الدعم السريع يعلن السيطرة على النهود    وزير التربية والتعليم بالشمالية يقدم التهنئة للطالبة اسراء اول الشهادة السودانية بمنطقة تنقاسي    سقطت مدينة النهود .. استباحتها مليشيات وعصابات التمرد    عقار: بعض العاملين مع الوزراء في بورتسودان اشتروا شقق في القاهرة وتركيا    عقوبة في نواكشوط… وصفعات في الداخل!    الهلال يواجه اسنيم في لقاء مؤجل    تكوين روابط محبي ومشجعي هلال كوستي بالخارج    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    سلسلة تقارير .. جامعة ابن سينا .. حينما يتحول التعليم إلى سلعة للسمسرة    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أنا الحق... الحسين بن منصور الحلاج
نشر في الراكوبة يوم 25 - 05 - 2015


سلسلة أقطاب التصوف: مهدأة إلى الأخ
المعلق المثقف المستنير (ود البقعة)، وهو من
الأقلام التي لعبت دوراً كبيراً في تصويب الكثير
من المواضيع في صحيفة الراكوبة الغراء، ونحن
نتعلم دوماً منها.. له المحبة والتقدير.
*( ليست القوة هي الحق.. ولكن الحق هو قوة..).
- غاندي-
.. مما لا شكَ فيه أنَ المتصوفة قدموا للفكر العربي الإسلامي وللإنسان في العالم، قيماً إنسانية كبيرة، تشكل في تطورها الزمني غاية ً قصوى يتمثلها الإنسان على الأرض، وتسعى به إلى الأجمل والأشمل والأكثر معرفة ً ووعياً. وقد أدّى المتصوفة رسالتهم الفكرية في الوقت الذي كانَ فيه الخللُ السياسي والاقتصادي والاجتماعي سائداً في المجتمع العربي، وتمكنوا من نشر دعوتهم النبيلة في كل بقاع الأرض.
ولم تتوقف حركة التطور والتغيير في المجتمع العربي حتى في المراحل التي سادها التحلل والضمور، وإن النشاط الذهني كان حافزاً لنمو نمطٍ جديد من الأفكار الشمولية في المجتمع. من ذلكَ نرى، أن نشاط الفكر العقلي - الفلسفي، سمة ً فاعلة ً في الحياة الفكرية العربية. وإنهُ عبر اندماجهِ بالقيم الإسلامية، وصلَ إلى مراحل متقدمة، تطورت فيها أساليب الإدراك من الحدسي والبسيط والعاطفي والانفعالي، إلى الفكري والمتعمق والماورائي... أي إلى ما وراء القراءة الشكلانية للواقع، فكانَ التصوف هو نتاج ذلك النشاط والبديل الفكري الفلسفي في المجتمع العربي.
سيرة التصوف:
استمرَ التصوف بمعناه الأولى، فاعلاً في كيان المجتمع العربي عبرَ مرحلة البداوة والزراعة، وكان مرتبطاً من الناحية التعبيرية بالمناسبات الدينية والمهرجانات العامة، حتى باتت رياضة الانفعالات ومخاطبة المخفي ظواهر منتشرة في حياة العرب الجاهلية.
والتصوف، نظام تديني موغل في القدم، وُجدَ في قريش واليمن قبلَ ظهور الإسلام بزمن ٍ كبير، وهو تحتَ الاسم نفسه والغاية والطرق التي تقوم على الزهد والتنسك وتقديم القرابين في خدمةِ الكعبة والأصنام. يقال عن أصل التصوف ارتباطهُ بحادثة رجل يلقب ب(صوفة) وهو (الغوث بن مر) الذي نذرتهُ أمهُ للكعبة، وقالت: صار ابني صوفة، وأصبحَ لاحقاً الجد الأول لقوم صوفة، ارتبط اسمهم بالوظائف السنوية في مناسكِ الحج وخدمةِ الكعبة. ومن هنا تبدو علاقة الاسم بالصفة الدينية المرتبطة بالآلهة. والتصوف، من جهة ما، هو إعادة لما سبق أن قامَ بهِ إبراهيم في فدائه لابنهِ إسماعيل... بل إن الصوفي يذهب إلى أبعد من ذلك في تماهيه بجعل نفسهِ الضحية ذاتها وبتقديم نفسهِ ذبيحة.
