المريخ يختار ملعب بنينا لمبارياته الافريقية    تجمع قدامي لاعبي المريخ يصدر بيانا مهما    بالصور.. تعرف على معلومات هامة عن مدرب الهلال السوداني الجديد.. مسيرة متقلبة وامرأة مثيرة للجدل وفيروس أنهى مسيرته كلاعب.. خسر نهائي أبطال آسيا مع الهلال السعودي والترجي التونسي آخر محطاته التدريبية    شاهد بالفيديو.. بالموسيقى والأهازيج جماهير الهلال السوداني تخرج في استقبال مدرب الفريق الجديد بمطار بورتسودان    بالفيديو.. شاهد بالخطوات.. الطريقة الصحيحة لعمل وصنع "الجبنة" السودانية الشهيرة    شاهد بالصورة والفيديو.. سيدة سودانية تطلق "الزغاريد" وتبكي فرحاً بعد عودتها من مصر إلى منزلها ببحري    حادث مرورى بص سفرى وشاحنة يؤدى الى وفاة وإصابة عدد(36) مواطن    بالفيديو.. شاهد بالخطوات.. الطريقة الصحيحة لعمل وصنع "الجبنة" السودانية الشهيرة    رئيس الوزراء السوداني كامل إدريس يصل مطار القاهرة الدولي    شاهد.. الفنانة إيلاف عبد العزيز تفاجئ الجميع بعودتها من الإعتزال وتطلق أغنيتها الترند "أمانة أمانة"    شاهد بالفيديو.. بعد عودتهم لمباشرة الدراسة.. طلاب جامعة الخرطوم يتفاجأون بوجود "قرود" الجامعة ما زالت على قيد الحياة ومتابعون: (ما شاء الله مصنددين)    شاهد.. الفنانة إيلاف عبد العزيز تفاجئ الجميع بعودتها من الإعتزال وتطلق أغنيتها الترند "أمانة أمانة"    شاهد بالفيديو.. بعد عودتهم لمباشرة الدراسة.. طلاب جامعة الخرطوم يتفاجأون بوجود "قرود" الجامعة ما زالت على قيد الحياة ومتابعون: (ما شاء الله مصنددين)    الشهر الماضي ثالث أكثر شهور يوليو حرارة على الأرض    يؤدي إلى أزمة نفسية.. إليك ما يجب معرفته عن "ذهان الذكاء الاصطناعي"    عمر بخيت مديراً فنياً لنادي الفلاح عطبرة    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (روحوا عن القلوب)    الجمارك تُبيد (77) طنا من السلع المحظورة والمنتهية الصلاحية ببورتسودان    لماذا اختار الأميركيون هيروشيما بالذات بعد قرار قصف اليابان؟    12 يومًا تحسم أزمة ريال مدريد    الدعم السريع: الخروج من الفاشر متاح    البرهان يتفقد مقر متحف السودان القومي    التفاصيل الكاملة لإيقاف الرحلات الجوية بين الإمارات وبورتسودان    بيان من سلطة الطيران المدني بالسودان حول تعليق الرحلات الجوية بين السودان والإمارات    الطوف المشترك لمحلية أمدرمان يقوم بحملة إزالة واسعة للمخالفات    السودان يتصدر العالم في البطالة: 62% من شعبنا بلا عمل!    نجوم الدوري الإنجليزي في "سباق عاطفي" للفوز بقلب نجمة هوليوود    يامال يثير الجدل مجدداً مع مغنية أرجنتينية    رواندا تتوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة لاستقبال ما يصل إلى 250 مهاجرًا    تقارير تكشف خسائر مشغلّي خدمات الاتصالات في السودان    توجيه الاتهام إلى 16 من قادة المليشيا المتمردة في قضية مقتل والي غرب دارفور السابق خميس ابكر    السودان..وزير يرحب بمبادرة لحزب شهير    ريال مدريد الجديد.. من الغالاكتيكوس إلى أصغر قائمة في القرن ال 21    السودان.."الشبكة المتخصّصة" في قبضة السلطات    مسؤول سوداني يردّ على"شائعة" بشأن اتّفاقية سعودية    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الخيار الفيدرالى فى التجربة السودانية (٢)
نشر في الراكوبة يوم 02 - 05 - 2015


