض الذين كتبوا في هذا المجال في عهد قريب في مجلة (سودان اس) ذكروا أن هؤلاء سافروا في سنة 621، وأخطأ الطابع فكتبها ميلادية ولكن هي قبل الميلاد.
وذكر أنهم هربوا من قمبيز وهذا غير صحيح. لأن حرب قمبيز مع بلادنا كانت 525 قبل الميلاد أو في تلك الحدود. وهذا قبل ذلك الموعد بمائة عام. والراجح عند العلامة أن هذا جاء نتيجة لانهزام الأسرة الخامسة والعشرين، وهي أسرة كوشية، أمام ملوك أشور في منطقة فلسطين وسوريا. وأدت الهزيمة إلى التراجع، فبعض المتراجعين تراجعوا إلى غرب إفريقيا. ويقال لهم قبيلة كسرى، أو كاسرى. وهذا الذي أوهم بعض الناس أنها جاءت بعد حرب قمبيز، وهم فرس، وملك الفرس يسمى كسرى كما لا يخفى عليكم.
وأهمية هذه الظاهرة أنها تردنا إلى أن الرابطة بين هذا البلد وبين نواحي غرب إفريقيا قديمة للغاية. وهناك في نيجيريا من يزعمون أن أصولهم جاءت من الشرق، يعنون شرق بلادهم، فيما بين يربا إلى مكة. فإن صح هذا من كلامهم فلعل هذا الخبر الذي يذكر رحلة بعض المرويين القدماء إلى غرب إفريقيا فرارا من بعض الانهزام في الحروب، لعل هذا أن يكون له أصل والله تعالى أعلم.
الفرس والروم
من أهم حركات الصدام الحضاري في هذه البلاد، حركة الروم، فالروم أقوى الأمم القديمة على الإطلاق. أقواها عسكريا، وأقواها في التنظيم، وأقواها في السياسة، وأقواها في ضروب العمل، لأنهم كانوا هم الذين صنعوا الطرقات، وبعض طرقاتهم موجودة إلى اليوم وتسير عليها المركبات. هؤلاء الروم غزوا الأرض حولهم ولم يستطع أن يردهم إلا الفرس، وإلا أهل هذه البلاد.
أما الفرس فانتصروا على الروم باستعمال السهام. والفرس هم أول من طوروا سلاح الرمي، لأنهم أعدوا جنودا وكتائب رامية. والذخيرة تأتيهم بواسطة الإبل، ويهاجمون بالخيل. فإذا فرغت عيابهم رجعوا إلى الإبل وملؤوا العياب مرة أخرى وعادوا يرمون. وبهذه الطريقة هزموا (كراسس) القائد الروماني الذي كان زميلا أو ثالث ليوليوس قيصر وقمبيز في النصف الثاني من المائة الأولى قبل الميلاد.
وبهذه المناسبة نذكر أن القائد الذي هزم الروم كان عمره عشرين سنة واسمه (سوريناس) وكانت جائزته أن الملك كسرى حسده وأرسل إليه من سمه مكافأة له على انتصاره على الروم.
وأراد الروم غزو هذه البلاد في سنة 42 قبل الميلاد، واستدرجهم أهل هذه البلاد إلى صحراء ووجدوا فيها عسرا. ومن الغريب في أخبارهم وهذا ظهر في بعض ما كتبه بروفيسور شيني عن هذه المنطقة، أنهم ذكروا أن عربا لاقوهم وقتلوهم في هذه الصحراء.وليست هذه أول مرة يذكر فيها العرب في هذه البلاد، فقد ذكر هيرودتس أن عربا جاؤوا من البلد الواقع جنوبي مصر وحاربوا مع الملك دارا الأول في حربه مع اليونان. وهذا خبر قديم.والأخبار التي ورد فيها ذكر العرب سوى ذلك كثيرة.وبعض الناس يقولون العرب ههنا معناها البدو.
أما كلمة عرب في الزمان القديم فكانت تطلق على هذا الجنس الذي يقال لهم العرب. فوجود هذا في خبر الروم يدل على وجود هذا العنصر من زمان قديم في هذه البلاد.
الصدام الديني
يتوقف العلامة قليلا عند أهم العناصر الصادمة التي اختلطت بحضارات الناس وأثرت فيها، ويحصرها في عنصر الصدام الحضاري الديني، بالتحديد في الديانتين اليهودية والمسيحية.
أما الخبر عن الديانة اليهودية وعن وصولها لهذه البلاد فغير كثير، ولكن توجد أشياء تدل على أنه كان هناك اتصال بين الديانة اليهودية وبين هذه البلاد. أنها تسربت الى هذه البلاد مع ما تسرب من الأديان.
ويرجح العلامة أن الدين قديم في هذه البلاد، فالذين كانوا على دين اليهودية، جاؤوا إلى هذه البلاد، لأنهم وجدوا فيها تدينا أو رغبة في الدين من قبل الناس. وفي كثير من الآثار القديمة، نجد أماكن عبادة وأماكن وضوء وأماكن تضحية. وهذا جميعه ينبئ عن تعلق بالدين قديم.
على أن أهم الأخبار المتصلة ببني إسرائيل أو باليهود أو قبل بني إسرائيل في هذا الصدد أمر زواج سيدنا موسى عليه السلام بامرأة من كوش. وهذا موجود في العهد القديم، فمن هو كاهن مدين هذا، وأين كانت مدين هذه؟
المصريون يعتقدون أن مدين كانت إزاء الأقصر في بلدهم، فإن صح هذا فيكون الذي في مدين وتزوج ابنته موسى من قومنا البشاريين. ولكن هذا تخمين لا يريد العلامة أن نشتط أو نفيض فيه.
الخبر المهم في الأمر أن الذي في التوراة أن موسى تزوج امرأة كوشية. هذا في سفر العدد. وفي سفر الخروج أنه تزوج ابنة كاهن مدين. فيما بين السفرين لا يذكر أن له زوجتين، فهذا يجعلك تستنتج أن هي زوجة واحدة وسيدنا موسى لقى بعض المضايقة من بعض اليهود في زوجته الكوشية وهذا مذكور في سفر العدد، من ذلك أن مريم أخت هارون عابت عليه زوجته الكوشية ودعا عليها فأصابها الجذام ثم توسلت فدعا لها فبرأت وهذا الخبر كما قلت لكم موجود في سفر العدد.
الديانة الأخرى المسيحية، أو ينبغي أن نقول النصرانية، لأن المسيحية عبارة حديثة. العبارة القديمة النصرانية وهي المذكورة في القرآن الكريم. النصرانية في هذا البلد لم يؤرخ لها تاريخ دقيق. قرأت بعض الكتب لبعض المعاصرين في هذا الباب وجدت أحدهم يتحدث عن إرسال رسل مبشرين إلى بلدنا ليدخلوا الناس في المسيحية على طريقة المبشرين العصرية، وهذا النوع من الكتابة مضلل للغاية، لأنه يشعرك أن الذين أرسلوا رسلا ليعلموا الناس ههنا كانوا مستعمرين متمدنين راقين. وكان أهل هذه البلاد ضعافا مساكين ينتظرون أن يبشروا على النحو المعروف الآن والأمر على خلاف ذلك.
هذه البلاد دخلتها المسيحية قبل أن تدخل أوروبا التي ترسل المبشرين. والرسل الذين أرسلهم جوستنيان وزوجته ثيودورا في القرن السادس الميلادي لم يرسلوا ليبشروا بالمسيحية ولكن أرسلوا ليؤيدوا طائفة من المسيحية على طائفة أخرى. فيبقى السؤال متى دخلت المسيحية هنا؟ بعض المؤرخين يريدون أن ينسبوا دخول المسيحية إلى فترة متأخرة في القرن السادس، ولكن الأدلة كثيرة على أن المسيحية دخلت قبل ذلك بكثير، بل في الأنجيل نفسه الدلالة الكافية على أن صلة المسيحية بهذه البلاد قديمة جدا، لأن أحد الذين شهدوا ميلاد المسيح كان من السودان. فهذا يشير الى قدم الأمر.
