لم يعد السؤال بشأن ما إذا كان الاستفتاء المقبل في السودان والمقرر اجراؤه في نهاية العام الجاري، سوف يؤدي إلى انفصال الجنوب عن الشمال. ولكن السؤال هو: ماذا بعد الانفصال؟ إن أسوأ جواب محتمل على هذا السؤال هو انفجار الحرب الأهلية من جديد. وأخطر ما في هذا الجواب السيئ هو ان تأخذ الحرب بعداً طائفياً على قاعدة الشمال المسلم والجنوب المسيحي. وإذا ما علمنا أن ثمة مواطنين مسلمين ومسيحيين يعيشون في كل من الشمال والجنوب، يمكن أن نتصور السيناريو المدمر لهذه الحرب إذا ما وقعت لا سمح الله. ولا يقل خطورة عن البعد الطائفي لانفجار الحرب، البعد العنصري. فالصورة العامة للسودان تقول ان الشمال عربي والجنوب أفريقي. وهذا يعني ان الحرب الأهلية قد تتحول إلى حرب عنصرية أيضاً. وعندما يجتمع العاملان العربي الإسلامي من جهة، والأفريقي المسيحي من جهة ثانية، نستطيع أن نتصور التداعيات المدمرة لهذا الصراع على امتداد أفريقيا والشرق الأوسط. وربما تذهب التداعيات إلى أبعد من ذلك. من هنا فان ما قد يقع في السودان من شأنه أن يشعل القارة الأفريقية كلها. وأن يمتد لهيبه إلى مناطق عديدة أخرى تقف الآن مترنحة على حافة الانقسام أيضاً. فالانقسام بين شمال السودان وجنوبه وإن تم تحت مظلة الاستفتاء الديمقراطي، فإنه يعيد رسم خريطة السودان، أكبر دولة في أفريقيا من حيث المساحة وأغناها تنوعاً من حيث تعدد الأديان والمعتقدات واللغات والثقافات والقبائل. ومن شأن ذلك أن يؤدي إلى فتح "صندوق باندورا" الأفريقي على كل مفاجآت التقسيم والانقسام. ولعل أكثر الدول الأفريقية تأثراً بنتائج الانقسام في السودان ستكون نيجيريا حيث تتفاعل فيها بصورة سلبية الصراعات بين الشمال بأكثريته الإسلامية والجنوب بأكثريته المسيحية. ولكن لماذا يواجه السودان خطر حتمية الانقسام؟ للإجابة على هذا السؤال، لا بد من العودة إلى اتفاق مايو 2004 والذي وقّعت عليه في يناير 2005، كل من الحكومة السودانية والحركة الشعبية. في ذلك الوقت بدت المنطقة الفاصلة بين الشمال والجنوب وهي "منطقة أبيي" معرّضة لأن تكون إما جسراً يجمع أو خندقاً يفصل بين الجانبين. وتمتاز هذه المنطقة ليس فقط بموقعها الجغرافي على امتداد الحدود، ولكنها تمتاز بثروتها الزراعية والمائية، وفوق ذلك بثروتها النفطية. ولذلك كان طبيعياً أن يسيل لها لعاب الطرفين. ثم ان سكانها يتميزون بالاختلاط بين الأفارقة والعرب، ومنهم من يدين بالإسلام أو بالمسيحية أو الأرواحية الأفريقية. وكانت هذه المنطقة جزءاً من اقليم بحر الغزال في السابق، إلا ان الاستعمار البريطاني ضمّها إلى اقليم كردفان في عام 1905. ومن هذه الخلفية ينطلق الخلاف حول ما إذا كانت أبيي الآن جزءاً من الشمال أو من الجنوب. ولذلك تشبه إقليم كشمير الذي زرعه الاستعمار البريطاني كإسفين بين الهند والباكستان. ولا شك في أن الثروة النفطية تلعب الآن دوراً أساسياً في إشعال الصراع بين الشمال والجنوب. فكلاهما يشكو من الفقر. وكلاهما ينظر إلى نفط أبيي على انه المورد العذب الذي يمكن الاعتماد عليه في المستقبل. ولذلك فانه يخشى أن تتحول الثروة النفطية التي بدأ استثمارها منذ سنوات قليلة من نعمة إلى نقمة. حمل الخلاف حول تبعية أبيي كلاً من الشمال والجنوب إلى محكمة العدل الدولية. فحددت المحكمة حدود المنطقة والسيادة عليها بشكل غامض. إذ قضى الحكم بمنح القبائل العربية "المسيرية" حق الرعي فيها، وحق الاقامة والتنقل في المناطق ذاتها التي توجد فيها آبار النفط. وفهمت السودان ان الحكم يعطيها حق السيادة عليها. وهو ما ينكره عليها الجنوبيون. فقد فسر هؤلاء بدورهم حكم المحكمة بأنه أعطاهم الأرض وما تحتها، أي النفط.. وأعطى العرب (الشمال) الأرض وما فوقها، أي الرعي والزراعة. ومن الواضح انه لو كانت منطقة أبيي مثل سائر المناطق السودانية الأخرى ( أي من دون نفط) لما وقعت المشكلة، ولما وجد الشمال والجنوب نفسيهما على شفير حافة الحرب الأهلية مرة أخرى. تقدر عائدات أبيي من النفط بحوالي 600 مليون دولار في العام. إلا أن هذه العائدات قابلة للزيادة بنسبة كبيرة في المستقبل القريب. وبموجب عقود الاستثمار تحصل الحكومة السودانية على نصف هذه العائدات وتحصل حكومة جنوب السودان على 42 بالمائة، وتوزع نسبة ال 8 بالمائة الباقية على أربع جهات إقليمية يفترض ان تنفقها في مشاريع التنمية المحلية.. واسترضاء القبائل. وإذا ما اعتبرت أبيي جزءاً من الجنوب، وإذا ما انفصل الجنوب عن الشمال، فان معنى ذلك انقطاع هذه العائدات عن الشمال وتضخيم عائدات الجنوب. وهذا وحده كاف لإثارة المتاعب والمخاوف على مصير العلاقات بين الجانبين. من هنا طرح السؤال التالي: هل تمنح أبيي وضعاً خاصاً بحيث لا تكون لا جزءاً من الشمال ولا جزءاً من الجنوب، بل منطقة مختلطة بين الأفارقة والعرب، وبين المسلمين والمسيحيين والأرواحيين، وتتمتع بإدارة ذاتية منفتحة على الشمال والجنوب معاً ؟ غير ان السؤال لم يجد قبولاً. فكل من الشمال والجنوب يريد أبيي ونفطها.. الأمر الذي يوحي بأن السودان يسير نحو الصدام. ولتجنب هذا المصير المقلق، طرحت مبادرات سياسية عربية وأميركية تدعو إلى تأجيل الاستفتاء، ولو لفترة قصيرة توفر فرصة للبحث عن صيغة لتقرير مصير أبيي ونفطها بما يرضي الشمال والجنوب معاً. فهل تحدث المعجزة ؟ لقد ترك البريطانيون مشكلة أبيي بين شمال السودان وجنوبه. وتركوا مشكلة قبرص بين تركيا واليونان. وتركوا مشكلة كشمير بين الهند والباكستان. وتركوا مشكلة الجزر العربية الثلاث في الخليج العربي بين إيران والإمارات المتحدة. ولا تزال كل هذه المشاكل عالقة حتى اليوم.. الأمر الذي لا يوحي بأن أبيي سوف تكون استثناء!! محمد السمّاك