أزمة الديقراطية وبناء الدولة:
الخيار الفيدرالى فى التجربة السودانية (2)
ألن يصبحُ الأمر أكثر بساطة
لو قامت الحكومة بحل الشعب
وأنتخبت شعبا آخر؟
من قصيدة "الحل" ('Die Lösung') لبرتولت بريخت (1953)
خلُصت الدراسة فى الحلقة السابقة ٳلى أن أهم افرازات الحوار الأفريقى حول التحول الديمقراطى خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضى تعلقت لحد كبير بكيفية تحقيق التعددية الديمقراطية الليبرالية من دون اثارة أو تعميق المتناقضات الكامنة فى طبيعة التعددية الإثنية الثقافية، وأن الرؤى المتعددة فى هذا المجال تراوحت من اصلاح جذرى لتركيبة نظام الحزب الواحد ٳلى تفضيل لصيغة مناسبة من نشر السلطة فى حكم ذاتى اقليمى أو نمط فيدرالى أو كونفيدرالى إلى القبول بخيار أو حتمية الإنفصال. وأشارت الدراسة الى أنه وعلى الرغم من أن تجربة السودان ٳنتهت، بعد محاولات فاشلة فى الحكم الذاتى الإقليمى والفيدرالى الاتحادى، ٳلى انفصال الجنوب إلا ان الانفصال فى حد ذاته لا يعنى ٳفراغ مضمون المبدأ الفيدرالى من أهميته لأى تصور مستقبلى لنظام الحكم فى السودان بل أن استنباط الدروس والعبر من الفشل والاخفاقات التى أدت اليه قد اضحت أكثر أهمية وأشد ضرورة لتجنب المزيد من التمزق والٳنهيارالوطنى. فمنذ الإستقلال ظلت الممارسة السياسية تتأرجح داخل حلقة مفرغة من تدوال وتناوب الحكم المدنى والعسكرى حتى توقف بنا الزمن منذ أكثر من ربع القرن فى حكم شمولى تنّفذ لكل مفاصل الدولة مما يجعل قضية التحول الديمقراطى الآن أشد إلحاحا وٳن أضحت أكثر تعقيدا.
وتهتم هذه الحلقة الثانية من الدراسة بتحليل التعريفات المتباينة لمفهوم الفيدرالية وإرتباطها وإختلافها مع مصطلحات أخرى، وتحدد العوامل الموائمة لإنماء الرغبة فى النظام الفيدرالى بالذات ولتوفير المقدرة السياسية والمادية على إدارته. وليس الغرض من تقديم هذا العرض التعريفى وصف التركيبة الهيكلية والتنظيمية لنمط فيدرالى معين وإنما هى محاولة لإلقاء الضوء على مدى ملاءمة المبدأ الفيدرالى من منظور علمى فى حل مشاكل التحول الديمقراطى فى بلد متنوع الأعراق والبيئات والأديان.
المبدأ الفيدرالى وبعض الفرضيات النظرية:
يندر إستعمال تعبير الفيدرالية (Federalism) فى السياسة بدرجة من الوضوح والتمييز تُمٙكّنُ من الإتفاق على ما تٙعْنِيهِ الكلمة تٙمامٙاﹰ. ولعل وِليمْ لِيفِجستُونْ (William S. Livingstone) قد جسدٙ فى آن، غموض التعبير وعموميته، فى تعريفه اللاتعريفى حين قال: "الفيدرالية هى ما يتحدث عنه علماء السياسة عندما يتحدثون عن الفيدرالية". وفى بعض الأحيان يُستعمل المصطلح بمعنى "الإقليمية" (Regionalism) أو "نشر السلطة" (Devolution of Power) أو اللامركزية (Decentralization) بشكل عام. ومع التشابه والتطابق فى الكثير من الوظائف وشكل التنظيم إلا أن هذه المفاهيم تصف عادة علاقات السلطة فى "الدولة المُوحدةْ" (Unitary State)، وتفترض وجود مصدر أساسى للسلطة فى المركز يقوم بنشر أو تفويض (Delegation) أو نقل السلطة إلى الأطراف، وغالبا ما يملك المقدرة على إسترجاعها. وبالمقابل فإن مفهوم "الكونفيدراليةْ" (Confederation) يصف وضعا مغايرا لعلاقات السلطة إذ يفترض المفهوم تواجد المصدر الأساسى للسلطة فى الأطراف ويُعٙوِلُ المركز على ما تُخولهُ فى ممارسته للسلطة القومية.