من الأخبار التي وردت في هذا الشأن وجود صلة عرقية بين أهل سوبا وبين أهل نوبادس، أي النوبة السفلى في منطقة وادي حلفا وما حولها. وهذه الدعوى قائمة إلى الآن، فالمحس الذين في شمبات وتوتي وسوبا يدعون أن لهم صلة بالمحس الذين في جهة وادي حلفا. وفي رسالة كتبت في سنة 521 نفس الدعوى قائمة. وهذه أمور خارجة عن نطاق هذه المحاضرة. ولكن الإشارة إليها لا بأس بها.
أما المسيحية التي ازدهرت في علوة والمقرة فكانت من نوع مختلف عن المسيحية حولها في مصر وفي الحبشة. ويعزى إلى هذا تدهور المسيحية في الإقليم الأوسط، لأن المسيحية التي كانت في الحبشة وفي مصر كانت يعقوبية قبطية، وهذه التي كانت في الوسط كانت أقوى صلة بالملكانية التي كانت في ناحية القسطنطينية. ولا ندري على وجه التحقيق تفاصيل الأمر. الذي ندريه أنه كانت ثمة مسيحية في هذا الإقليم، وتوجد آثار تدل على أنه سبقتها يهودية في هذا الإقليم. وهنا يأتي أمر الفلاشا. الفلاشا من هم؟ ومن أي البلاد خرجوا أول الأمر. هل من الحبشة أو من بلدنا هذا أو من بلد آخر.
في ناحية بلدنا في غرب الدامر يوجد مكان فيه خاتم النبي سليمان على الأرض الناس يزعمون أن النبي (صلى الله عليه وسلم) في مسيره إلى المعراج مر بهذا المكان وهذا أثر حافر حصانه. والنساء زغردن والملائكة لا ترضى زغاريد النساء فخرج الحصان تاركا أثره في ذلك المكان. ولا يخفى أنه أسطوري وخرافي ليس من أصل محقق.
مسألة المسيحية في هذا البلد من أين جاءت هل جاءت من نجران؟ الخبر الذي في السيرة أن المسيحية وصلت نجران من طريق الشام من طريق فيميون الراهب إلى عبد الله بن السامر ثم انتشرت في إقليم نجران. هل عبرت من هناك الى هنا؟ أو كانت المسيحية هنا وعبرت إلى هناك، أو حدث بينها تجاوب واتصال؟ الذي لا ريب فيه أن الأمر أدى آخر الأمر إلى اصطدام بين الحبشة وبين اليمن. والحبشة ههنا تدخل لنا لفظا جديدا بمدلول يحتاج إلى نظر وإلى تدقيق. فالهمداني في كتابه ذكر الحبشة الوسطى وأضرب عن الحبشة القصوى والحبشة الدنيا. أما الحبشة الوسطى فيما ذكر الهمداني في صفة جزيرة العرب تمتد من بر عيزاب إلى باضع. وهذا يعني بالتحديد المنطقة الواقعة بين حلايب وشمال مصوع، أو بالاختصار يعني شاطئ هذه البلاد. وهذه تكون الحبشة الوسطى، الحبشة الدنيا بلا ريب هي جيبوتي وارتريا وأكسيوم، فأين الحبشة القصوى؟
في القاموس المحيط للفيروزابادي في الجزء الأول في باب الباء فصل النون (نوبة بلاد واسعة تقع جنوب مصر منها بلال الحبشي وفي الحاشية قصبتها دنقلا). ويمكن بعد ذلك أن نفكر في الأمر والأدلة قوية وكثيرة على أن لفظ الحبشة كان مرادفا للفظ السودان في الناحية النيلية المتاخمة للبحر، والتي تقع جنوبي مصر، لأن السودان بالمعنى الواسع يمتد من الشاطئ المقابل لجزيرة العرب، إلى أن تصل إلى البحر المحيط من الجهة الأخرى.
وفي كتاب الجاحظ فضل السودان على البيضان يدخل في السودان أصناف السودان خارج إفريقيا مثل الهنود الذين في هضبة الدكن. وجماعة من الجاويين. وكثير من سكان ماوراء البحر في المحيط الهادي مثل بورنيو وهلم جرا. فلفظ السودان عام وحصر في الأيام الأخيرة حصرا في سودان إفريقيا. وسوداننا كان يطلق على جزء منه النوبة، ويطلق على جزء منه البجا، ولكن على عمومه كان يطلق اسم الحبشة الذي عرب في الإفرنجية إلى أبيسينيا. و(أبيسينيا: الألف محولة من الحاء والسين محولة من الشين والأصل كلمة حبشي وحبشي وتحبش في القاموس العربي تدل على التجمع وليس معناها بعيد من التحبس). فهذه الصدمة الحضارية الثانية التي ذكرناها.
الإسلام دخل السودان قبل المدينة المنورة
كيف نرى المشهد الوطني الآن؟
النظرية الرائجة أن السودان الآن أمام لحظة حقيقية تجمعت فيها مشاكل وقضايا وعقد كثيرة داخلية وخارجية متشابكة مع بعضها، وبعضها سابق، وبعضها لاحق، وبعضها مستحق. وقد أصبح المتراكم منها كتلة حرجة ليست منافذ سهلة أو قريبة المنال. لكن العلامة الراحل عبد الله الطيب يقطع هذا الجواب المتشائم، بحديث عن الصدمة الثالثة الحضارية التي كانت عميقة الأثر في هذه البلاد إلى يومنا هذا.