ويرى الصوفي خلودُ باعتبارهِ الفدية والضحية ورمز القداسة. وعموماً تتفق أغلب المصادر على أن أصل كلمة (التصوف) يعني صفاء القلب، أو من كلمة (سوفيا) وهي مفردة يونانية تعني الحكمة. وفي العربية القديمة تعني كلمة (صوفي): الكاهن - النبي- الحكيم - حارس المعبد. أما في الأصل اليوناني فتعني الناس الذين يشتغلون بالفلسفة والفلك والعلوم الخفية.
يصف ابن خلدون لغة المتصوفة، فيقول: (إنها ألفاظ موهمة في ظاهرها، لكنها كلامٌ في الكشفِ عن الحقيقة وعوالم الغيب... وهي تصرفاتٌ في عوالم الكون ِ وأنواع الكرامات ينطق بها أئمة القوم).
فمنْ هو الصوفي إذن؟
هو الذي آثر على كل شيء، فآثرهُ على كل شيء... والصوفي، هو أن لا تملك شيئاً ولا يملكك شيء.
الدور التاريخي للمتصوفة:
قدمَ المتصوفة معرفياً لتاريخ الثقافة العربية - الإسلامية رسالة بالغة، عميقة، وأفكاراً شمولية، إنسانية، تدعو إلى احترام ذات الإنسان وتطلعاته. وكان لسلوك المتصوفة قدوة في ممارسة الأفكار المتسامحة النبيلة. إذ كانَ لهم دورٌ نقدي فاعل داخل حركة المجتمع وذات الإنسان في الوقت نفسه. وكان للعديدِ منهم دور بارز في إيضاح إشكالية العلاقة بين الدين والدولة، وفي علاقة السلطة بالمجتمع، وأثروا في مواضيع اللغة وفن الشعر، وفي تحديد مفاهيم الشكل والمضمون المتحرر والمنغلق، المألوف والجواني، حتى أصبحَ هذا المذهب الإنساني الشامل، رؤية ً عربية خاصة في علم الجمال، تُمثل أرقى أنواع الفنون الحسية والجمالية التعبيرية. فالشعراء المتصوفة همْ من أعطى مفاهيم القلق الذاتي والمعاناة، هذه الطاقة التأملية الكبيرة في البحث، ومحاولة إدراك المطلق، ووصفْ ما لا يوصف، وقول ما لا يقال، وفعل ما لا يُفعل. وبحثوا في وظيفة اللاوعي، وطرحوا عبرَ أسئلتهم المتعمقة كل ما يتعلق بمعنى الإنسان من مفاهيم تعبيرية وذهنية مستحدثة في مفهوم البنية الثقافية والاجتماعية عربياً وعالمياً. إذ ركزوا على أن المعرفة في الإسلام مرتبطة بالعقل ِ والتفكير.
ومن هنا يبدو أنَ نشاط الفكر العقلي في الحضارة العربية الإسلامية متصل بمنابع الإسلام الأولى، وعليهِ كانَ نشاط الوعي النظري عند المتصوفة متأتياً من المحاكمة الداخلية في تمييز المعاني، وفي البحث عن معنى موقع الكلي، والجزئي من الكلي، عبر حركة متواصلة وتمييز وتجزئة وموازنة... وتقديم إحداهما على الأخرى، وهكذا... تتراتب رؤية الإنسان واستدلالاتهُ بحكم النفس وحكم العقل. وقد أقر فلاسفة الفكر العربي الإسلامي (الفارابي - ابن سينا - ابن رشد) بوجود الكلي كونهُ شارحاً لحقائق الأشياء وماهيتها، بوضع مبحث الكليات على أساس أنها تقع في جواب (ما هو؟) أي أنها تقعُ في صلب التعريف بماهية الشيء وحقيقته.
المتصوفة هم فلاسفة الروح المتفانية في محبة الله، وهم يرون أن الأديان هي طرق متعددة إلى غاية واحدة، مهما اختلفت الأسماء والأزمان والديانات، قانونهم المحبة وإنكار الذات، ولا خضوعَ إلا لله ومن هنا شاع غضبُ الولاة والسلاطين منهم، ورأوا في ذلك تهديداً لسلطتهمْ ونفوذهمْ. فأخذَ الفقهاء على عاتقهم موقفَ العداء للمتصوفة وللفلاسفة وللمناطقة، انطلاقاً من مواقعهم الدينية والاجتماعية. وقد وصلت موجة الاضطهاد إلى كل المشتغلين في منطق الفلسفة. وكان أشهرهم وأعظمهم تأثيراً في الرأي العام الديني أبو حامد الغزالي، الذي ظل فكرهُ يرهب الفلاسفة لأجيال متلاحقة، وقد شملَ كلَّ قطرٍ ينبضُ فيهِ الفكر العربي الإسلامي في المشرق والمغرب، حتى قال يوسف بن طملوس الأندلسي: (رأيتُ صناعة المنطق مرفوضة ً عندهم، مطروحة ً لديهم، ولا يُحفلُ بها، ولا يُلتفت إليها. وزيادة على هذا إن أهلَ زماننا ينفرونَ منها، ويرمونَ العالم بها بالبدعة والزندقة).