ويمكن القول أن مفهوم الفيدرالية يتخذ فى مجمله موقعاﹰ وسطاﹰ بين الدولة المُوحدةْ والكونفيدراليةْ. فالمبدأ الفيدرالى يعنى بصفة عامة تقسيم السُلطة بين مستويات ذاتية ومختلفة من الحكم بحيث يكون للحكومة المركزية (أوالقومية) وحكومات الأقاليم (أوالولايات) سلطات معينة ومحددة، كل فى دائرة إختصاصها. ويأخذ واير (K. C. Wheare) دستور الولايات المتحدة الأمريكية كمثال كلاسيكى للفيدرالية فيقول: "ان النظام الفيدرالى يتواجد حين تكون سلطات الحكم للمجموعة من الأفراد والأقاليم مقسمة على أساس وجود سلطة مركزية مستقلة للمجموعات ككل فى بعض الأمور وسلطات إقليمية مستقلة فى أمور أخرى، وتعمل كل من هذه السلطات فى مجالها المحدد بالتنسيق مع السلطات الأخرى وليس بالتبعية لأى منها". ويخضع المواطنون لكل مستويات السلطة ويتم التعامل مع كل منها بطريق مباشر .
ونلاحظ أن هذا التعريف يركز على "الفيدرالية الثنائية" (Dual Federalism) المرتكزة على التعددية الدستورية مما يثير بعض التساؤلات حول مدى إستقلالية مستويات الحكم وحقيقة الفصل بين السلطات. فيرى فايل (M. J. Vile) أنه مع التسليم بأن تعريف "واير" يقدم تصورا سليما لماهية الفيدرالية الأمريكية فى القرن التاسع عشر، إلا أن نهجا معقدا ومختلفا لنشاطات الحكم قد برز وتطور منذ ذلك الحين: "فأكثر ما يميز الفيدرالية الأمريكية الحديثة الإعتماد المتبادل (interdependence) فى علاقات الحكومة المركزية وحكومات الولايات مما يجعل إدارة الحكم توافقا فى السلطات (power concurrence) أكثر من أى شئ آخر".
ويعطى ريجان وسانزون (M. T. Reagan and J. G. Sanzone) بعدا آخرا لمبدأ توافق السلطات هذا بإفتراضهما أن الفدرالية بمفهومها القديم قد انتهت لأنها تصف "حالة جمود" وتعبر عن "لاعلاقة"، فالطبيعة النشطة والمتشعبة للحكم الحديث لا يمكن تفسيرها فقط بالرجوع إلى الأوضاع الدستورية والقانونية لمستويات الحكم المختلفة وإنما بالنظر إلى علاقات العمل الفعلية بينها. وتقوم فكرة الفيدرالية الجديدة التى يتحدثان عنها على تصور علاقات متداخلة فى الحكم تظل فى حالة دائمة من التغير والتجدد إستجابة للمتغيرات السياسية والإقتصادية والإجتماعية فى المجتمع. فأهمية الفدرالية هنا تكمن فى كونها محددا للسياسة (policy determinant) لا كونها نظاماﹰ سياسياﹰ، بمعنى أن التأثير المتبادل بين التوسع المُطرِد للنشاط الحكومى من جهة والعلاقات الهيكلية لمستويات الحكم من جهة أخرى يصب عادة فى حيز تعاظم الدور الفيدرالى (مثلا الدور المتعاظم لرئاسة الجمهورية فى الولايات المتحدة فى مجال السياسة الخارجية كابرام المعاهدات الدولية واعلان الحرب وللحكومة الفيدرالية فى كفالة الحقوق المدنية للأقليات والتأمين الاجتماعى والعناية الصحية وحماية البئية ودعم التعليم وبدلات العطالة الخ). ولكن الفيدرالية الجديدة لا تعنى بروز "أخطبوط فيدرالى" لأن التركيز فيها لا يهتم بماهية الحكم بقدر