كان الاتصال بالإسلام هو الصدمة الحضارية الثالثة، ولا يتفق العلامة مع الذي راج في كتب التاريخ أن الإسلام جاءنا في القرن السابع الهجري على وجه التحديد في سنة 630. وبعد ذلك يتحدث الناس عن الرجال الأكابر الخيرة الذين جاؤوا بالشريعة وبعلوم التصوف وبعلوم الدين المختلفة، مثل أولاد جابر، وغلام الله الركابي، ومثل تاج الدين البهاري، ومثل الذين جاؤوا من جهة اليمن ومن مصر في الأيام الأخيرة، وهلمجرا، وهذا باب واسع. لكن الذي عند العلامة أن الإسلام دخل في بلادنا قبل أن يدخل في المدينة المنورة. وذلك أن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خبرنا بوضوح أنهم خرجوا من الشعيبة إلى الشاطئ المقابل. والشعيبة نحو 40 كيلو متر جنوبي جدة، أي الناظر في الأمر جغرافيا يجد أنها تقع شمال سواكن. فأن يبحر الصحابة من هناك ليخرجوا في باب المندب بعيد. هذا خبر المجيء. بل خبرونا أنهم في المجيء دفعوا نصف دينار أجرة للمركب. وفي الرجوع عند العلامة خبر مزدوج وهو أن أبا موسى الأشعري مع الأشعريين خافوا من قريش فعمدوا إلى أن يركبوا البحر ليتفادوا قريش. وفي محاولاتهم هذه عصفت بهم الرياح فألقتهم في الشاطئ الآخر. عند الشاطئ الآخر لقوا جعفر بن أبي طالب رضى الله عنه مع أصحابه آيبين من هجرة الحبشة ليلحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم. والذي خبرونا إياه أن أبا موسى وأصحابه خرجوا من منطقة عك والأشعريين، وهذه المنطقة تقع ناحية عسير أو شماليها عبروا البحر، لا يخبروننا أين لقوا جعفرا وأصحابه، ولكن الذي يخبروننا إياه، أنهم عبروا مرة أخرى إلى شاطئ الجزيرة العربية ونزلوا في الجار. والجار هو شاطئ المدينة من الناحية التي تقع شمالي رابغ بكثير إلى ينبع. فإذا كانت الرحلة في الذهاب والإياب منحصرة بين الشعيبة وبين الجار فينبغي أنهم ذهبوا إلى الشاطئ المقابل. هذا لا ريب فيه، بعد ذلك يخبرنا ابن إسحاق وابن هشام نقلا عنه والسيدة أم سلمة في الحديث الشريف، (إن نجاشيين اقتتلا وكان بينهما عرض النيل)، وهنا نرجع إلى كلمة النيل هذه من أين جاءت، فالمصريون القدماء يسمون النيل حابي وحابي بعيدة من كلمة النيل. وسمعت من بعض الإخوان أن النيل كلمة هندية ترجع إلى النيلة التي كانت تصبغ بها أثواب الزراق ولكن هذا يجوز. وأحسب أن هذا مرده إلى كلمة النيلنج أو شيء من هذا القبيل، وبعض الذين كتبوا في هذا الموضوع ردوا كلمة لايلاك: الزهور الزرق في الألوان ردوها إلى أصل النيل، ولكن الأمر عندي أقرب من ذلك، العربية فيها كلمة نهر، وفي نهر والراء واللام أختان، الراء تصير لاما واللام تصير راءا، والنون أحيانا تدخل معهما في هذه القصة. لكن الراء كثيرا ما تصير لاما واللام تصير راء. وعندك كلمة قريب منها في العربية وهي نهل أي الشراب والفعل نهل، والقاعدة العربية عندما يكون حرف الحلق في الوسط ومكسورا يمكن أن تكسر الحرفين، تقول شد علي وشهد علي. وفي السودان نقول هد وهي صحيحة. ونل يمكن أن تصير نهل وإذا صارت نهل نيل. ولذلك تجد كلمة نيل في كثير من الألفاظ العامية بمعني نهر جاري. وأهل كردفان يستعملون كلمة النيل لضروب من الخيران لا تنتظر يومين يسمون هذا نيلا، فلما وجدت خبر النيل في قصة السيدة أم سلمة رضي الله عنها ظننت أنهم أرادوا خورا من الخيران، ولكن الصفة تدل على نهر النيل، لأنهم احتاجوا إلى أن يعبره الزبيربن العوام ونفخوا له قربة وعام فيه. وهذه قصة تطول. الذي أعتقده وأميل إليه أن الهجرة الأولى حدثت إلى هذه البلاد. في معاهدة البقط أن المسلمين طلبوا من ملك دنقلا أن يرعى مسجد المسلمين، الرجل الراهب نسيت اسمه، الذي كتب في تاريخ دنقلا القديمة أنكر أن يكون ثم مسجد، لأنه لايوجد أثر له وليس في هذا حجة، لأن دنقلا لا ينطبق على مكان بعينه كان فيه الملك وإنما على المنطقة. ولا يستبعد أن المسلمين بنوا مسجدهم في مكان آخر غير الذي فيه الملك، ولكنه في حيز سلطان الملك. ولذلك طلب عبد الله ابن أبي السرح رضي الله عنه من ملك دنقلا أن يحافظ على مسجد المسلمين.ومسجد المسلمين هذا لا يمكن أن يكون بناه المسلمون المهاجمون. ينبغي أن يكون بناه مسلمون مقيمون، وفي السيرة أنه جاء مع جعفر رضى الله عنه وفد من مسلمي الحبشة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم خدمهم بنفسه. ذكر هذا الشيخ عبد الحي الكتاني في كتابه التراتيب الإدارية نقلا عن مصادره. فماذا حدث لهؤلاء الذين أكرموا بخدمة النبي صلى الله علية وسلم لهم وعادوا؟ لعل الإجابة أنهم أقاموا وأدخلوا الإسلام في تلك البلاد. المهم في الأمر أن هذا الأمر لا يقف على الفرد، في الواقع عندنا أخبار أن سيدنا أبا بكر نفى جماعة من الذين حاربوه تأديبا لهم إلى شاطئ عيذاب. أبو محجن الثقفي أرسل إلى شاطئ عيذاب. لما سقطت مصر عند معاوية، أرسل علي من يضمن له الشاطئ أو على الأقل يحرسه، فالشاطئ الآخر كان على اتصال مستمر بالجزيرة العربية في الصدر الأول الإسلامي، ومن الأخبار المعروفه أن عمر بن أبي ربيعة هلك في طريقه في جزيرة دهلك وهي في ناحية مصوع.
ودخول الإسلام إلى هذه البلاد قديم، وسيدنا عثمان بن عفان كان من أهل الهجرة الأولى وكانت معه ابنة النبي صلى الله عليه وسلم السيدة رقية، ومن العجيب في الأمر أنك في السودان تجد اسم رقية كثيرا ولا يقولون رية إنما يقولون رقية من لاحظ هذا يجد أنهم ينطقون القاف بنفس الطريقة التي يقرأ بها قراء القرآن القاف القرآنية. وما خصصوا هذا الاسم بهذا النطق، إلا احتفاظا بعنصر البركة القديم الذي فيه. فلاحظوا هذا ستجدون في أكثر بلاد السودان أنهم يشيرون إلى التي اسمها رقيه ولا يقلقلون القاف كما نقول في رقية وإن كان قد يقال ذلك أحيانا. واسم عثمان كثير جد في السودان. ولا يتوهمن إنسان أن مصدر اسم عثمان من الطريقة الختمية. الاسم أقدم من ذلك. نعم الصلة بالطريقة الختمية قد تكون زادته لكنه كثير جدا ومصدره عثمان بن عفان. وسيدنا عثمان بن عفان ليس اتفاقا أنه وقف الحرب التي كانت في الشمال. هذه البلاد أكرمت الصحابة وأجارتهم، فذكروا لها ذلك. وأثر أنهم نهوا المسلمين الأولين أن يقع منهم اعتداء على هذه الجهات. وذلك أعان على نشر الإسلام في بلاد السودان كما لم ينتشر في أي بلاد أخرى، لأن المسلمين لم يوجفوا على بلاد السودان بخيل ولا ركاب. وإنما تغلغل الإسلام فيها من طريق الكلمة المباركة والدعوة الحسنة. وعلى الرغم مما أضافه الفقهاء أنه يكره السفر إلى بلاد الكفر وإلى بلاد السودان، على الرغم من ذلك انتشر الإسلام في بلاد السودان، وكان فيها العلماء.
دخول الإسلام في بلدنا أدخل معه علوم الإسلام. والمذهب الذي غلب في بلدنا مذهب أهل المدينة، المذهب المالكي، والقراءة التي غلبت على بلدنا رواية الدوري عن أبي عمرو إلا في الناحية الشمالية من السودان انتشرت قراءة ورش فيما عدا جزيرة لبب، فإنه كان يقرأ فيها بأبي عمرو.
ومن الغرائب في هذا الباب أن المهدي وهو من لبب حمل الناس على ترك الإمالة بحجة أن الفتحة أصل والإمالة فرع، هذا هو الموجود في الشاطبية. ولكن الناس لم يتابعوه على ذلك استمروا يميلون للقراءة المأثورة التي عرفوها. هنا نسأل نحن في باب الحديث عن أصول الثقافة من أين جاء المذهب المالكي، ومن أين جاءت قراءة أبي عمرو؟.
المذهب المالكي ربما يكون قد جاءنا من المدينة رأسا، وقد يكون جاء من صعيد مصر وهذا أقرب، لأن الصلة بين صعيد مصر وبين الجزيرة العربية قوية لضيق المسافة بين الشاطئ المصري عند عيذاب. حلايب قريبة تقع جنوب عيذاب. ولكن هي نفس المنطقة. المسافة قريبة بينها وبين المدينة، فالعبور في هذه الجهة ممكن وسهل، وبهذا يكون صعيد مصر من الطرق التي جاء بها المذهب المالكي إلى السودان. كذلك وصلت بعض القبائل العربية عن طريق صعيد مصر. القراءة القرآنية وصلت من الأندلس، وأقول من الأندلس، لأن غرب إفريقيا الشمالي متمسك بورش. وقراءة أبي عمر وقراءة حفص، والقراء الآخرين، إنما توجد عند علماء القراءة في المساجد، حيث يقرأ الناس الشاطبية والنشر والقراءت السبع.