الطرق الصوفية: مَنْ لمْ يقفْ على إشاراتنا، لمْ ترشدهُ عباراتنا!
غالباً ما تنحصر الطرق والاجتهادات الصوفية بين طريقين، الأول يتعمق في الزهد والتعبد والتقشف، ليكون مثالياً ضمن التمسك بمحيط القيم الدينية. والثاني مهتم بالكشفِ عن الأسرار والحقائق المعرفية، ليتعمق أكثر فأكثر في إدراك العلوم الفلسفية، ويختلف ويتطور من بيئةٍ وأخرى، بين زمن وآخر، ليشكل عدة نظريات في التصوف ووحدة الوجود. ولكنْ المتصوفة جميعاً يشتركون في سمات الشخصية العامة للمتصوف، التي منها الزهد في الدنيا، والانقطاع إلى عبادة الله وتهذيب النفس، وصقل الروح بالمعرفة، والامتناع عن الملذات المادية لإكساب الروح القيم العليا. ويرى المتصوف في المحبة القانون العام للبشرية، إلى جانب التجرد وإنكار الذات، وأن الجمال هو الشيء الوحيد الذي يستحقُ الثناء، لأنه يُنير القلب ويسمو بهِ إلى أعلى الدرجات. ومن هنا كانت نظرية وحدة الوجود، التي بشرَ بها (الحسين بن منصور الحلاج) وتبناها ودعا إليها في عصره، ثم (ابن عربي) من بعده و(السهروردي وابن الفارض). ووحدة الوجود تعني فناء الذات الفانية في ذات الله الباقية. وهي فناء المحب في محبوبهِ حتى لا يكون هناك فرق بينهما. وقال الحلاج في ذلكَ:
حويتُ بكليَّ كلَ كلَّكَ يا قُدسي
تكاشفُني حتى كأنكَ في نفسي
أُقلَّبُ قلبي في سواكَ فلا أرى
سوى وحشتي منهُ وأنتَ به أُنسي
إذن في وحدة الوجود نرى أن الكل واحد، وكل شيء متصل بوحدة متكاملة شاملة. ويقول الحلاج في كتاب أخباره: (أنتَ المنفردْ بالقدم، والمتوحد بالقيام على مقعد الصدق، قيامك بالعدل لا بالاعتدال، وبعدك بالعزل لا بالاعتزال، وحضوركَ بالعلم لا بالانتقال، وغيبتكَ بالاحتجاب لا بالارتحال).
.. إنه القائل: إلهي، إنك تتود إلى من يؤذيك، فكيفَ لا تتود إلى من يؤذي فيك؟ من هو هذا المفكر العلماني في عصره، إنه أبو المغيث الحسين بن منصور الحلاج، ولد عام 244 ه في واسط في العراق، تصوفَ وعمرهُ ستةَ عشرَ عاماً. سمي بالحلاج لعدة روايات لكن الرواية التي وردت في أكثر من مصدر، والتي اعتمدها (ماسينيون) في كتابه (أخبار الحلاج) أنهُ: دخلَ الحلاج واسط وكان لهُ شغل فأولُ حانوتٍ استقبلهُ، لقطان، فكلفهُ الحلاج بالسعي في إصلاح شغله. وكان لصاحب الحانوت بيت مملوء قطناً فقال لهُ الحسين: اذهب في إصلاح شغلي فإني أعينكَ على عملك. فذهبَ الرجَل، ولما رجعَ رأى قطنهِ في حانوته محلوجاً ومن هنا سمي الحسين بن المنصور حلاجاً. وفي قصةٍ أخرى قيل إنهُ سمي بالحلاج لأنهُ مُطلع على سرِ القلوب، ويستخرجُ لُبَّ الكلام، كما يستخرجُ الحلاج لب القطن.
صوفية الحلاج تكمن في خصوصية رؤيتهِ للوجود، يبدو ذلك في تعريفهِ الخاص للصوفي على أنهُ: (وحداني الذات، لا يقبلهُ أحدٌ ولا يقبل أحداً). وقد أثارت مقولته : (أنا الحق) الكثير من العداء إزاءه، ممن لا يعرفون استقراءَ رمزيةِ المصطلحات الصوفية، فمنهم من اتهمه بالجنون، والإلحاد، ومنهم من عدّ هذه المقولة ( ملخص وحدة الوجود).
