يشير تيار تأسيس الحساسية الشعرية المبكرة في السودان إلى محصلة من الإشارات التي لم يقف عنها التفكير الجمعي الثقافي بوجه خاص، بمراجعات عميقة تربط بين هذا الحصاد الثرّ وحركة النضال الوطني ومشروع الثقافة في علاقتها بالوطن المستقبلي وصراع الإنسان في الوجود، وجدليات العالم والحياة بشكل عام. وفي هذا فإن تجربة شعراء الريادة أمثال التيجاني يوسف بشير ومحمد أحمد محجوب ويوسف مصطفى التني وآخرون، تمثل حركة ثورية هادئة ما زالت جذوتها مشتعلة باتجاه قضايا الوطن وأزماته إلى اليوم، بل أنها تحمل من الأبعاد الفلسفية العميقة التي لم يقف عندها الباحثون بجدية تامة في إطار قراءة واعية تدرك أن عمق الأمس يشكل ملهاة اليوم. تعتبر تجربة الشاعر يوسف مصطفى التني (1907 - 1969)، ضمن تيار التأسيس الواعي لحقيقة الانتماء والوطن، وسؤال الذات بشكل عميق في زمانه، وهو يمثل جسر الانتقال من مرحلة المجتمع إلى الدولة الحديثة ومحاولة استنطاق ذلك في مشروعه الشعري، الذي مازج بين أسئلة الذات المباشرة والأسئلة المفتوحة باتجاه الشأن العام، وهو يمزج ذلك بالوظيفة العامة التي تنقّل فيها ما بين عدة أعمال كالجيش والصحافة والدبلوماسية، وهذا في جملته يعطي تجربة زاخرة وتنوعا في الرؤية لخصائص العالم الخارجي في فترة تتسم بالحراك والاستفهامات الغامضة باتجاه تشكيل وطن جديد يولد للتو. لقد تمثلت في شخصية التني صورة ذلك الشاب الذي يعيش المزاوجة بين عصرين، عصر الإنسان التقليدي الذي تربى على قيم المجتمع الكلاسيكية وعصر الانفتاح والحضارة، باعتباره من خريجي كلية غردون التذكارية ومن أوائل المهندسين ورواد العمل السياسي الذين نظروا كذلك إلى الثقافة بوصفها مدخلا للتحرر والتنمية كعدد من أبناء جيله وهو اتجاه كان سائدا في مطلع الثلاثينات من محاولة مساءلة للمستقبل والذات وفهم الشخصية السودانية وإن لم تكن الأسئلة قد تعمقت بل وتشظت، كما هي عليه اليوم. وقد صدر ديوانه الأول "الصدى الأول" مبكرا في سنة 1938م وبهذا يمكن اعتباره من الملامح المهمة في قراءة الشعرية السودانية في ريادتها، بجانب التيجاني وطمبل والآخرين، كذلك صدر له ديوان "السرائر" وديوان "التني" في سنة 1955م بالقاهرة. ويلفت مجايلوه إلى أنه اهتم بعذابات الوطن وقضايا التحرر لكنه لم يهمل في هذه المشروعات الإبداعية بعدا جماليا وإنسانيا يكاد يلامس الوجدان رغم أنه كتب شعره في النسق الكلاسيكي للقصيدة، لكن يظل الموضوع هو مركز الثقل في القراءة والوقوف على عمق تجربة التني التي هي كذلك بها مسحة الحزن الشفيف، وفيها محاولة التفكير من خلال صوت القصيدة وهذا يقود من صعيد آخر إلى تجربته مع المقالات والكتابة ومشروعه في الكتابة الأدبية ودراساته حول الشعر والجمال وعمله بالصحافة حيث وصل منصب رئيس التحرير في صحيفة الأمة، لكن ذلك لم يمنع من أن يتم تعريفه بوصفه شاعر في الصفة الغالبة. لقد عمل هذا الجيل المبكر على نقل الشعر السوداني من التقليدية والتركيز على موضوعات محددة كالرثاء والمديح إلى الهم الوطني العام والطابع الوجداني الإنساني الممتزج بالنفس الصوفي الذي يشكل أحد ملامح الشعر السوداني كما يرى الناقد عبد الهادي الصديق في كتابه المهم "أصول الشعر السوداني"، وكان للتجربة الميدانية والاحتكاك بالعمل العام ومفهوم الوظيفة الحديثة كل ذلك دوره في تشكيل رؤى جديدة للحياة وأسئلة أكثر إلحاحا عن أجيال سابقة – قبل الدولة المدنية - لم تعرف كيف تصوغ موقفها الجدلي الواضح من العالم حيث كان الطابع التداخلي ما بين الميثولوجيات العميقة للأرض والمكان والموقف الديني والموروث الشعبي. إن مراجعة لقصيدة "وطني" للتني، سوف تكشف لنا الكثير من مركبات الوعي بقضية الوطن والإحساس المبكر بالأزمة الذي كأنه لم يغادر موقفه القديم، يكتب: وطني شَقيتَ بشِيبه وشبابِهِ زمناً سقاكَ السُمَّ من أكوابِهِ قد أسلموكَ إلى الخراب ضحيّةً واليومَ هل طربوا لصوت غُرابه؟ وطني تَنازعَه التحزُّبُ والهوى هذا يكيدُ له وذاك طغى به ولقد يُعاني مِن جَفا أبنائهِ فوق الذي عاناه من أَغْرابه بالأمس كانوا وحدةً فتفرّقتْ فَسَطا المُغيرُ بظُفره وبنابه واليومَ هم شِيَعٌ تُنافس بعضَها في رِقّها لمسوَّدٍ أو نابه حتى الذي نزف الدماءَ مُسخَّراً كالطير حَفُّوا خُشَّعاً بركابه كم أُوهمَ الدهماءُ فيه فأمّلوا في العالم الثاني جزيلَ ثوابه ومشتْ زرافاتُ الحجيجِ لبابهِ فكأنما البيتُ الحرامُ ببابه وطني يعيثُ به العدوُّ ولا ترى مِنْ دافعٍ عن حَوْضه ورِحابه وإذا انبرى ليذودَ عن سُودانهِ ألبارعُ المِقْدام من كُتّابه لم يعدمِ الشرُّ الدخيلُ جماعةً لتُرتّلَ الأمداحَ في محرابه وطني أُصيبَ بمعشرٍ آواهمُ وأظلَّهم فسعَوْا ليوم خرابه لو طُهِّر السودانُ من دخلائهِ لتَطهّرَ السودانُ من أوشابه (أي الأوباش) لهفي على السودان من دخلائه لهفي على السودان من أحزابه وهي مرثية من البكاء، تعالج فترة تاريخية لكنها تعكس بمرآة اليوم ما نحن عليه من البلايا والعبر التي يجب أن نقف عندها والدروس التي يكون علينا أن نتأملها. الإحساس العميق بالأزمة والمستتر الذي يسكن بيت الشاعر المجرب والذي جمع بين تجربة المكان وتجربة الوجدان، فالوظيفة والميدان قدما الخبرة بالوطن ومشكلته وجراحه والوجدان أعطى البعد الثاني في تقديم هذا الصورة الهالكة على شكل القصيدة في شعر بسيط ومعبر وفي بكائية تقدم الحل المبكر، فما اسماه الشاعر ب "التطهير" الذي هو تطهير سياسي واجتماعي، ما بين الدسائس والمكائد والأنا المتعجرفة التي لم تعرف الخروج عن القوقعة لتترك الغراب يحكم المشهد بنعيقه الذي لا يطرب. إنها الماسأة تتجدد صورها والشعر يختزن أشكال الوقائع وسرديات العذابات المستمرة. قصاد هذا المشهد الذي يكاد يشوبه الخوف من المصائر، تجلس الروح الثانية للشاعر، في بعده الوجداني كما يتمثل في قصيدة "صلاة الفيلسوف" التي منها: كيف أشفي باللهِ منكَ غليلي فاضَ حُبِّي وحارَ فيكَ دليلي حكمةٌ أنت ما ترشَّفْتُ منها رشفةً لم تزدْ جُموحَ مُيولي أو تملَّيْتُ من سناكِ جديدًا لم يُحبَّبْ في المبهَم المجهول فتراني وإن غنمتُ جزيلاً منك لا أكتفي ولو بجزيل وتراني أرى خطيرَ وُلوعي بكَ يا آسري أقلُّ قليل أو تعمَّقتُ في هواكَ بعيدًا خِلتُ مثوايَ في الهوى بضَحيل إنما أنتَ مُنتهى تفكيري ومدارُ السُّهوم والتَّخييل وعزائي إذا نشدْتُ عزاءً وهنائي وفرحتي وشمولي وحبيبي الذي يهذِّبُ نفسي وإلى الله والسماء دليلي أنا أهواك لأجلِ ذاتك عَفّاً عن مرامٍ وراءَ ذاك ذليل وأُضحِّي لأجل ذاتِك روحي وأنا غيرُ طامعٍ ببديل إن موتًا لأجل ذاتِك خُلدٌ أوَراءَ الخلودِ من مأمول؟ إنها وجدانية عميقة التصوف، تشابه مناجاة رابعة العدوية وصلوات ابن عربي وغيرهما الذين يتخذون من صورة المحبوب طريقا إلى الذات المتعالية إلى المطلق الإلهي، وهي فلسفة أخرى في الحب الكبير الذي يسكب الخلود ويتعالى عن الذلة والذليل وهذا لعمري مجال رحب لا يسعه المكان. ويجب التذكير بالقصيدة الغنائبة المشهورة للتني وهي: "في الفؤاد ترعاه العناية" التي كتبت بالدراجة وتدعو لوطن موحد خال من القبلية وعلو الهمم. [email protected]