أما الأندلس فكانت قراءة أبي عمرو منتشرة فيها. ونحن نقرأ في تاريخ لسان الدين بن الخطيب وهو من متأخري الأندلس، أنه في ناحية من القرية التي نشأ فيها بدأ تعلم القرآن برواية أبي عمرو بقراءة أبي عمرو. هذه القراءة وصلت من طريق الشناقيط، وهذا أثر مهم.
العلم الذي يصل إلى بلادنا من طريق غرب إفريقيا ومن طريق المغرب. والعلم الذي وصل إلى بلادنا من طريق المشرق. ومن طريق غرب إفريقيا والأندلس وشنقيط وصلتنا كتب النحو وصلتنا شروح الفقه الكثيرة. وصلتنا مع ذلك كثير من العلوم كالأشعار والمدائح النبوية.
من طريق المشرق وصلتنا مذاهب صوفية، ووصلتنا أيضا مذاهب صوفية من طريق المغرب، لكن أكثر المذاهب وصلتنا من طريق المشرق. الطريق القادري جاءنا من المشرق، الطريق الشاذلي مع أنه نشأ في الغرب أتانا من طريق المشرق. عندنا حمد والمجذوب أخذ الطريق عن علي الداروي، الداروي في مصر وقريبة من طريق الحج وحولهم ينتشر المذهب، لم ينتشر الطريق الشاذلي إنما انتشر في وقت متأخر من طريق الشيخ المجذوب القصير. والشيخ المجذوب القصير أخذ الطريق الشاذلي عن إبراهيم السويدي وإبراهيم السويدي عراقي. وبهذه المناسبة أذكر أني زرت العراق ورأيت الخرقة التي فيها الطيف الصوفي والطريق الشاذلي، ويرجع الطريق في أصله إلى عبد الرحمن التكروري فهذا هو الطريق إلى المغرب إلى عبد السلام مبشيش إلى الشاذلي، فلقاء الناس في الحج وفي مدارس العلم قوى الرابطة. ولكن عندنا في بلدنا كان للشناقيط المساكين، لأن الشناقيط والمغاربة منهم أغنياء ومساكين. طريق المساكين كان بلدنا وطريق الأغنياء كان مصر والشام. فهؤلاء المساكين الذين يمرون ببلدنا يعلمون الناس ويقيمون معهم، وكان بعض العلماء أيضا يأتون من غرب إفريقيا من بلاد هوسا ومن بلاد تمبكتو ومن بلاد مالي، وينبغي أن يقال إلى الآن أن حرص حصول الناس على علوم الدين وعلوم القرآن مازال قويا إلى أيامنا هذه، وهذا باب واسع ويمكن التبحر فيه في وقت أوسع لمن يريد ذلك، ولكني أردت فقط مجرد الإشارة إليه.
عروبة وإفريقية
يصل حديث العلامة الراحل عبد الله الطيب إلى مسألة عروبة السودان وإفريقيته، ويذكر بهذه المناسبة المرحوم الرجل النابغة محمد أحمد محجوب رحمة الله عليه، فإنه كان يقول نظر شمالا إلى العرب ونظر جنوبا إلى إفريقيا في بعض حديثه. والسودانيون دائما عندهم عقدة، عقدة هل هم إفريقيون أم هم عرب؟
وبمناسبة هذه العقدة، قسم المستر ماكمايكل العرب إلى عرب أصلاء، وإلى عرب مستعربة. ومن العجيب أن ماكمايكل مال إلى أن الجعليين مستعربة، وهذا فيه نظر كبير، لأن المصدر الذي يخرج به ماكمايكل وغيره كإبراهيم فوزي قبلا تعرض إلى موضوع نسبة الجعليين إلى سيدنا العباس، فقال إن العباسيين لا يمكن أن يأتوا إلى بلد مثل السودان وهم في أوج مجدهم وقوتهم.
أذكر أني في سنة 1967م زرت البصرة وزرت رجلا عباسيا من أجل علمائها وفضلائها ورؤسائها فهو الشيخ عبد القادر باش أعيان رحمه الله وأهدى إلى كتابا نفيسا هو (النخلة سيدة الشجر) وسرقه مني أحد البارعين ولم يرده إلى اليوم.
الشيخ عبد القادر باش أعيان مكتبته كانت مدونة في كتاب بروكلمان، وأنا لم أتذكر هذا لكن عندما زرته راعتني المكتبة. وكان فيها كتاب الحسبة، وهو النسخة الوحيدة الموجودة في العالم في ذلك الوقت. هذه النسخة كانت لأحد السادة العباسيين، وأراني مصحف العباسيين، وهو ينتمي إليهم، ثم أعطاني شجرة نسبه والوثائق التي تقوم صحة هذه الشجرة من الكتب المختلفة ومن البرهانات التي كانت تأتي من العثمانيين ومن غيرهم. ثم قال لي هل أنتم عباسيون؟
التهميش آفة ثقافتنا منذ القرن السادس
مثلنا ينظر العلامة الراحل عبد الله الطيب للمشهد الثقافي، لكنه يرى ما لا نراه. فريق منا يرى المشهد بسيطا باللونين الأبيض والأسود. وفريق ثان يراه محدودا ببعدي العرض والارتفاع. وفريق ثالث يراه بألوانه وأضوائه وظلاله وبعده الثالث العميق.
غير أن العلامة الراحل يراه مشهدا مركبا بعنصر المكان ومقتضياته وبعد الزمان وتأثيراته بالحركة وأسبابها وتداعياتها، وعلاقة المتحول بالثابت في قلب المشهد وعلى أطرافه.
ويحلو للعلامة أن يقول عن نفسه إنه وضع مستقبله وراءه، لكننا في هذه اللحظة الفارقة من عمر الوطن نضع مستقبلنا أمام تصوراته.
وعندما يهيمن المشهد الثقافي السوداني على التفاصيل اللاحقة، تتولد الرغبة في متعة الاستماع إلى العلامة وهو يتحدث. وثمة صعوبة في أن تجلس إليه صحفيا تراودك شهوة الصحافة في السؤال، لأن اكتمال الموضوع واتصال الفكرة عند العلامة يكبح الصحفي من السؤال حتى لا يفقد دقة الإنصات.
الأصول الحميرية
يتذكر العلامة الراحل أن مستر هيكوك أحد الأساتذة الذين درسوا في جامعة الخرطوم، وكان الناس حينئذ لا يقرؤون الحروف المروية. وكان العلامة يعبر له عن أعتقاده أن الصلة قوية جدا بين بلدنا وبين الأصول الحميرية القديمة، وكان يردد ذلك. لكن واقع الأمر أن هناك نوعا من العنصرية جعل يحول بين العلم والعلماء وبين تتبع تاريخ تلك البلاد، وهذا أمر رغب العلامة في الوقوف عنده، ولكنه (يحتاج إلى من هو أدرى به مني)، حسب تعبيره.
