بين لحظات التفاؤل والأمل نصطدم فجأة بعثرات الواقع، لنرتد من جديد الى نقطة البداية منكسرين منهزمين، هكذا تدور رحى الحياة، وتقتل الصحوة في الذات، بفعل الدمار النفسي الذي يُمارس بشكل يومي، من قبل البشر، ضد بعضهم البعض، إنها الحياة ساعة تكتسب لون الوحشية بدلا من الحب. ليكون سلاح العنف هو الذي يواجهك بدلا مما كنت تعتقد أنه سوف يقف بجوارك، الحب والتعافي من الظن والمسامحة والبهجة. واذا كانت الحروب مرتبطة بأماكن تستعر عندها النيران، الا ان الحرب موجودة كفكرة وفي كل مكان، فحياتنا المعاصرة نوع من الحرب القذرة والرديئة، في ظل التصارع الذي لا يقف، في سبيل اجترار تسلق سلم الحياة، حتى لو بدا هذا السلم قذرا وغير قابل للتوقير والاحترام، فالكل يرغب في الصعود بغض النظر عن الوسيلة. وليس هذا تعميما للحالة، لكنه المشهد الأعم في ظل فساد الأرواح في الحياة المعاصرة، عندما يكون الخيار المفضل هو السيطرة والهيمنة وبأي ثمة كان بغض النظر عن المبررات الأخلاقية والمنطق، ما يجعل الحياة الإنسانية في النهاية كأنها قائمة على القبح والتوحش والجنون. كأنها جورنيكا بيكاسو تصور لنا كيف أن الحرب هي المجرد الوحيد والحقيقي في هذا العالم. يقول أحد شعراء امريكا اللاتينية: «ثق بالدرج، ولا تثق بالدرجة» الواقع ان جل الصراعات والمماحكات التي نعيش تفاصيلها على مستوى العمل والبيت والشارع الخ، هي من النوع الذي يثق بالدرجة، مما يعني قصورا عن تلمس المعنى الجوهري للأشياء، وإدارة علاقة صادقة مع العالم، لأن الصدق لا يتولد من العفوية فحسب، بل من وعي الوجود، فقد يكون المرء بسيطا ومخلصا تجاه حياته والآخرين، لكنه في ذات الوقت لا يفتر عن تلفيق الأكاذيب، سواء تم ذلك بوعي منه أم لا. والمهم هو أن هذه الصراعات أو الحروب ليست لها أي أهداف نبيلة فليس من وراءها سوى الدمار، مع تعليق السؤال الذي يظل قائما، وهل من حرب نبيلة مهما علا شأنها؟ فالحروب في أبسط صورها تدمر النفوس قبل أي تهلك الأبدان. أحيانا يمكن أن نجد العذر لمثل هؤلاء الأشخاص الكذابون وهم يجهلون لحقيقة أكاذيبهم، ذلك لأسباب منها: أن حالة الكذب، قد لا تكون حالة أصيلة في الذات، وهي بالتالي لا تهدف بشكل مباشر إلى الاندغام في مفهوم الحرب ودمار الواقع، بمعنى أنها حالة دفاعية، ضد ترهلات الحياة، وما يجابه الضعيف من أساطين السلطة وملوك الجبروت، الذين تجدهم ملتفين حول جثث ميتة تحلق في كل مكان من حولهم، إنهم يمارسون محبتها لا لشيء سوى أنها تمنحهم الذات والمصالح الآنية وتمدد سلطتهم. بمعنى أن هؤلاء الكذابين إما أنهم لم يرتقوا لمقام العارف الذي يعلم بمضار الكذب وأنه شيء مرفوض وقبيح، ويظن أنه يتجمل به ويسمو، أو أنهم ممن يظن أن الكذب يرفعه قدرا ومقاما وإنه محطة مؤقتة بعدها سيكون كل شيء على ما يرام، وفي كل الأحوال يجب التحرر من الأكاذيب إلى فضاءات الوضوح وهذا يتطلب وعيا جمعيا بذلك، أن نفهم خطر أن تكون كذابا. *** تخيل أن تكون الجثث المتعفنة، قادرة على التحليق بل أكثر من