شَغَف جلال الدين الرومي بالعشق المطلق عند الحلاج، وكثيراً ما كان يوظفُ بعضاً من أشعاره في ديوانهِ (المثنوي). ورأى فيهِ دليلاً للتطور الروحي والارتقاء.. اهتداءً بحديث الرسول: ( موتوا قبل أن تموتوا)... وفي قول الحلاج:
اقتلوني يا ثقاتي
إنَّ في قتلي حياتي
ومماتي في حياتي
وحياتي في مماتي.
الموقف السياسي في عصره
التصوف الذي بدأ بتجارب فردية متفرقة، سرعان ما انتظم، إذ شكلت في بغداد ظاهرة عامة تهتم بأمور الفلسفة والفكر والعلوم، وعلاقةَ ذلكَ بالمجتمع وبأمور الدين والسياسة. ولم يكنْ الزهد والتصوف إلا شكلاً من أشكال الرفض الروحي لأساليب السلطة الاحتكارية َ. فابتعد المتصوفة عن محيطِ المؤسسة الدينية الرسمية، كموقفٍ من معاني الحق والعدالةِ والإنسان، وأقبلَ الناس على المتصوفة، كردِ فعلٍ لتردي الأوضاع ِ السياسية وتفشي الفساد والتحلل، وفي ذلكَ الموقف صورة للتذمر الشعبي إزاءَ سلوكِ السلطة، والمؤسسات الرسمية. فعلي الرغم من الساعات الطويلة التي يقضيها المتصوف في عزلته، إلا أنهُ شديدُ الارتباط بعامة الناس، بسبب عمق إيمانهِ بالجماهير، واعتبارهم مختبراً لعلومهِ وأفكاره.
كان المجتمع في حالة تفاوت طبقي حاد، بينَ الطبقة الثرية المحصورة بالقصر ورجالهِ وحاشيتهِ، وطبقة أثرياء التجار، والطبقة الفقيرة المسحوقة من عامةِ الناس. وكان لانتشار الفساد أثر كبير في تردي الأوضاع الاقتصادية، وانتشار الاضطراباتِ السياسية والاجتماعية، مما زادَ سُخطِ العامة ضد نزعات الطغيان والظلم، اقترنَ ذلكَ بالعديدِ من الانتفاضات الشعبية. وكانَ لطروح المتصوفة الفكرية في التوحيد والحق وسلطان الحقيقة والعدالة، ركن أساسي في اشتداد وحدة الصراع بين العامة والنظام السائد.
والجدير ذكره أن الحلاج عاشَ في عصر ِ الخليفة العباسي المقتدر بالله، واجتمعَ في قصرهِ الكثير ممن ناصبوهُ العداء من رجال البلاط والفقهاء. وكانوا يتحينون كل الفرص لقتله، وعلى رأسهم الوزير حامد بن عباس. مع أن الحلاج لمْ يرتكن لمذهب ما، أو طائفة ما، ولم يتعصب لمقولةٍ أو فكرةٍ، بل رأى في تهذيب النفس وإشراق القلب وتوحيد الله، سبيل وغاية الوحدة الإنسانية.
اعتقال الحلاج ومحاكمته:
تمثلتْ حياة الحلاج بامتزاج الصوفي بالسياسي والزاهد بالثوري، فكانت معرفتهُ بالدين تعني التحريض والدعوة إلى الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، إلى جانب تواصلهِ مع قادةِ الحركة الثورية السرية، كرئيس القرامطة (أبي طاهر سليمان بن سعيد الحسن القرمطي). وبقرارٍ سياسيٍ سلطوي وقضائي ديني دعتْ الخلافة العباسية بزمن السلطان المقتدر بالله خشية ً على عرشها إلى صلب المفكر العظيم، وحظي الوزير حامد بن العباس مع الفقهاء والقضاة لمحاربة الفكر والاجتهاد ليلة الثلاثاء من ذي القعدة من عام 309 هجرية. فَضُربَ ألفَ سوطٍ، ثمَ قطعتْ يداهُ ورجلاه، وهو في ذلكَ كلهُ ساكت، ما نطقَ بكلمةٍ، ثم صُلِبَ على الجذع، وأحُرقت جثتهُ، وألقيَ رمادها في دجلة، ونوديَ ببغداد أن لا تشترى كتب الحلاج ولا تباع.
والجديرُ بالذكر أن رئيس الشرطة محمد بن عبد الصمد أرغم الشبلي على رجم الحلاج، فما كان منهُ إلا أن يرمي وردة بدل الحجارة.