إهتمامه بما يمكن أن تفعله الحكومات فى مستواياتها المختلفة فى علاقة إيجابية متعددة الأوجه تجاه العمل المشترك. ويدعو ريجان وسانزون إلى ما يسمياه "فيدرالية السماح" (Permissive Federalism) وتعنى "نظام من الوظائف المشتركة والسلطة المشتركة تحت القيادة الفيدرالية وفى إطار أية أولويات يتوصل إليها وفاق قومى". ويمكن لمثل هذا النظام فى تقديرهما تقوية الحكم القومى بأن "يسمح بتحديد أوضح لأهداف السياسة والبرامج ويفسح المجال فى نفس الوقت للمُدٙخلات الإقليمية والمحلية لتوفر التفاصيل اللازمة لتنفيذها". (قد يكون أقرب مثال لهذا النوع من "فيدرالية السماح" هو قانون "حماية المرضى وتامين الرعاية الصحية للجميع"، ويعرف أيضا باسم (ObamaCare) الذى أجازه الكونجرس فى مارس ۲۰۱۰ ويعتمد فى تنفيذه على أن تقيم الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات أسواقا (exchanges) للتأمين الصحى تجعله متاحا للغالبية العظمى من المواطنين. هذا المثال نفسه يمثل محدودية "فيدرالية السماح" فقد تم رفض المشاركة فى هذا القانون الفيدرالى بغرض افشاله من جانب بعض الولايات التى يسيطر على حكوماتها ومجالسها التشريعية الحزب الجمهورى المعادى للبرامج والتوجهات السياسية للرئيس اوباما والحزب الديمقراطى).
وقد تكون الفيدرالية بمفهومها القديم قد ماتت فى الولايات المتحدة الأمريكية كما يدعى ريجان وسانزون، ولكن المقولة بأن التباين فى المجتمع قد تم "تأميمه" لا تسندها حقيقة الاستقطاب العنصرى والإجتماعى وحتى الجندري الراهن فى المجتمع الأمريكى والذى يتمثل فى قضايا خلافية مثل حق المساواة وحق المراة فى الإجهاض وحق المثليين فى الزواج وإصلاح قوانين الهجرة وحتى حقيقة وأسباب التٙغير المناخى. وقد يكون ما تصفه الفيدرالية الجديدة هو فى حقيقته توجه نحو إقليمية الدولة الموحدة أكثر مما هو تطور لفدرالية الدولة الإتحادية. وحتى الحديث عن "موت" الفدرالية القديمة قد يكون سابقا لأوانه لأن كيفية بعثها من جديد لا تزال تشكل الخطاب السياسى لقوى سياسية لها وزنها فى النظام والرأى العام الأمريكى حيث يستمر التداول والنقاش فى اطروحات الأحزاب السياسية وفى اجهزة الإعلام عن زيادة او نقصان "حقوق الولايات" (States' Rights) وتوسيع أو"تقليص" (downsizing) دور وسلطات الحكومة الفيدرالية.
ولعل النقطة المهمة فى هذا الصدد هى ملاءمة النظام الفيدرالى لدول العالم الثالث التى تسعى لتحقيق الوحدة مع التباين فقد تجد بعضها أن النقطة التى بدأ منها مسار الفيدرالية الامريكية هى الأقرب تشابها مع ظروفها وإحتياجاتها من النقطة التى وصل إليها هذا المسار حاليا. فشأن الفيدرالية، كلاسيكية كانت أم حديثة، هو حل أو محاولة حل مشكلة التنظيم السياسى، وليست فى حد ذاتها نظاما مثاليا أو سهل الإدارة. فهى معقدة التظيم ومتعاظمة التكلفة، وقد ينطبق عليها وصف الديمقراطية ذاتها بأنها "أسوأ أنظمة الحكم بعد إستثناء أى نظام آخر".
