لم تك تلك هى المرة الاولى التى تمر فيها الفتاة الخلاسية البدينة بالقرب منهم, لكن شيئا ما جعلهم هذه المرة يسترسلون فى الضحك باصوات عالية ويقهقهون ويضربون على الارض وعلى اطراف المقاعد وتهتز اجسادهم هزات واضحة متواصلة. وبالرغم من ان الرجل كان يجاريهم فى كل شئ, الا انه فى نهاية المطاف حكم على الفتاة بانها مهذبة وصريحة وموضوعية, معتمدا على تحليله للمعلومات التى تلقاها منهم كانت تمشى بحذر مميز, لكن الرجل اعتبره سلوكا طبيعيا فى احتفال امه الالاف من البشر من مختلف الجنسيات. وحين اقتربت من دورات المياه تخطت الفتاة عددا من النساء الواقفات فى الطابور حتى استطاعت ان تجد لنفسها موقعا فى المقدمة. فى تلك اللحظات ضحكوا من جديد, وبنفس الطريقة السابقة, وفى لحظة صمت وضع الرجل الثرثار يده برفق على كتف الرجل الرزين ثم قال له:"تجنب الاصطدام بها لكى لا تؤذيك. انت انسان مهذب". حدق فى عينيه مليا لكن لم يعر تحذيره اهتماما يذكر لانه كان يعتقد ان زملاءه يتحاملون عليها كانوا قد سبقوه الى المكان. كانوا لطيفين جداً معه ومرحين, اثنان منهم فقط هم اصدقاء له وزملاء عمل, اما بقية الزمرة فمعرفته بهم فى غاية الزهد. ولانه انسان اثير جدا فانه لم يجد صعوبة فى الاندماج معهم. كان مزاجهم صافيا سهل لهم الاستمتاع بالحفل, وفى فترة الاستراحة كانوا يثرثرون كثيراً ويسردون كل انواع النكات. اما روعة الطقس وتوازن البرنامج والجوقة والفنانين الممتازين, فقد ضمخت المكان بعبق ساحر. وعندما دخلت الفتاة الى التواليت توقف الحديث عنها. وبالرغم من ان البعض كان يتحدث عنها من منطلق معرفة لصيقة, الا ان الرجل ظل على موقفه ولم يقتنع بحكمهم عليها عندما قالوا انها ليست اجتماعية وغريبة الاطوار كان يضحك كثيراً, وفى نفس الوقت كان يحتفظ لنفسه بحق العودة لحال الهدوء واعادة ضبط ايقاع مشاعره. وبمرور الوقت اتضح لهم انه يتضجر من الخوض فى حياة الناس الخاصة. قال لهم:" قد تحمل فى داخلها طباعاً طيبة". لم يرد عليه احد. كانوا ينتظرون منه بان ياتى بحجج منطقية قوية. صمت وهو يفكر فى هيئتها الشعثاء النساء يبذلن مجهودات كبيرة للاعتناء بانفسهن قبل الخروج الى الحفلات, اما الفتاة الخلاسية فجاءت ترتدى جزمة بلاستيكية وتى شيرت وسروالا رياضيا فوقه تنورة تشبه تنورة لاعبات التنس. واذا كانت تقصد تحسين هندامها الرياضى, فان تنافر الالوان وعدم الاتساق ومظاهر الاهمال نسفت كل جهودها, على الرغم من ان الملابس كانت من ماركة مشهورة. وحين عاد الرجل اليهم حدثهم عن قوامها الافريقى الفاتن وعينيها الحلوتين, واكثر من وصف شعرها البنى القوى المتهدل على كتفها. وفى قرارة نفسه كان يستحضر شعر المغربيات الجميل. لم يجادلوه, لكن حديثه لم يغير اى شئ من موقفهم منها. ولما استحثهم واستكثر من عناده, ردوا عليه بصوت واحد نعم وقحة جداً وعنيفة فى تعاملها مع الرجال ومع النساء كذلك اما انت فانتظر دورك هنالك نساء عاديات يستطعن جذب الانظار بسهولة حين يعتنين بانفسهن واناقتهن. وهذه الفتاة ليست غبية فهى تشغل وظيفة مهمة فى الشركة كما ذكروا. والرجل اعتبر قلة اناقتها اهمالا مؤقتا, اما ما يعتبره غيره عنفا فهو يراه صراحة مرغوبة وصدقا مع النفس مع الالتزام بجانب الحق فى كل الاوقات. واصبح بمرور الوقت يمنى نفسه بان يجد الفرصة المواتية لكى يتحدث معها عن اراءه وينصحها بان تبذل مجهودا اكبر للعناية بنفسها. اما تحركاتها الكثيرة فوافقه الجميع بانها لا تشكل شذوذا عن القاعدة فى ذلك اليوم, فالناس كانوا كرماء جدا ويشربون كثيرا ويسكرون ويتحدثون مع الغرباء ويضحكون خرج بمفرده وكان يتمنى ان يلتقى بها فى مكان بعيد عن جمهرة الناس. لكن لسوء حظه صادفها قرب المكان الذى لا يرغب هو, ولا اى انسان اخر, فى ان يمكث فيه وقتا طويلا. كانت تخطو فى اتجاهه وهى خارجة للتو من مبنى التواليت. لاحظت لوجوده فتوقفت. انتظر فى مكانه حتى لا يضطر الى الاقتراب من المكان ذور الرائحة الكريهة. ولان عدد زوار المراحيض كان كبيرا جدا, فان المكان اصبح بمرور