أما خادمهُ شاكر الصوفي فقد أخرج كلامهُ للناس، فضربت عنقهُ بباب الطاق في بغداد.
قال الحلاج قبل قتله:
أنعي إليكَ نفوساً طاَحَ شاهدها
فيما ورا الحيث بل في شاهد القدم
أنعي إليكَ قلوباً طالما هطلت
سحائبُ الوحي فيما أبحرُ الحكم
أنعي إليكَ لسان الحق منك ومن
أودى وتذكاره في الوهم كالعدم
سئل عن التصوف وهو مصلوب فقال: أهونهُ ما ترى.
قال عنه الشيخ عبد القادر الجيلاني: (عثر الحلاج، ولم يكن له مَنْ يأخذ بيدهِ، ولو أدركتُ لأخذتُ بيدهِ).
فقد كان لآرائهِ دلالة فلسفية واجتماعية وروحية، إذ أفتى ذاتَ مرةٍ كما جاءَ في كتاب أخباره لماسينيون: (بعدم جدوى زيارة مكة في موسم الحج وتقبيل الحجر)، في الوقت الذي يتضَاعفُ فيهِ عدد الفقراء والمساكين، وينتشر الظلم والفساد في الدولة العباسية، وصَرّحَ بالاستعاضة عن الحج بإطعام المساكين وإكساء الفقراء والمحتاجين، وإن كان لا بد من الطواف فليكنْ حولَ أي حجرٍ كبير موضوع وسطَ غرفة ما، ومغطى ببرقع أسود، وسطَ غرفةٍ كبيرةٍ. ومن الطبيعي أن تُفسر هذه الآراء من قبل رجال البلاط والفقهاء بالمعنى الظاهري، بينما تستقبلها النخبة والعامة باعتبارها إشارات لمعان أعمق وأشمل. فمنْ لمْ يقفْ على إشاراتنا، لم ترشدهُ عباراتنا.
أشعاره في الوحدو والتوحيد:
لا يعرفُ الحق إلا من يعرّفهُ
لا يعرفُ القِدميّ المحدَثُ الفاني
لا يُستدلُ على الباري بصنعتهِ
رأيتمُ حَدثاً يُنبي عنَ ازمان ِ؟
وفي الحق والوجد:
لا تلمني فاللومُ مني بعيدُ
وأجرِ سيدي فإني بعيدُ
من أرادَ الكتَابَ هذا خطابي
فاقرؤوا واعلموا بأني شهيدُ
وفي البوح:
ألا أبلغْ أحبائي بأني
ركبتُ البحرَ وانكسر السفينهْ
على دين الصليبِ يكون موتي
ولا البطحا أريدُ ولا المدينة
وفي الشطح والحيرة:
كفرتُ بدين ِ الله والكفرُ واجبٌ
عليّ وعندً المسلمينَ قبيحُ
جنوني فيكَ تقديس
وظني فيكَ تهويسُ
في السكر الصوفي:
كفاكَ بأن السُكرَ أوجد كربتي
فكيف بحال السُكرِ والسُكرُ أجدرُ
فحالكَ لي حالان صحوٌ وسكرةٌ
فلا زلتُ في حاليَ أصحو وأسكرُ
وكذلكَ في الحب والمحبة:
نسمات الريح قولي للرشا
لم يزدْني الوردُ إلا عطشا
لي حبيبٌ حبهُ وسطَ الحشا
إن يشا يمشي على خدّي مشي
ومن هذا المنبر العلماني نؤكد حاجة المجتمع البشري لدراسة الفلسفة الصوفية، لتعميق مفاهيم الحرية والإنسانية، وإدراك جدوى التجريب العقلاني، والجانب النضالي المضيء في التاريخ، لبناء ملامح بعض الأسس الممكنة لصورة المستقبل بكثير من الجرأة والعقلانية والعدل والإنسانية لمستقبل البشرية، عن طريق العلمنة الذي يقوم على احترام الطوائف وطقوسها وشعائرها، والتأكيد على دورها الإنساني والاجتماعي، بممارسة المعتقد الديني دونما أية حواجز. وهي كمبدأ يقوم على التسامح تجاه الآخر وعلى احترام حرية معتقده، وستؤدي في حال تطبيقها إلى جعل الطوائف تتمتع بكل الحريات الأساسية التي أقرّتها حقوق الإنسان.
[email protected]
أهم المراجع: الحلاج:سمير السعيدي.
مؤاشرات في دنيا الثقافة والحياة: د. نائل اليعقوبابي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.