ويمكن من تعاريف المفاهيم الفيدرالية المتعددة إستنباط الأوضاع والظروف التى تشجع التوجه نحو الخيار الفيدرالى وتحديدها فى عاملين أساسين: أولا، توفر الرغبة لدى المجموعات المعنية فى هذا النظام بالذات تفضيلا على ما سواه من أنظمة الدولة الموحدة او الكونفيدرالية أو المنفصلة تماما، وثانيا توفر المقدرة لديها على إدارته.
وتتعدد الظروف التى تولد الرغبة فى الإتحاد الفيدرالى، فمنها الشعور بعدم الأمن العسكرى، والحاجة لتحقيق أهداف سياسية أو فائدة إقتصادية من خلال الإتحاد. وقد تنبع الرغبة من تجربة التعايش فى الماضى كإتحاد كونفيدرالى أو كجزء من أراضى مستعمرة واحدة. ومن العوامل المساعدة أيضا التواصل الجغرافى للمجموعات المعنية أو إتساع رقعة أراضيها أو تكامل مصادرها الإقتصادية أو تشابه أنظمتها السياسية. ولا يعتبر بعض الباحثين وحدة اللغة أو العرق أو الدين أو القومية عوامل مهمة بالضرورة فى إنماء الرغبة فى الإتحاد الفيدرالى، ففى بعض الحالات (مثل كندا وسويسرا) قد تتبلور الرغبة فى الإتحاد بالرغم من هذا التباين، وأحيانا قد تكون بسسبه. ولكن يمكن القول بأن هناك حدا معينا يصبح التباين بعده عائقا لتنامى الرغبة فى الإتحاد. وتعتمد كل هذه العوامل فى نجاحها على مقدرة وحكمة القيادات السياسية فى التعبير عنها وتجسيدها لعامة المجموعات المعنية.
وتشكل الرغبة فى الإتحاد حينما تتنامى، وفى حد ذاتها، الحافز الضرورى لتوفير القدرة على إدارته. فجوهر الفيدرالية لا يكمن فقط فى التنظيم الهيكلى والفصل الدستورى للسلطات، مع أهميتهما، بل فى تنامى التفاعل المجتمعى بحيث يطغى الشعور بالإنتماء القومى على كل الإنتماءت الاخرى من غير أن يكون بديلا لأى منها. كما يرتبط جذريا بمفهوم الشرعية الذى يشكل فى علم السياسة مرتكزا أساسيا فى دراسة العديد من المسائل التى ترتبط ببناء الدولة الحديثة كقضايا التحول الديمقراطى والمساواة والسلطة واصول تطبيقها. وقضية الشرعية تثير فى حد ذاتها عدة أسئلة عن جوهرها وتحديد مفهومها ذات صلة بالمقدرة على إدارة نظام الحكم. هل تعد الثورية مصدرا للشرعية أم عاملا لهدمها؟ وهل هناك تناقض أو خلط فى الربط بين "الشرعية" و"القانونية" و"الفعالية والكفاءة"؟وماهو الحد الفاصل بين الشرعية و"القانونية الشكلية"؟
يقول ماكس ڤيبر(Max Weber) "ان النظام الحاكم يكتسب شرعيته من شعور الرعية بأحقيته وجدارته فى الحكم وأنه من دون الشرعية يصعب على أى نظام حاكم أن يملك القدرة الضرورية لإدارة الصراع (Conflict management) بالدرجة اللازمة فى المدى الطويل". ويمكن أخذ هذا التعريف الكلاسيكى بصفة عامة لتحديد مدى ملاءمته لأنماط من الشرعية ذات مصادرمتعددة "تقليدية" كانت أو"ثورية-إيديلوجية" (التعبئة الفكرية والعقائدية للجماهير) أو"عقلانية-قانونية" (ويعنى بها ڤيبر "الشرعية المبنية على قواعد مقننة تحدد واجبات الحاكم وممارسة السلطة وانتقالها، وتقنين حقوق وواجبات المحكومين فى علاقتهم بالسلطة").
