أقرب إلى القلب: ( 1 ) بعث إليّ صديقي الصحفي السوداني السر سيد أحمد، بنسخة من برقية وردتْ ضمن تسريبات موقع "ويكيليكس"، بتاريخ قديم يعود لأيامي ناطقاً باسم وزارة الخارجية السودانية ، يقول لي: ها أنت في عالم "ويكيليكس"! وكان ذلك على سبيل المداعبة لا أكثر. لكني وقفت مع كثيرين، أمام موقع التسريبات الخطير "ويكيليكس"، الذي ابتدع الطريق إليه "جوليان أسانج" في عام 2006، وهو الموقع الذي لم يردعه سدّ ولا جدار ناري – "فايروول"- ولا قدرتْ حواسيب الإدارة الأمريكية بسطوتها الإلكترونية، على كبح غلوائه أو السيطرة عليه، أو ترويضه في أسوأ الخيارات . أعجبني تعليق برقية السفارة الأمريكية على بعض تصريحاتي ، آنذاك حول تعيين مبعوث أمريكي جديد هو السيد " أندرو ناستيوس"، إذ كانت قراءة الدبلوماسي الأمريكي كاتب البرقية، هيَ أن السفير الناطق الرسمي لوزارة الخارجية ، يتكيء على سند قوي، وأنه محسوب على أحد غلاة المتشددين في السلطة، وهو في زعم محرر البرقية، السيد كرتي . كان السيد "علي كرتي" يشغل وقتها منصب وزير الدولة في وزارة الخارجية السودانية، فيما كان وزير الخارجية هو الدكتور "لام أكول أجاوين". ولكني لم أشغل نفسي كثير شغلٍ بمضمون برقية التسريب . كما أني نظرت في عدد كبير من برقيات التسريب، وقد جهدتْ حواسيب السفارة الأمريكية في صياغة أكثرها، بلغة اللغو ووسوسة "الشمارات" في زعم لغة الشارع السوداني، وقد صدقت في بعضها وفي أكثرها كللته الشكوك. أجل ، ما شغلتني المضامين ، بل سعيت لأرى ما وراءها.. ( 2 ) ثمّة خواطر تواترتْ عليّ بعد الذي قرأت من موقع التسريب المريب "ويكيليكس" . بعض هذه الخواطر يتصل بشخصي ، ولذا قد لا يراها القاريء الحصيف، ممّا يعتدّ به أو يحظى باهتمام من يتابعون القضايا العامة. وفي جانب آخر، رأيت أن تجليات موقع "ويكيليكس" تؤكد ما توقعه الكثيرون من تطورات قد تلحقها ثورة الاتصالات بجوانب كثيرة ، خاصة فيما يتصل بحراك الأمور على الساحة الدولية، والساحة الدبلوماسية في عصرنا الماثل. لربما لا حاجة لي للحديث عن نفسي، ولا عن مهنتي التي امتهنت قرابة عقودٍ ثلاثة، ونحن أناسٌ مجبولون على نكران قدراتنا وإنْ سَمَتْ ، وعلى استصغار قاماتنا بادعاء تواضع أجوف، وقد تمكّنتْ فينا ثقافة "من عددوا حسناته أمامه فقد ذمّوه..!" ، تمكيناً راسخاً ، فهل لنا من فكاك منها ..؟ لنلج إلى لبّ الموضوع ، إذن .. للسفارة الأمريكية وجود راسخ في الخرطوم ، كما لرؤوسها ولكبار القائمين بأمر المتابعة الدبلوماسية فيها، باع طويل في الإلمام بالسياسة الداخلية في السودان. ودهشت أيّما دهشة أن يكون تقييمها لأدائي حين كنتُ مديراً للإعلام في وزارة الخارجية وأنطق عن سياساتها، بين نهاية عام 2004 ونهايات عام 2006، إلى كوني محسوباً على الفريق المتشدّد في حزب المؤتمر الوطني الحاكم في السودان، وما تبينوا لو نظروا ملياً ، أيّ لون كانت عليه سنواتي المهنية، ولا رأوا المنهج الموضوعي الذي اتبعته، وأنا أضع لبنات جديدة