الوقت مكتنزا جدا بالنتانة. انتظر لمدة طويلة لكنها لم تقترب, ولانه عقد العزم الاكيد على التحدث معها, فانه تحمل دقائق الانتظار المؤلمة وغرق فى العفونة بعد دقائق اصبح يقترب كثيرا من النقطة التى سوف تتأكد فيها صحة فرضياته التى ذكرها فى سياق الدفاع عن الفتاة. وان لم ينجح فى دفاعه فان عليه ان يعترف بانه كان يسوق هراء محضاً. هو تحداهم وقد يكون التحدى غالى التكلفة. وهو لا يريد ان يخسر السمعة الطيبة التى تركها عند الغرباء الذين تعرف عليهم فى ذلك اليوم, لكن احيانا تفلت الامور من بين يدى احدنا فيجد نفسه فى موقف لا يرضاه البتة. سوى وضع بدلته الصيفية ومسح حبيبات العرق من على جبينه وحرك اطرافه وعنقه, واخير اقنع نفسه بكمال الاستعداد, ومع ذلك كانت تراوده بين الحين والاخر فكرة الانسحاب احيانا يشكل حب الاستطلاع دافعا قويا للاصرار والعناد. والرجل يعلم تماما ان بامكانه الانسحاب وان النظرة الثانية قد تكون لها تبعات ونتائج قد لا تسره. واذا اصابه مكروه فلن يجد من يبحث له عن عذر. تفحص ملابسه من جديد ورفع راسه والتفت ذات اليمين وذات اليسار, وحين نظر اليها فكر فى التراجع. كان الوضع مخالفا لتوقعاته كلها, لكنها الحقيقة المرة, فقد شاهدها وهى تعدل تنورتها بطريقة غير مهذبة وملفتة للانظار. فرك عينيه ثم ركز بصره فى وجهها جيدا, لم تك محرجة ولا يبدو عليها اى مظهر من مظاهر الالم. الانسان المحرج عادة يتبسم فى مثل هذه الاحوال. وفى موقف مناقض تماما, عم الغضب وجهها كله واصبحت تحدق فيه وهى متاهبة للقيام بفعل ما اصبح يفكر جديا فى كل الاحتمالات. هو يعلم تماما انه كان يحتفظ لها بصورة حسنة, والان وجد نفسه فى موقف لا يحسد عليه. تقدم بهدوء وهو يتحسب لرد فعلها. لم تهن عليه فكرة العودة من حيث اتى او التقهقر, لان التراجع سيعد جبنا وسيشجع الاخرين على الاعتداء. لم يفكر ابدا فى المبادرة بالهجوم لانه يعرف نفسه جيدا, فهو مهذب وهادئ ويحترم قيمه, ولا يبادر بالعدوان, لكنه يستطيع ان يدافع عن نفسه باقتدار اذا ما تعرض لهجوم. تلاطمت الافكار فى راسه وهو يواصل السير. وحين اقترب منها انطلق من بين شفتيها الغليظتين سيلا عارما من الشتائم. كانت تصرخ فيه بصوت مدو ومزعج استدار بحذر, لم يكن خائفا بل كان الحرص يتحكم فيه. نظر اليها من جديد, وتماما كما توقع, واصلت الصراخ وارسال الشتائم البذيئة. اختارت العبارات الاكثر شهرة واشد وخزا, والتى يستطيع الانسان تخمين معانيها اعتمادا على حركة الشفاه. اختارت اللغة الانجليزية وهى تتحدث بغيرها. واللغة المشتركة بينهما ليست الانجليزية, لكنها ارادت لعباراتها ان تصل بوضوح الى جميع الحاضرين. كان صراخها عنيفا وقويا وصاخبا, استطاع ان يصل الى مسافات بعيدة. وعندما نظر الى عينيها حدقت فيه بعيون ملتهبة ثم رفعت قبضة يدها وهى تحرك ساعدها مظهرة بذاءة ووقاحة واستعدادا خرافيا للتحدى. وفى تلك اللحظات ضحك كل من حولها. وضحكت هى بصوت عال ومجلجل ثم اعادت حركة اليد التى امتعتها كثيرا. كان الناس يضحكون والبعض كان يقهقه ويمعن فى التهكم تجنب بعض المعارك يعد موقفا حكيما ولا ينتقص من قيمة الانسان وان عده البعض جبنا. و الخسارة تكون احيانا مؤكدة اذا استطاع الطرف الاخر ان يفرض نوع السلاح وقوانين الصراع وان يحدد ميدان المعركة. وما اعتبره الرجل الرزين انتصاراً, ظنه الاخرون هزيمة. فالتزام الهدوء وكبح جماح اللسان وضبط النفس, هى فى عرف الخلاسية علامات اعتبرتها دلائل على انها قد الحقت بالرجل الهزيمة الماحقة, وعظمت الانتصار واحتفلت به وانتشت. وكذلك سار على هديها من ضحك معها وتهكم وقهقه وسخر من الرجل الرزين واصل الرجل السير بخطوات ثابتة. كان موقنا تمام اليقين بانه انتصر. كان يعتقد بانها موجودة فى مكان عام وعليها ان تضبط نفسها وتصرفاتها لا ان تلوم الاخرين وتلزمهم بغض البصر وتعتدى عليهم. وعلى اية حال فان مهاما ثقيلة قد تنزلت على كاهله, واهون تلك المهام هى ان اصحابه يتوقعون منه بان يدافع عن مواقفه السابقة حيال الفتاة [email protected]