ذلك انها تغوي الناس وهي طائرة وتثير غرائزهم بالتسلط والبحث عن التفرد والمال والشهوات. لكن ذلك ممكن وواقعي، حتى أن الجثث لا تبدو قبيحة لمن يتأملها، أو ينظر إليها بشكل مباشر، فالجثة تعمل على استقطاب الناس وتحفيز شهواتهم نحو حب الحياة والتمتع بالنظر في أسرار الكون، ولا مانع لديهم من المخاطرة ودفع المال ليتم لهم مرادهم. قد تكون فكرة الجثة الطائرة، مستوحاة من قصة ماركيز المشهورة "أجمل رجل غريق في العالم".. هذا الرجل الذي يطير جثة في خاتمة الرحلة، بعد أن يمتع العيون بتأمله ويكحلها بالرغبة في اكتشاف ألغاز العالم.. هذا المشهد الفنتازي الذي يجعلنا ننظر إلى الحياة كما لو أنها فوضى من الجمال في مزيجه بالقبح، وحيث تتداخل صور الحرب النفسية، الأكاذيب، الأجساد المعبأة بالعفن، الرؤساء المفترسون، المساكين، كل ذلك مع أحلام الناس ورغبتها في بناء تمركزها في هذا الكون المتسع، الذي بإمكانه ان يستوعب الجميع، لكن "لا أحد يفكر" أو يتوقف لكي يؤمن بهذه الفكرة. ليس مطلقا. ولكن غالبا. إذا تأملنا في مدارات الكواكب في المجرات الكبيرة، ننتبه لمغزى أن يتحرك كل جرم بحريته، دون أن يصطدم بجرم آخر، أن يحمل كل جرم مغزاه ومركزيته الذاتية.. وعبرةٌ أن يضيء الكوكب بنور ذلك النجم القصي دون أن يكون هو مشعل للنور، هي خصائص الأجرام التي عرفت التآلف والوحدة والنسق الإلهي الرائع الذي طالما افتقده المشروع الإنساني. إن «كواكب الأرض»، غير ذلك فهي تعيش وسط حمى الصراع اليومية، الرغبة في صعود الدرجة، قد يكون هناك استثناء بيد ان جل الاستثناءات تسقط أحيانا عندما تحاول ان ترى نور ذاتها، متغافلة امكانية ان تهب هذا النور للآخرين. بهذا المعنى لا يكون الفن والإبداع الصادق قيمة للذات فحسب، بل هو قيمة للآخر الذي يرى من خلاله ذاته، وفق أبسط النظريات الإبداعية مثل «موت المؤلف» وهذه الأخيرة تذكرني بفكرة «موت النجوم»، لقد مات بعضها منذ ملايين السنوات لكننا نستمتع بها في الليالي الكالحة، ونفهم من خلالها حسابات الزمن ودولاب الليل والنهار، كذلك النجوم البشرية الحقة التي لا تموت بموتها فأن تموت يعني ألا تكون قادرا على انتاج معرفتك الجاذبة للكون، ان يتحول الكون إلى حالة نفي لك، تظن انك انت الذي خسرك الكون لكن الواقع يشهد ان الخسارة الحقيقية تتعلق بذاتك. سأبدأ من حيث انتهيت أو العكس ليس مهما ان انكسار الانسان وجرحه لا يعني خسارته للعالم، فالخسارة ان تتحول إلى جثة حتى لو توهمت أنك طائر، فالجثة حتى لو طارت فلن تظل صامدة لأن هناك قوانين ترفض صمود الاجسام الثقيلة ولأن نيوتن كان يجلس ذات يوم تحت شجرة فوقعت تفاحة، ان تقع تفاحة يعني ان تقع الجثة. فيا أيها الميت تعلم من سيرة الاحياء، وكما قال الشاعر وعبّر بمعنى بسيط: «إنما الميت ميت الاحياء» وما أبشع الموت في زماننا، ولعل المعنى الديني يجسد هذا المغزى عندما يقول بحياة (الشهيد)، هناك من يحيا وهو ميت وهناك من يموت وهو حي.. و"الناس نيام فإذا ما ماتوا انتبهوا". [email protected]