لممارسة "النطق الرسمي"، في أهمّ وزارة تعبّر عن السيادة واستقلال القرار . ما تبينتْ السفارة الأجنبية في الخرطوم وهي تتابع كل صغيرة وكبيرة، وخاصة في وزارة الخارجية السودانية، مَن ولج إلى الوزارة مِن أبوابها، ومَن قفز إليها متسللاً عبر نوافذها أو مَن تسلق جدرانها بنهارٍ لا بليل، فلا بلغ بصرها بصر زرقاء اليمامة فتكتب ما ترى، ولا بلغت بصيرتها حكمة الأنبياء، فتحلل ما ترصد. . ذلك هو الأمر الشخصي الذي، وإن ذكرته لك ، عزيزي القاريء، فذلك من حواشي المتن . ( 3 ) ولعلي أعجب للسفارة الأمريكية، وهي على دراية بطبيعة مهمّة أيّ "ناطق رسمي"، فيما وظيفة "الناطق الرسمي" من الوظائف التي تدرجها الخارجية الأمريكية ضمن إحدى الدوائر الخمس التي تشكل المداخل الرئيسية للعمل الدبلوماسي فيها ، وهي دائرة " الدبلوماسية العامة". فكيف يلتبس عليها تقييم من ينطق باسم وزارة الخارجية السودانية ..؟ تعلم السفارة تمام العلم أن الناطق باسم الخارجية الأمريكية، لا ينطق عن حزب أو عن تيار سياسي، بل هو لسان السياسة التي تتبعها الوزارة والمواقف التي تتبناها ، ولا نسمع عن سفير فيها ينطق باسم الحزب الجمهوري مثلا ، أو الحزب الديموقراطي. . ! فما باله الناطق باسم الخارجية السودانية يكون محسوباَ على حزب حاكم ، وحتى في الحزب الحاكم يكون محسوباً على تيار معين داخله. . ! ؟ ( 4 ) كثيرة هي التحليلات التي تناولت ما لحق بالممارسات الدبلوماسية، بعد رسوخ ثورة الاتصالات، خلال العقدين الأخيرين بوتيرتها العالية، وهو ما حتم على الدبلوماسية ضرورة تغيير بعض أساليبها المعتادة، واستحداث ما يتواءم مع المعطيات التي اكتسحت ساحة العلاقات الدولية، خاصة فيما يتصل بالتواصل الرقمي الإلكتروني وأقمار الفضاء الرّحب . لم تعد مهمة الدبلوماسي الأساسية، كما فصلتها الاتفاقيات الدولية المؤرّخة في ستينيات القرن الماضي في فيينا عاصمة النمسا ، هي تسقط الأخبار وصياغة التقارير الخبرية، في شئون السياسة والاقتصاد، وتذييلها باستقراءات وتنبؤات لما يتوقع حدوثه. تلك صفحات جاز طيّها الآن، وإنْ لم تتنبه المنظمة الدولية ووكالاتها المتخصصة بعد، لضرورة مراجعة معاهدات "فيينا" الكلاسيكية، والتي لا تزال بعض نصوصها تتحدث عن حصانة الأشخاص والمباني وأذونات أجهزة اللاسلكي القديمة، ومواصفات الحقائب الدبلوماسية ، والكثير مما تجاوزته التطورات الماثلة سواءاً في مجال الاتصالات، أو في تداعيات ثورة المعلوماتية. لقد دخلنا إلى عصر الدبلوماسية الالكترونية والسفارة الإلكترونية والحصانات الافتراضية، التي قد تحولت إلى جدران نارية (فايروول)، وتتصل جميعها بالأقمار الصناعية وبالحواسيب الذكية وبأجهزة الهواتف البالغة الذكاء والبالغة الصغر في ذات الوقت. حين نظرتُ في الذي سربه موقع "ويكيليكس"، عن الدبلوماسية الأمريكية والتي ركز الموقع على فضحها، وهي التي قد حققت بالفعل طفرات عملاقة في الفعالية وفي السرعة، تبين أن بعض علل الدبلوماسية التقليدية ما زالت عالقة بأدائها، وأن