الحاصل أن هذه البلاد بدأ تهميشها كما يقال في اللغة العصرية من حوالي القرن السادس قبل الميلاد، قبل ذلك كانت مهمة، وبدأ تهميشها، ويهمش معها لون الناس، السواد يعتبر متأخرا، وأهله يعتبرون متأخرين، وهذه البلاد على حضارتها أخذوا ينكرون وجود حضارتها، وانتقلت هذه العدوى إلى المسلمين، فالصلة كانت قوية جدا بين هذه البلاد وبين الشاطئ الشرقي، والتبادل كان مستمرا واستمر حتى بعد الإسلام لمدة طويلة، لأن ابن بطوطة عندما جاء إلى شاطئ البحر الأحمر وجد بني كاهل ووجد قبائل البجة متصاهرين مع أهل مكة، وبينهم صلات واشجة، مع هذا ذكر هذه البلاد قد اختفى مع أهميتها التاريخية. البرتغاليون هموا أن يفتحوا شاطئ البحر الأحمر ليهاجموا منه مكة، رينودي شاتلون القائد الصليبي الكبير جهز أسطولا ليغزو به سواكن وليهاجم من سواكن مكة، ولم يتمكن، وقد قتل في معركة حطين قتله صلاح الدين الأيوبي بسيفه وكان من أشد الناس عداوة للمسلمين في تلك المنطقة. فهذا الإقليم ظل مهما ومع ذلك ظل يهمش ولا يعطى منزلة مهمة.
وبهذه المناسبة أذكر أن الشعر العربي في الجاهلية وفي أوائل صدر الإسلام لا يتكلم عن الخدود الموردة قط لم يبدأوا في الكلام عن الخدود الموردة في الغزل إلا بعد ذلك، وهذا أمر يحتاج إلى وقفة وإلى نظر فكلما امتد الزمان تنوسيت الصلات في هذا الإقليم الذي جعل يدخل في الإسلام، وفي القرن العاشر والحادي عشر الهجري كانت توجد حضارة مزدهرة في غرب إفريقيا في تمبكتو وبقاياها موجودة إلى الآن، ولكنك قل أن تجد عنها كتابة عند كتاب المسلمين المؤرخين المختلفين.
فهذا أمر يحتاج إلى نظر، وانتقل إلى الأوربيين فسلموا أن هذا الإقليم ينبغي ألا يشار إلى حضارته أو أن تتجاهل.
الفكرة العنصرية
أذكر أني حضرت ندوة في اكسفورد ووقف من يتكلم عن بعض الجدران الدائرة والمقوسة في جنوب اليمن، وقال هذه يظهر أنها جاءت من الأثر الكلاسيكي اليوناني أو الروماني في الكلوزيوم وأشباهه في بلاد شرق أوروبا وفي شمال إفريقيا. ولم يعجبني هذا من كلامه، ونبهته إلى أن هذه البلاد من قديم الزمان عرفت الآبار العميقة وتصنع منها الجدران الدائرية، والجدار إذا صنع دائريا في البئر ربما صعد فوق سطح البئر وكان دائريا، فلن يكونوا بحاجة إلى أن يتعلموا الجدار الدائري من الآثار الكلاسيكية عند الرومان وعند غيرهم، لأن هذه الآبار قديمة عندهم ومشاهدة وبعضها يشاهد حتى الآن. بل توجد آبار حفرت في أماكن بعيدة الغو، وبعضها يحير الآن في كيفية الاستهداء فيه إلى الماء، ولكن الفكرة العنصرية طغت على الناس حتى تغلغلت إلى أهل البلد أنفسهم.
في القرن الماضي جاء بعض الطليان إلى أحد الحكام وأستأذنوه في كسر الأهرام التي بناحية كبوشية، فأذن لهم. وقال الناس إن هذه الآثار ملك لأجدادنا، فلما يكسرونها؟ كأنها عدت أثار بناها الخواجات في استعمارهم الأول وهذا غير معقول، لكن هذا غرس في نفوس الناس أن هذه الأشياء لم يصنعوها هم، بل صنعها أناس في العصور الماضية ونبتت من ذلك قصة العنج البيض الذين سلط الله عليهم دبيبة العنج فأكلتهم في السودان، ولعل العنج لم يكونوا إلا سودا.
اللغة والتعليم
لا يمكن أن ننتهي من هذا الكلام من دون أن نذكر من الأصول المهمة التي صدمت حضارتنا القديمة وصارت من فروعها الأصلية الحضارات الأوروبية الحديثة، خاصة في طرق الحياة الاجتماعية والمدنية، وأهم من ذلك من طريق اللغة والتعليم، وهذا الذي يسمى الآن التحديث، ولا يخفى أن الحضارة الأوروبية العصرية غزت كل العالم من طريق اللغة. فنابليون عندما جاء إلى مصر جاء معه مستشرقون يعرفون اللغة العربية، ولكن لم يكن غرضه تعليم اللغة العربية، كان غرضه تعليم اللغة الفرنسية والحضارة الفرنسية، ونجح إلى حد كبير في ذلك. ثم جاءت بعد ذلك الدورة الإنجيلزية، ونشأت المدارس العصرية، والمدارس العصرية هذه صيغ أوروبية جديدة، المتحري والدارس لشؤون التعليم يستطيع بعد البحث والنظر والتدقيق أن يرد أصول المدارس الأوروبية إلى أصول إسلامية، لأن أوروبا كانت تغط في الجهل، ودخلها التعليم من طريق منتكثيرو وكلوني.
الكواهلة والبجة
في إجابة عن سؤالين عن دراسة تفيد أن نهر النيل كان يصل إلى ليبيا، إضافة إلى إشارة العلامة في حديثه إلى أن هيردتوس تحدث عن جنوب مصر، وتحدث بوضوح عن أن السودان وبحر الغزال هما مصدر ذلك النيل، فما مدى صحة ذلك؟
وكان السؤال الثاني عن إشارة العلامة الراحل إلى دمج قيبلة الكواهلة مع البجة، علما بأن قيبلة الكواهلة تكاد تكون منتشرة في أنحاء كل السودان من الأمرأر والبشارين وحتى منطقة الليري بجنوب كردفان وغربها، وكل الشمالية ووسط السودان حتى الجنوب فما هو دور هذه القبيلة في الأصول والحضارة السودانية؟
يجيب العلامة الراحل عن السؤال الأول بتوضيح أن هيرودتوس وصل إلى أسوان ولم يصل إلى بلدنا. ولما تكلم عن الأنهار ذكر أن نهر الدانوب أكبر أنهار الدنيا، ولكن نهر النيل أفيد وأعظم بركة منه، لأنه يطعم مصر ويسقيها. ولم يقل إن نهر النيل يجري في ليبيا وسار في نهر النيل من مصبه إلى أن وصل إلى أسوان. وقال إن بلد المرويين تقع وراء ذلك، ولكنه لم يصلها وإنما جاءنا بأخبارها، وأن ذكرت لكم أن السودان همش منذ القرن السادس فوجده هيرودتوس مهمشا فأخذ الاخبار هذه واحدة.
ويأتي العلامة الراحل للأمر الآخر ألا وهو الحديث عن الكواهلة، فالحقيقة أن ابن بطوطة مر عند أول هجرته بالكواهلة ووجدهم على شاطئ البحر الأحمر، وذكر أن البجة لهم صلة بأهل مكة، وأن فيهم ملك في جهة سواكن ولا خلط بين الموضوعين. هؤلاء رعاة كانوا يرعون، وهؤلاء كانوا يتصلون من طريق البحر بملوك مصر. ثم أن الكواهلة هاجروا لأن جهة البجة كانت كالغربال فالقبائل النازحة تقيم حينا، ثم تغربل وتدخل في البلاد وتمتزج بالقبائل الأخرى، هذا في ناحية القبائل الآتية من الجزيرة العربية. وكما ذكرت لكم أن الهجرة كانت من طريقين فالناس يندفعون إلى الجزيرة العربية إذا كان بها ازدهار تجاري، ويخرجون منها إذا ذهب الازدهار التجاري، هذه سنة الله في خلقه. الناس الآن يأتون إلى الجزيرة العربية من الفلبين ومن الصين، وفي الزمان الماضي كانوا يأتون من أماكن أخرى.
