(إلى المستنير والمهاتما في مواجهة الحزن العظيم) .. شعر: عالم عباس / جدة [email protected] +++ تَضُوعِينَ كالندِّ، رغمَ احْتِدامِ الحريقْ قطعةً قطعةً، تُطْعِمينَ الوباءَ الوبيلْ، جسداً واهناً، وتذوبين كالشمع،ِ شاحبةً في إباءٍ، وشامخةً في نحولْ. عبَقُ الصبْرِ مِسْكاً، يُطَمْئِنُ خوفَ المكانْ، والموتُ حيرانَ، لا يتقدَّمُ، لا يتأخّرُ ينظر ساعتَهُ في اتِّئادٍ مريبٍ، ويمضي يُرَتِّب أشياءَه ُكي ينامْ! حواراً مع الموت كان!، ويأْخُذُ شكْلَ الهدوءِ العميق. رُبَّما احْتَدَّ بعضَ الأحايين في الصمت، لكنّما، كنتِ في كبريائكِ أكثرَ نبلاً، وأعمقَ حُزْناً، فماذا لدى الموت فيكِ سوى جسدٍ واهنٍ، سيأخذه قطعةً قطعةً، لا محالة، في آخر الأمْر، ثم يمضي بما قد تبقّى، جسدٌ واهنٌ ومتاعٌ فقيرْ. وأنتِ هناك لديكِ الكثير! ++ هذه الروحُ وثّابةٌ واليقينُ الذي يُبْهِرُ الموتَ حيناً فيغْتاظُ، تَحْمَرًّ عيناه إذ يتحفّزً، ثمّ يرِقُّ قليلاً، فتضْعُفُ قبضتُهُ، ريثما يلمَّ قواهُ لينقَضَّ كالنسرِ، يخْطِفُ بعضَ بَهائِكْ، ثُمَّ لا يتبقّى سوى هالةٍ من بريق، وجمرٌ تَوَقّد بين رماد الحريقْ كُلّما هبّت الريحُ، وانْزاحَ بعضُ الرَّمادِ الْتَمَعْ. واستزاد الوجَعْ. ++ يا لروحكِ، لَمّا ترفُّ، فيرتعشُ الموتُ، كان يحسًّ بأنَّكِ أقْوَى وأصْلَبْ، وشأوُكِ أرحبْ, وأنّ الحوارَ الطويلَ الذي دارَ بينكما في الظلامْ، من قبل عامٍ وعامٍ وعامْ، حوارٌ من الخوف والأمْنِ، بين الصمود، وبين التَّضَعْضُعِ والإنْهِزامْ. فيا لِعَنَاءِ الجَسَدْ، حين يبقى ثياباً مُهَلْهَلَةً نال منه التعبْ، والخيوطُ، الحبالُ العُقَدْ، كيف يصمد هذا الجسد؟ وقد هَدّهُ الضَّعْفُ، يهوي به للفناء وما بين روحٍ محلّقةٍ في أسارٍ تُفتِّشُ عن منفذٍ للشهُب! +++ في الخَفَاءِ الرَّقيقْ، حين يستغرقُ الصَّمْتُ في عمقه، ويغطّيكِ في ثوب وُحْدَتِهِ الكابية، وينْسَدِلُ الصمْتُ، يأخُذُ شكْلَ النُّعاسْ، كنتِ والحزنَ صِنْوان، تحتكرانِ الأَلَمْ. كُلّما اشْتَدّ ألْقمْتِه لبَنَ الصّبْرِ، كيما يكفَّ ويخْلَدَ للنَّوْمِ، لا، لم يكن قاسياً أو عنيفاً، فقد كان موتُكِ يأتي بلطفٍ، وبعض حياء، كأنه يطلب الإذْنَ مِنْكِ، يحاول أن يستعيد وديعته في أناة، تناجينه، تمسحين له رأسه وأنامله في حُنُوٍّ، وتفترشين له شرشف الود، لكِنَّهُ، مثلَ طفلٍ يُلِحًّ، يحاول أن يتشبث فيكِ ولا يَتَخَلّى، لعلّ الفراقَ عسيرٌ عليه، إلى أنْ يجِيءَ النهارْ. +++ وها أنْتِ لَمّا تنامينَ بَعْدُ، ويشرُدُ ذهْنُكِ نحو البعيد الغريب! أًلاءِ الذين طَوَتْهُمْ رياحُ المنافي، أشقّاءَكِ الأقربين، وجُوهُ الأحِبَّةِ والصِّبْيةِ اليافعين، هدايا الطفولةِ، بعضُ رفاق الصبا والدراسة والأصدقاء، جلسةُ الأمهاتِ، الحكايا الصغيرةً، دفءُ المَودَّةِ في الوالدين. والنُّواحُ الحزينْ! وتَنْهَمِرُ الذِّكْرياتُ، ويَنْبَهِمُ الغابِرُ المُتبَسّم في الحاضِرِ المُتًجهِّم، يشتدّ عُنْفُ السَّهَرْ. إلى حين يأتي الصباحُ حَييّاً، ولما تنامين، عينٌ مُقَرَّحَةٌ بالدُّموعِ، وجَنْبٌ تَقلّبَ، بين السُّهادِ وبين الأَرَقْ، وتبتسمين برغم العناء، وينْضَحُ فوق الجبينِ العرَقْ! كان صمتاً بليغاً، وقد أفصَحَتْ عنه عيناكِ، تغْرَوْرِقان قليلاً، وتتّسعانْ، تَسْقُطُ بعضُ الدميعاتِ خَجْلَى، وتأخذ جبهتُكِ المُشْرئِبّةُ تقطيبةً، ثمّ تقفزُ بعضُ الأُوَيْهاتِ مزْجورةً، ليعمّ الرضا والسكينة. وكُنّا، ونحنُ نُصافِحُ بسمَتَكِ الصّافية، نحارُ، تفاجِؤُنا دهشةٌ خافية، كيف تبتسمينَ، والموتُ يرقُصُ رقْصَتَهُ، واثقَ الخَطْوِ حوْلَكِ، ثًمَّ يَهِبّ فَيَقْتَلِع العافية! +++ ها أَنْتِ تبدين كالغافية، لا، ليس نوماً، ولا لحظَةً مِنْ وَسَنْ، رُبّما وهَنٌ في البدنْ! رُبّما اسْتَغْرَقَتْكِ الصّلاةُ، وبعضُ المُناجاةِ في السِّرِّ، بعضُ التوسّل لله، أو حالةٌ من جَزَعْ، كما تفعل الأمهاتُ جميعاً، على يُتْمِ طفلين، غضّين، حال أبيهم بُعَيْدَ غيابكِ في رحلة الموت، هذا الفراق العسير، فيا يُتْمَهُمْ في الفراغ المرير! +++ روحُكِ كانت ترفُّ كخفق النسيم يهبُّ رُخاءً علينا، نحسُّ بها كَجَناحَيْ مَلَكْ. والرَّدَى في جدالٍ معكْ! يًجرِّبُ صبرَكِ بعد اليقين ويمتحنُ التجربة، يُجَمّر إيمانَكِ المُتَوَقِّدِ في قلبك المتيقّن، يسمو على مُثْقِلات الجسد. وكُنّا نرى، في المواجهة المُسْتمرّة بينكما، مسرحاً للدراما ومأساةِ ضَعْفِ الْبَشَرْ، وهُمْ يُسْلِمُونَ لِأَمْرِ القَدَرْ، وأنْتِ، كما أنتِ، شمَّاءَ كالطود، مؤمنةً، كالنبييّن، صبّارةً في سموٍّ، وراسخةً في شَمَمْ. وأنَّ الحوارَ ثريُّ، وأنّ الألمْ، لغةٌ في الحوارِ، وحجَّةْ، وفي الصمتِ ضَجّة! +++ كان ذلك أبريل، في يومه السادس، من عام عشرٍ وألفين، نصف النهار تماماً، ختَمْتِ الحوار الصبور مع الموت، بعد المحاجَجَةِ المستمرّة عاماً لعامٍ لعامْ. في الختامْ، وداعاً شقيقةَ روحي، عليكِ السلامْ، فقد كان في الدرْسِ ما يسْتَحِقُّ العَناءْ! ++++ [email protected] عالم عباس جدة- /7-27/ابريل-2010