ما تناقلته الوسائل الالكترونية في برقيات بعثاتها الدبلوماسية، لا يعدو أن يكون من لغو لا يخرج عن دائرة الغرف التي جرى فيها، ولا أثر له خارجها. كثير من برقيات سفارات هذا البلد القوي يدبّجها دبلوماسيون ، لا يتجاوز اهتمامهم ما يتبادله غمار الناس من "ونسات" ومن نميمة ومن شائعات ، وقد يمعن بعضهم في الإكثار من البهارات على تقاريرهم، حتى تلفت روائحها، شهية من بيدهم أمور الترقيات وتنقلات الدبلوماسيين ! ( 5 ) لو رأى الناس في الدبلوماسية شيئاً من المجاملة أو النفاق المباح، أو الوقوف في المساحات الرمادية، فإن هذا الفهم العتيق إلى زوال . لم يعد هنالك، بعد اتساع ثورة الاتصالات وشيوع وسائطها الذكية، من يصدّق لغة السياسة البالية والدبلوماسية القديمة، كأنّ يدعي زعيم سياسي أنّ "وعكة دبلوماسية" منعته من لقاء مسئول كبير من بلد آخر ، أو دفعته لاجتناب حضور مؤتمر ما . لن يكون مناسباً أن تقول البيانات عن لقاء بين مسئول سياسي كبير وسفير أجنبي، أنهما "ناقشا سبل تطوير العلاقات "، فيما تنكشف الحقيقة بعد لحيظات، أن الخلاف كان عاصفاً بينهما. لن يتجاسر زعيم سياسي بعدها، أن يصف ثورة شعبه عليه، بأنها صنيعة "جرذان تحركهم أيدٍ أجنبية " ، فإن أصغر جهاز هاتف جوّال مزوّد بإمكانية التصوير الرقمي الفوري، بإمكانه أن يقتحم الفضائيات ليبث ما يدحض مثل هذه الأكاذيب. ذلك ما تبيناه في ثورات "الربيع العربي" على شاشات الفضائيات. . ( 6 ) ليس مهمّاً محتوى ما نقلته برقيات التسريب الذي حققه موقع "ويكيليكس"، بل وليس مُجدياً أن يسعى من أصابهم التسريب برشاش ، أن يسارعوا لإنكار ما شاع من ألسنتهم، فالأوفق أن ننظر إلى أبعد من التملّص مما جرى تسريبه ، ولنمعن البصر لنرى ما وراء الأكمة، أهيَ غابة، أم دهمة وراءها جند مدجّجون ؟ الناظر إلى ثورات الربيع العربي، سيرى كيف لعب موقع "يوتيوب" دوراً مهماً في فضح ممارسات الأنظمة البالية المهترئة، وقد عصفتْ بما ظنته ثوابت استقرارها، عواصف الشفافية، وموجبات المصداقية. ولعل التغيير الذي وقع في مناخات الشفافية على الساحة الدولية، سيترك أثره البالغ على طبيعة ومهام وآليات الدبلوماسية ، ليس على المستوى إدارتها من قبل الدولة، ولكن لناحية فعاليتها على المستويات الخارجية . لقد آن الأوان بعد "ويكيليكس"، أن تعمد أجهزة الدبلوماسية - وليس الدبلوماسية الأمريكية فحسب- على إصلاح حالها، وأن تبدأ بمراجعة تلك الاتفاقيات التي صاغتها أجواء "الحرب الباردة" ، وأن تستصحب ما استجدّ من تحولات في الساحة الدولية ، وما طرأ من تطور لا حدود له في مجال الاتصالات والمعلوماتية. على الدبلوماسية أن تكتشف "ربيعها" ، إذ ان مناخ الشفافية لن يرحم محطات ترزح تحت غبار الزمن الماضي، ولا دبلوماسية تتزيّا بسرابيل، جرى نسجها في أجواء الحرب العالمية الثانية، والتي مضى عليها أكثر من نصف قرن ! إن ربيع الدبلوماسية بعد "ويكيليكس"، لن يكون ربيعاً عادياً .... ++++ الخرطوم – يونيو 2015 [email protected]