بلال ولقمان
يعود العلامة الراحل إلى توضيح أن الخبر الذي ذكره عن سيدنا بلال رضي الله عنه موجود في القاموس، فالقاموس قال: بلال الحبشي، والجاحظ قال كان نوبيا، وكلمة نوبي نفسها كلمة غامضة، تطلق أحيانا على مجرد سواد اللون، فإخواننا من دنقلا ووادي حلفا لا يستعجلون وينسبون الأمر إلى أنفسهم. إلا أن صاحب القاموس نص على أن دنقلا كانت قصبة بلاد النوبة، وأن سيدنا بلال الحبشي من النوبة، فهذا يدلنا على الربط بين دنقلا وبين سيدنا بلال، لكن سيدنا بلال من أهل مكة، لأنه بلال ابن حمامة وبلال بن رباح فأهله كانوا من مكة، ولكن هذه هي الأصول التي يرجع إليها.
أما سيدنا لقمان الحكيم فيحتاج إلى بحث كثير جدا، لأن المفسرين اضطربوا في أمره، وأحيانا خرجوا، وأحيانا أنا أستغرب في بعض الألفاظ التي يستعملونها. قال إن لقمان كان حبشيا مجدعا، قال الشارح مجدع أي مقطوع الأذن أو مقطوع الأنف ومجدع تعني أيضا مسكين، كيف يقال هذا في التفسير لشخص وصفه الله عز وجل بقوله، ولقد آتينا لقمان الحكمة، فالمولى رفعه هذه الرفعة، ولكن بعض المفسرين المتأخرين يريدون أن يبينوا نعمة الله الكبيرة بقصد طيب، أنه حتى الشخص إذا كان أسود عظيم المشافر قبيح الأنف مجدعا مع هذا يستطيع الله أن يؤتيه الحكمة والله قادر، ولكن الذي في القرآن ولقد آتينا لقمان الحكمة.
العجيب أن ابن كثير وقف وقفة طويلة عند لقمان وأثنى عليه وقارب أن يقول كان نبيا، والتمس له وسائل، وقال منعه من النبوة أن كان رقيقا، فهذا قول ضعيف، لأن يوسف عليه السلام بنص القرآن الكريم شروه بثمن بخس دراهم معدودة، وهذا لم يمنعه من النبوة. وفي القرآن الكريم أن الله آتاه الحكمة ومن تفسير الحكمة أنها النبوة بعضهم فسروا الحكمة أنها الصواب، وبعضهم فسروا الحكمة بأنها النبوة، وهو تكلم مع ابنه يابني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم، وأول ما دعاابنه إليه أمره بالإيمان بالله. ونحن عندنا في الخبر أنه أول ما أرسل سيدنا آدم أرسل إلى بنيه ليعظهم وليعلمهم الدين. فلقمان دعا وأتاه الله الحكمة، فحكمته أن كانت حكمة وليست نبوة فهي فضل عظيم حباه الله بها، وإن كانت نبوة فهي فضل عظيم حباه الله بها. والقول أنه كان مجدعا أو عظيم الشفتين هذا أمر لم يحققه الناس، بل جعله بعضهم قاضيا في بني إسرائيل وهذا لم يحقق. واختلط على الناس لقمان الحكيم بلقمان آخر من بني عامر، قالوا كان ملكا وكانت له جبايات على الناس، وهذا غير لقمان الحكيم، ولكنهم قالوا إن لقمان الحكيم كان نوبيا، وبعضهم قال كان حبشيا، والله تعالى أعلم.
الأرجح أن زوجة سيدنا موسى بجاوية
أعرف جيدا أن أغلب محاولات التكهن بالمستقبل تنوء بالفشل، وذلك لأسباب كثيرة من أهمها أن معظم من يحاولون ذلك يعتمدون على نظرية (الإسقاط) أي مد الاتجاهات السائدة في الحاضر والماضي القريب إلى المستقبل. فتخيب توقعاتهم لأن لا تكف عن مفاجئتنا بانقطاع اتجاه كنا نظن أنه سيستمر، وباتجاه حاد في طريق كنا نظنه مستقيما. وهنا يبرز سؤال: متى يخون الباحث أو العالم فكرته؟ يخونها عندما يقدسها، فالأفكار نبت إنساني، ولأنه إنساني لا يمكن أن مطلق الصحة. كان هذا في الماضي، ويكون في الحاضر، وسيكون في المستقبل. وقد حرص أئمة المسلمين وفقاؤهم على ذلك.
وعلى ذات النهج يسير العلامة الراحل عبد الله الطيب ليصبح عراب الثقافة السودانية، والعراب في اللغة هو الأب الروحي.
أتاح البروفسير إبراهيم أحمد عمر مقدم الندوة، بعدهذه السياحة الثقافية الفكرية الممتعة وهذا العلم الغزير من العلامة الراحل الفرصة لمن يريد أن يستزيد.
وجاء السؤال الأول من الطيب محمد كرار عن انتشار المذهب المالكي الذي دخل البلاد من جهة مصر، في حين أن المذهب الشافعي أكثر انتشارا في مصر، كيف نفسر هذا الأمر؟
اعتبر العلامة عبد الله الطيب أن السؤال وجيه، وأجاب: حقيقة أن المذهب الذي كان منتشرا في مصر هو مذهب الليث بن سعد التابعي الجليل، وبهذه المناسبة نذكر أن من أهل دنقلا يزيد بن ابي حبيب من كبار الصحابة أنا كنت أظن أنه استعبد وأخذ إلى الجزيرة العريبة حتى قرأت تاريخه ووجدت أنه ولد في دنقلا وأنه ذهب إلى مصر فوجد أهل مصر علويين في آرائهم فحولهم إلى عثمانيين، ثم ذهب إلى دمشق، والمهم في الموضوع أن الليث بن سعد كان صاحب المذهب في مصر، ثم جاء الشافعي إلى مصر وكان على مذهب مالك جاء أشهب وجاء تلاميذ مالك ونشروا مذهب مالك في مصر وجاء الشافعي وكان على مذهب مالك ثم استحدث مذهبه الجديد فبقيت مصر مالكية على المذهب المالكي القديم ومازال صعيد مصر مالكيا في الكثير، وكل ما هناك الذي أضعف المذهب المالكي في مصر في الأيام الأخيرة هو المذهب الحنفي، إذ إن الحكومة فرضت المذهب الحنفي على الناس في مصر كما فرضت علينا المذهب الحنفي في السودان، ونشأ من هذا أن الناس صاروا لا يعرفون المذهب الحنفي ولا يعرفون المذهب المالكي، لكن قبل ذلك جاء المذهب من مصر ثم جاء من الغرب، وأنتم تعلمون أن الإمام مالك أثنى على حد زعم البعض على ملوك الأندلس ففرحوا بذلك وشجعوا الناس على أن يأخذوا بمذهبه. ولكن هذه المقولة المشهورة عن الإمام مالك أنه أفتى بأن طلاق المكره لا يجوز، وفهمها الناس آنئذ على أن بيعة المكره لا تجوز.
وكان الناس قد بايعوا محمدا النفس الزكية، وأرادهم عيسى بن موسى أن يبايعو أبا جعفر وأكرهوا على ذلك، فهذه الفتوى أخذت ضد الإمام مالك وضربه أحد الولاة، وأبو جعفر المنصور تبرأ من أنه أمر بذلك، والخبر معروف.