وقد يرى البعض أن الشرعية لا ترتبط بالضرورة بالفعالية والكفاءة كعناصر تبريرية لاستمرار الحكم او اضفاء الشرعية عليه فقد لا تتطابق الفعالية مع مصالح الشعب وقد توظف الكفاءة فى الدفاع عن حكم صفوى او فئوى او فردى. ولكن يمكن بالمقابل الدفع بأن عدم الكفاءة وفقدان الفعالية قد يقود الى تضاؤل شرعية النظام وإن كان النظام قد بدأ أصلا بهذه الشرعية. ومفهوم الشرعية هذا يقع فى خط اللقاء بين الحاكم والمحكومين والذى يرى فيه بعض الباحثين عدم الخلط بين الشرعية والقانونية الشكلية لأن الشرعية "فى مجال فلسفة السياسة والحكم أوسع من ذلك واعمق فى معناهاومغزاها. فالقوانين قد تستن بمعزل عن الشعب وقيمه ومصالحه، وقد تصبح هى نفسها عرضة للخرق المتوصل ممن يفترض أن يكونوا حماتها..فجوهر الشرعية ومغزاها لا يمكن الإستعاضة عنه باشكال السطوة والرهبة حتى لو تسترت خلف القوانين المكتوبة واحطات نفسها بالدساتير المعلنة" (أحمد بهاء الدين). ولكن بالمقابل فإن تقنين الشرعية يكتسب أهميته من كونه المؤشر الحقيقى لتضاؤل الشرعية أو فقدانها فى الحالات التى لا تتطابق فيها الدستورية-القانونية والممارسة الفعلية للسلطة، بمعنى أن هنالك تناقضا بين "النظرية" و"التطبيق" فى تجاوز السلطة الحاكمة لحدود شرعيتها، فوجود القانونية حتى ولو كانت شكلية يوضح كيفية وكمية هذا التجاوز.
وإذا كانت مصادر الشرعية فى علم السياسة تتعدد افقيا فإنها تتفرع كذلك رأسيا، بمعنى أن هنالك الشرعية التى يستمد منها المركز سلطته والشرعية التى يضفيها على الاطراف سواء كانت سلطة تقوم على التفويض او اللامركزية او الفيدرالية والتى يتعين تحديدها بأحكام دستورية مقننة. فاذا كانت شرعية السلطة المركزية شكلية فان نشرالسلطة رأسيا يصبح بالضرورة ممارسة غير شرعية. فإنتفاء الشرعية ينسحب أيضا على من فُوض لهم ممارستها. فتحت حكم الحزب الواحد مثلا، ومهما أدعى من مصادر الشرعية، لا يمكن التحدث عن نظام فيدرالى للاقاليم فيه سلطات مستقلة ما دام يسيطر عليها فروع من الحزب الواحد الحاكم تمتثل لقيادته المركزية. ولا يخفى من التجربة العملية فى العديد من بلدان العالم الثالث أن التفويض باشكاله المختلفة لخلق أنماط شكلية من لامركزية الحكم، كثيرا ما يفتقر ٳلى أصوله المرغوبة ويصبح وسيلة مقنعة لاضفاء الشرعية لمجرد تكريس السلطة. وكثيرا ما نجد أن هذه الممارسة تقود إلى تفضيل أهل "الولاء" على "أصحاب الخبرة" من خلال سياسات التمكين فأهل الولاء لهم مصلحة ذاتية فى استمرارية الحكم ويقومون بالدور الأساسى فى تبرير وتلفيق وفرض وسائل شرعيتها من خلال مؤسسات الدولة الهيكلية فى المركز والأقاليم أو الولايات. وفى هذه الحالة يكون الهم الأول والمنطلق الأساسى للطغمة الحاكمة هو البقاء فى السلطة رغم انتفاء الشرعية وذلك عن طريق ارهاب وقمع الجماهير وتخويفها من البدائل المنافسة وتضخيم المنجزات وافتعال الأزمات داخلية كانت ام خارجية لتبرير التقاعس والفشل. ويمكن القول أن الممارسة السياسية فى هذا الشأن تقع فى نطاق ما يسمى بمسائل "تلفيق الشرعية" والتى تتمدد تلقائيا من ممارسة السلطة فى المركز ٳلى نشرها فى الأطراف.
الحلقة القادمة: الوعد الفيدرالى فى المسار التاريخى للسودان
القاهرة
الجمعة 1 مايو 2015


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.