كمواطن سودانى ترقد بينه و بين تراب وطنه أمواج و نوارس و غيوم ، أغتنم كل فرصة ممكنة لمشاهدة القنوات السودانية . لدى قناعاتى أن الوطن يتوزع فى جزئيات كثر : أغنية تستمع اليها فتغسل عنك غبار غربة قديم ، قصيدة تبكيك بكاءا يعيد إليك بعضا من ملامحك المسروقة ، مكالمة تأتيك من صديق لا يزال يحن إليك أو عناق فى المطار من قادم الى منفاك. التلفزيون القومى لا أشاهده على الإطلاق فهو يسبب لى من الضجر ما الله به عليم و لعله يذكرنى كثيرا بكلمة الشاعر الجميل " التجانى سعيد " كلما ابتعدت عن التلفزيون ازددت ثقافة " . تبقت لى إذن بضعة قنوات متناثرات على أثير بات أشبه بساحة المعركة . واحدة من القنوات التى أجدهما محتملة بعض الشئ " النيل الأزرق " رغم انها تعكس صورة لسودان لا علاقة له بسودان الحقيقة . السودان فى النيل الازرق هو سودان النساء الفارهات المضيئات اللواتى يتلألأن جمالا و صحة ، هو سودان البيوت الفخمة و السيارات الجميلة و الأطفال الذين يضوعون فرحا ، و هو سودان مذيعاته بيض كما مذيعات لبنان . إنه سودان حسم تماما قضية هويتنا – فصرنا عربا قحاح لا علاقة لهم بالغابة وافريقيا . حاولت كثيرا أن أتصالح مع برنامج " أغانى و أغانى " . ظللت أتشبث بحقيقة المجايلة ، أنه لكل زمان ملامحه و فنانوه و من يصوغون ذواكر أجياله الجمعية . لكننى فى كل مرة أفشل فى مسعاى . و السبب جلى كما الشمس : أنه ثمة أغنيات خالدة صارت جزءا من ذاكرتى ، صارت جزءا من نبضى ، وقد ترتبط بقصص حب مررت بها و شكلت جزءا من تاريخى و ملامح وجه عمرى ، أغنيات كتبت جزءا من مقاطعها ذات زمان قديم فى ( جوابات ) عشق سكبت فيها جزءا من روحى ، هذه الأغنيات تقبع فى دمى بطريقة أداء محدد ، بتوزيع موسيقى محدد ، بصوت فنان محمد ، و تحمل عبق زمن محدد ، و بالتالى وحينما يلوح على شاشة النيل الأزرق صعلوك لا أعلم كيف دلف الى دنيا الغناء أصلا ، ليعمل فيها إفسادا مع سبق الاصرار و الترصد فإن هذا لا يقل فى رأى عن جرائم داعش التى تحز الروؤس دونما هواده . أغنية " غيرة " – مثلا - للعبقرى " سيد خليفة " و التى صاغها دما – لا شعرا – الإنسان " إدريس جماع " هى ليست أغنية بالنسبة لى . إنها معبد جمال كامل يجب عليك أن تدلف إليه و أنت مطرق النبض حاسر الرأس . هى لحظة من اللحظات الهاربة خارج الزمن و حقائقه إعتقلها سيد خليفة فى لحن و سكبها شلالا من ضياء عبر صوته الوثير كما مخمل . كيف أرتضى أن تأتى مطربة مبتدئة لا تفرق بين مخارج الحروف ، و لا تعرف كيف تنطق الظاء فى " نظرنا " و لا الغين فى " تغار " و لا الذال فى ّ إذا " و لا القاف فى " الأشواق " ، ثم تسكب ذلك فى صوت عال طوال زمن الأغنية و كأنها تريد أن تؤكد لأعضاء لجنة وهمية أن صوت لا يزال فتيا أخضرا . استمعت من قبل الى أغينة " الأبيض ضميرك " للمعتق " الطيب عبدالله " بصوت " معتز صباحى " فإذا بها تتحول إلى "الأسود ضميرك " . أداء ركيك ، صوت لا علاقة له بالطرب على الإطلاق . و لا أدرى كيف حتمل الطيب عبدالله و هو يشهد درة من درره الحسان تنحر نحرا أمام ناظريه . وشهدت حفيد " ابن البادية " يعجن " ما سلامك " – عجنا حتى أوشكت – و هى درة الشفيف عزمى أحمد خليل و العبقرى عبداللطيف خضر - أن تستنجد بنا !! لست ضد التجديد . وردى عندما تناول " قسم بى محيك البدرى " حولها إلى إلياذة . و لولا عبدالعزيز داؤود لضاع نصف أغنيات الحقيبة . و لست ضد أن يتغنى البعض بأغنيات الآخرين . الكابلى تغنى لحسن عطية فأجاد ، وود البادية تناول بعضا من أغنيات إبراهيم عوض بصورة تفوق فيها عليه . زيدان تغنى برائعة " يا خاين " للطاهر ابراهيم فلونها بظلال من شجنه الشخصى حولتها الى دمعة حرى . لكن هؤلاء الشباب – إلا عصام محمد نور – يغتالون هذا التراث العظيم بصورة فاحشة التوحش . و غير مخارج الألفاظ التى تنبئ عن أنهم لم يستمعوا على الإطلاق الى الكابلى فى أدائه العبقرى للاعمال الفصيحة ، قد يخرج منهم من " يشذ " عن زمن اللحن ، فتجده يصيح خارج دائرة زمن الإيقاع ، بينما العازفون ينظرون إلى بعضهم فى إشفاق مشوب بحسرة . أما إن كانت الحجة تقديم هذه الأعمال الخالدة الى الأجيال الشابة فلا اعلم اصلا لم تسجن هذه الاعمال فى أضابير التلفزيون و الإذاعة حتى نحس نحن بالحاجة الى تذكير الناس بها ؟ شئ ثان يستفزنى فى هؤلاء النفر : الزى الذى يرتدونه للإطلالة على الضحايا الذين يدعونهم – ترفقا – بالمشاهدين . شهدت أستاذ وردى و قد بلغ حصان عمره الثمانين ، يحضر الى حلقات الجميلة سلمى سعيد و هو فى كامل أناقته فهو يدرك أن الفنان العظيم مؤسسة أخلاقية تؤثر على كل من حولها . و شهدت إبراهيم عوض و هو يقف أمام جمهوره كما القمر . فى الخارج يوجد من هو عمله الإشراف على ملابس النجم و إطلالته . أما هؤلاء فيحضر أحدهم وفق ما يهوى . يرتدى بنطالا و قميصا يشتجران لونا ، و قد يفاجئك بربطة عنق مسدلة على الصدر فى استرخاء غريب ، لا استثنى من هذا إلا عاصم البنا الذى يحترم جدا ذائقة المشاهدين – و الحديث فقط عن جزئية الزى – ثم العم السر أحمد قدور الذى لا ينفك يطلق ضحكته بسبب و بلا سبب ، معقبا على اداء أحدهم الردئ بكلمته التى أتى بها معه من مصر " هائل " . و لعل الشئ الوحيد الجدير بالاحترام هو المعلومات التى تنداح من بين شفتى هذا الرجل المرجع . لقد بدأ البرنامج و فيه صلاح ابن البادية و شرحبيل أحمد و أسرار بابكر ، ثم تحول الى صالة يتقافز فيها كل من هب و دب . و لعل أردأ ما فى الموضوع الأصوات النسائية التى تتسم عموما بالضعف . و طوال فترة استماعى له لم يلفت انتباهى صوت سوى الموهوبة " شموس إبراهيم " . لكن لعل عمنا السر و قد بلغ به الكبر ما بلغ ، صار مجبرا على التعامل مع من يعدون نجوما فى زمن السقوط الذى نحياه . الى متى يستمر هذا البرنامج الهتلر ؟؟ ................ مهدى يوسف ابراهيم [email protected] جدة 2015