تساءل الدكتور بركات موسى الحواتي عن مقالات الأستاذ أحمد سليمان المحامي التي جاء فيها أولا أن زوجة سيدنا موسى اسمها سفورة، وهذا الاسم شائع بين قبائل المحس والنوبة. وثانيا أن السيدة هاجر عندما أشتد بابنها العطش وأخذت تهرول بين الصفا والمروة ونبع الماء وخشيت ألا يروى ابنها وأخذت تصيح على الماء سم، سم، سم وهذه بلغة النوبة اهدأ، اهدأ، اهدأ نرجو من أستاذنا أن يعلق على هذا من ناحية سم... سم...سم بلغتهم أهدأ...اهدأ...اهدأ وتحولت إلى زمزم.... وسفورة؟
العلامة: هذه تأويلات لا أستطيع أن أثبتها أو أن أدفعها، كل الذي أستطيع أن أقوله: إن العهد القديم يذكر أن امرأة موسى عليه السلام كانت كوشية. والكوشية هذه قد تكون محسية، أو قد تكون جعلية، أو قد تكون شكرية، وقد تكون بجاوية، والأرجح أن تكون بجاوية، لأن موسى عليه السلام دعا فرعون إلى الدين. فرعون الذي دعاه موسى كان حاكما في جهة الأقصر، والمكان الذي توجه إليه للقائه ينبغي أن يكون على جبال البحر الأحمر وهذه لا يسكنها المحس، وإنما يسكنها البجة. وهذا ظن وتخمين ليس وراءه طائل، الذي وراءه طائل أنه تزوج امرأة كوشية، وكوش هذه أمة قديمة لا ندري على وجه التحديد ماذا كانوا، لكن أهل هذه البلاد كانوا يسمون بكوش، ولكن لا يستنتج من ذلك أنهم نفس الذين يسكنون، وإن كانت الأشكال نفسها تشبه الأشكال الموجودة الآن.
وتبقى مسألة زمزم، السائل يريد أن يجعل هاجر نوبية، وإذا أردت أن تجعل هاجر نوبية، فيجوز وهذا ليس بعيدا لأن هاجر أهداها ملك مصر لسيدنا إبراهيم، فيجوز أن تكون استعبدت وأهديت، وأن الذي في الخبر أنها كانت جارية لسارة فهل كانت جارية نوبية، أو جارية من غير ذلك؟ الله تعالى يعلم.
مما استوقفني في هذا الباب الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم (أوصى بأهل هذه المزرة السوداء الشحم الجعاد) وإخواننا المصريون غلبونا على تفسير هذا الحديث أنهم هم أهل المزرة السوداء، وأنهم هم الشحم الجعاد، وهم ليسوا بشحم ولا جعاد.
هجرة النوبة
يتساءل الدكتور عبدالوهاب عثمان عن حدث مهم حدث في السودان في منطقة النوبة في قديم الأزمان، يتمثل في هجرة القبائل النوبية إلى كردفان، وبالتحديد إلى جبال النوبة، لم نجد أي ذكر لذلك التاريخ لماذا هاجروا؟ متى هاجروا؟ وما هي الطرق التي سلكوها في هذه الهجرة؟ والمعلوم أن هناك تشابها كثيرا جدا في اللغة والشلوخ بين هذه القبائل وبين بعض القبائل في المحس ودنقلا فمثلا هناك كلمات كثيرة جدا مع بعض التحريف متشابهة جدا، فمثلا (كج) في الشمالية تعني الحصان، وهناك يقولون (كوج) وأيضا تعني الحصان. (وحبيب سرنوب) اسمه بالرطانة بالضبط في دنقلا (سوار الدهب) وكوكو تعني في دنقلا أسد أو أسود أو ما إلى ذلك فلم نجد في التاريخ ولا في الكتب ذكرا لهذا الحدث الكبير؟
يشير العلامة الراحل إلى أن مسألة اللغات تنبه الناس في تشابهها منذ وقت بعيد، ولكن أمر اللغات هذا يحتاج إلى درس كثير، لأن بعض هذا التشابه قد يكون بسبب النقلة التجارية، وبعض هذا التشابه يكون في أصول اللغات في أن الناس بشر وأصول لغاتهم متشابهة جدا، فمثلا نجد أن كلمة (اب) موجودة في كل اللغات وكلمة (أم) موجودة في كل اللغات، ويوجد شبه أصلي إنساني، ويوجد شبه ناتج عن الرحلة وعن القبائل، ويوجد شبه موضعي.
وأنا أشرت إلى كتاب (بلاك أثينا) وأشرت إلى أنه توجد لغات نشأت معا في منطقة واحدة، وهذا أمر مسلم به، ولكن يحتاج لمزيد من الدرس والتحصيل.
يثير الأستاذ أحمد زين العابدين عمر مسألة الأصول، فقد قرأ عن كتاب كتب عن تاريخ اليهود، وهذا الكتاب ألف في 1862م، ونشرته مكتبة (افري نايس لايبرري) وهو من جزئين، هذا الكتاب كتب قبل ظهور الحركة الصهيونية، وهو بتكليف من جامعة اكسفورد، المهم في الموضوع أن الفراعنة كانوا يعانون من غارات تأتي إليهم من ناحية الجنوب أو من منطقة النوبة. والمؤلف وصف هذه القبائل بأنها قبائل شرسة وكانت تعتدي على الحدود الجنوبية من أسوان إلى حدود السودان، فقال يدعو اليهود في هذه المنطقة لحماية جنوب مصر من هذه الغارات التي يقوم بها النوبة. وأذكر أن أسماء أهل هذه المنطقة أغلبها مأخوذ من العهد القديم كاسم صالح.. سليمان.. إبراهيم وحتى كلمة (عبري) تعني (عيري) وربما تأثرت هذه المنطقة باليهود فهل هناك أثر لذلك؟
ويثير نقطة ثانية فحواها أن كان في مكة المكرمة في زيارة لصديقه الأستاذ الكبير إسحق محمد الخليفة شريف، وكان معه المرحوم الشريف حسين الهندي وتكلمنا عن القبائل العربية، فقال إن قبيلة اللحويين الموجودة الآن في شرق السودان هي قبيلة عربية ينتمي إليها ابنا عمر وأن المكاتبات بينهم مستمرة إلى قبل سبعين سنة، وكانوا يركبون بالمراكب عبر البحر ويرعون في السودان ويعودون، إلى أن وفرت لهم المملكة العربية السعودية الحديثة الرعي فتكلموا عن الكثير من القبائل كانت تأتي إلى السودان عن طريق البحر للمرعى في السودان، ثم تعود.
اعتبر العلامة الراحل أن هذا الكلام مفيد جدا، لأن القصة أن بلدنا هذا جزء من الوطن العربي الكبير من قديم الزمان، فقصة أن العرب يأتون من الجزيرة العربية إلى هنا تبقى تحصيل حاصل، أي أن الناس كانوا يذهبون من هنا إلى الجزيرة العربية ومن هناك إلى هنا، واللغة العربية موجودة في هذا البلد من قديم الزمان. فمثلا لوفتحت القاموس تجد كلمة دود التي تعني أسد وكلمة الدود التي تعني أسد مستعملة في كل السودان، وأحيانا تستعمل كلمة دود للتمساح والدود تعني الحيوان الشرس والدود بمعنى الاسد عربية قديمة.
قال أمروء القيس يهجو بني أسد
قولا لدودان عبيد العصا
ما غركم بالأسد الباسل
أي أنا الأسد ما أنتم دودان التي فيها الحرفان الأخيران الألف والنون هي النهاية الحميرية للالف واللام، ودودان معناها الأسد وهذا فرع من بني أسد سموا أنفسهم بالأسد، وفي مقامات البديع.
أفتك من دان ومن شجاع
إن يك دان سيد السباع
فإنها سيدة الأفاعي
فاللغة العربية قديمة جد في هذا البلد، وأنا أعتقد أنها لم تعبر البحر وتأتي إلينا هي كانت هنا، بعضها عبر البحر وأثر من هناك وبعضها جاء من هناك، وهذا الأمر نجد الأدلة عليه كثيرة، ففي القرآن الكريم نجد أن كلمة برهان أصلها حبشي، وأشياء كثيرة من هذا النوع.
عبر أحد المشاركين باللغة الإنجليزية عن دهشته من كون أن الجعلين استعربوا في الشمال. ويتساءل أين كانوا قبل أن يأتوا إلى المنطقة الإستوائية؟
وطرح المتحدث نفسه سؤالا ثانيا عن انتشار الممالك المسيحية في نواحي شمال السودان قبل أن يدخلها الإسلام، وعندما أتى الإسلام هل دخل بإقتناع منهم أم دخل عليهم بالحروب؟
عبر العلامة الراحل عن حقه في ألا يجيب السائل، لأنه تكلم باللغة الإنجليزية، ونحن في بلد لسانه العربية. أقول هذا مع أني أحترم اللغة الإنجليزية من حيث هي لغة، ولكن في الأماكن العامة أفضل أن يكون الكلام بالعربية. وأظن أن السائل يعرف اللغة العربية، لأنه فهم كلامي. على كل حال سأجاوب، الحقيقة الذي قال إن الجعليين مستعربة هو ماكمايكل وليس أنا. وماكمايكل قال هذا الكلام وبنى بعضه على استقراء علمي فرضي، ومن ناحية الغرض هو مخطئ.
والذي يحدث دائما في نظام القبيلة العربية أن القبيلة الواحدة قد تتحالف مع قبائل أخرى وتصير كل هذه القبائل قبيلة جديدة، فجزء من هذا قد يكون حدث أن العرب الذين هاجروا ووجدوا الإرث من قبيل البنت، والإرث من طريق البنت هذا أستغله بعض الذين عندهم الإرث من طريق الأب فيتزوج البنت فترث أباها، فعندما يلد منها يورث ولده ولا يورث بنته، بهذه الطريقة انتقلت كثير من الأملاك من النظام الأمومي إلى النظام الأبوي، وكثير من القبائل العربية التي هاجرت بعض ساداتها وتزوجوا من ملوك الجهة المقيمين وورثوا. وأذكر أني ذهبت إلى قري وقري ليست بعيدة من الخرطوم. وكان في قري جدار يدور حول الجبل، ومن الصعب جدا أن ترى هذا الجدار، لأن هذا الجدار يشابه لون الأرض، وأحد الطلبة الذين معنا رأى هذا الجدار وقال إن هذا الجدار غير موجود في الخرط التي رسمها أركل وأصحابه. وفعلا حاولنا أن نجده في الخرط التي في المتحف ولم نجدها وسألنا بعض أهل تلك الجهة، فقالوا لنا كان الملك حسب الله يسكن في هذه الجهة، وحسب الله هذا اسم افتراضي، وهو من العنج الأقدمين وجاء ملك قري عبد الله جماع أو أحد أجداده وتزوج بنتا من قري العنج أو النوبة القديمة.
Nostalgia for Abdulla Al-Tayeb's Cultural Domain*
A decade has elapsed since the demise of the Sudanese renowned scholarly Professor Abdulla Al-Tayeb. Has the passing time erased the features? Or is the nostalgia for the cultural era of the encyclopedic scholar is embedded within our chests and peeps through the eye-pupils in search for a comprehensive Sudanese culture
This nostalgia may flow into the mind like the moaning of a waterwheel in a happy night watering the plantation and offspring or the tweet of elated sparrows in the tranquility of the renewed spaces that accompanied the march and registered in the memory the features of the connotations and proportions of the vessel of innovation and creation that was steered by the late unique scholar.
The culture of nostalgia is not a mere attempt for listing the glories and accomplishments by the late scholar but also is one that underlines that the cultural era of Professor Abdulla Al-Tayeb is a landmark in the Sudanese cultural life; it is, a quality transition in the concept and vision, to use the intelligentsia jargon.
The Sudanese cultural life suffers between the hammer of the kinds of culture transmitted by the institutions of the power and the anvil of the cultural stereotypes the influence of which is impaired by the ideological impediments.
Nevertheless, the cultural era of Abdulla Al-Tayeb gains legitimacy from the scholar's penetrating vision saying "the simple Sudanese community is more learned than us", and "a learned person should contribute with the knowledge he possesses, as much as possible, to the advancement of this community", and "if we want to perfect our knowledge, we should present it for discussion with the people; the intellectual who is disdainful to the available means of communications, like a splendid portrait, you have to reach to grasp its beauty".
Attestations to this era are numerous as the late scholar has long shown concern with drawing the attention of the students, sociologists, anthropologists and historians to the need for documentation of the Sudanese customs and traditions before they vanish and are annihilated by the modern ways of life.
The Professor believes that the Sudanese cultural life is not subject to the standards of the natural, political and social timing but to its own standards. It is a cultural life of which the historic heroes are still moving in front of us on its stage and tie us to them with a firm emotional bond. The attestations cited by the late scholar are numerous and are found in his lectures and books which include: From the Window of the Train, The Memories Pouch, In the Memory of Two Friends and The Changing Customs in the River Nile Sudan.
Though the most important aspect in the cultural era of Abdulla Al-Tayeb was an invaluable lecture titled "The Origins of the Sudanese Culture" delivered at the Comprehensive National Strategy Conference, held in Khartoum in 1991.
This lecture demonstrated the leading role by the late scholar in the synthesis of the Sudanese mentality and up to his last days before his demise, he did not cease repeating: "Examination of the symptoms of civilization without diving deep into its essence is more harmful than useful". He cited an example saying: "Covering the floor of Khalwah cement (Holy Koran School) denied the pupils their natural writing board: the sand on which the pupils learn writing and at the same time correcting their mistakes."
The cultural era of Abdulla Al-Tayeb is concerned with the origins of the Sudanese culture which is a vast issue and here there is no ample space for definitions because the terms "culture", "Sudanese" and "culture origins" require definitions. But it could be said that the novelties of the Sudanese politics introduced "The Civilization Project" term in our life since the late 1980s of the last century. Whatsoever, the late Scholar believes the origin of Sudanese culture is "the civilization conflict" between this region and other regions.
Without engaging in details for which there is little room here, the late scholar, for instance, presents a very distant history of conflict between ancient Merowe and King Gumbaiz of Persia who attempted to enter this land and seeing that this attempt would be a difficult one and would cost him a protracted war in a country of scarce water with roads and passages he was ignorant of, he dropped the whole enterprise and contented himself with conquering Egypt.
The scholar views the Sudanese cultural scene as one composed of the place element and its prerequisites, the time distance and the impacts on it by the mobility and its motives and repercussions and the relationship between the changeable and the static in the center and fringes of the scene. He believes that this country began to be marginalized in around the sixth century BC.
Before that date it was an important land and began to be marginalized and so did the people's colour, the black colour and the people with this colour were regarded to have appeared late. He thinks that the country's civilization was denied, despite its existence and this notion was shifted to the Muslims as the relationship between this country and the eastern Red Sea coast was very close and lasted long before the advent of Islam.
Professor Al-Tayeb went on to say that when IbnBatutah arrived in the Red Sea coast, he found BeneKahil and Beja tribes inter-married with the people of Mecca and there were close ties between them. Despite its historic importance, the reputation of this country faded. The Portuguese thought of conquering the Red Sea coast from which they would invade Mecca. The Crusade Commander, Reynaud de Charlton, prepared a fleet to invade Suakin from where he planned to invade Mecca but couldn't as he was killed in Hitain battle by Salah Al-Dinn. He was a bitter enemy of Islam in this region which was important but remained marginalized without being accorded an important status.
When the cultural era of Al-Tayeb discusses the issue of Sudan's Arabism and Africanism, it reminds us of what genius late Mohamed Ahmed Mahjoub used to say that he looked north to the Arabs and south to Africa. The Sudanese have always experienced the ethnicity complex of whether they are Africans or Arabs.
The late scholar, for my generation as well as past and coming generations, will remain a compass that guides us when mist shrouds us, ignorance prevails, directions get confused and facts disappear. It is high time to keep as a guide the writings, ideas, visions and analysis of the late scholar about a country that was intended to forget its history, to lose its present and future, a country intended to ignore its geography and to go astray and miss its goal. This is the cultural era of Abdulla Al-Tayeb which the new generation of Sudanese long for.
END.
*
Published in Sudanow 20 July 2013
Translated by: Mohamed Ali Saeed
Sub-edited by: Mohamed Osman Adam


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.