يقول الذكر الحكيم : {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }يوسف108 (1) { إن تفسير القرآن كان نقليا يعتمد على الأثر بنسبته إلى الرسول الأكرم ، أو من شهِد لهم بالقدرة على التفسير كابن عباس ، ولم يكن هذا مطلب المتصوفة ، لأنهم لم يكونوا يعتبرون أنفسهم مُفسرين بقدر ما هم أهل العلم الذي أورثه الله إياهم بعد العمل بالقرآن ، ولم يكن يشغلهم الارتباط بما مضى حتى فيما بينهم ، وكأن الاستنباط بالنسبة إليهم فرض عين ، وهي إشارة إلى الحرية التي أعطوها لأنفسهم ، وهي إشارة إلى الحرية لهم ولغيرهم في الإبداع ولم يكونوا يهتمون بالثابت ولا الأصيل ، ولا كانت منافسته مُبتغاهم ، على الرغم من أن تفسير الرسول للقرآن مثلاً الذي هو من العناصر الثابتة ، كانوا ينظرون إليه بأنه تخصيص ، وضرورة الاستنباط منه تُعد فضلاً وشرفاً لهم ، وكأنهم فهموا أن تفسير الرسول للقرآن كان بدوره على حسب مقتضى الحال ، لأن النص ثابت ، أما المتغير فهو الفهم الذي يستجيب لمقتضى الحال ، أما الفقهاء فتصوروا أن الموقف القديم من القرآن ثابت خالد ، ويوجد بمعزل عن عقول المتصوفة ، لذا رموهم بمعاداة القرآن وأضروا بالتراث بأكمله .} د. آمنة بلعي (2) قد يتساءل القارئ أو القارئة : منْ هؤلاء المتصوفة ليؤثروا في مسيرة حياتنا ؟ تاريخ حياتنا مملوء بريح المتصوفة أنّا توجهنا ، وليس التاريخ الذي ورد في طبقات ود ضيف الله يقيني المعرفة ولكنه يوجه بوصلة العارفين . الخلاوى التي تم إنشاؤها منذ القرن الخامس عشر للميلاد بدأت على أيديهم ، ملئت البلاد . أنشأها أصحاب الإرادة الحرة ، وهم مثقفي ذلك الزمان العضويين ، وهي محطات لها تاريخ ولها رواد ، أسسوها ولم ينقض الأمر عند ذلك . كانت الخلاوى تفوق أربعة عشر ألفاً، منتشرة على رقعة أرض السودان القديم ، منها عشرين في مديريات الجنوب سابقاً ، وفق احصائية الشؤون الدينية للدولة السودانية قبل الإنقاذ . جميع الذين عمِلوا في الكتاتيب القرآنية كانوا يقدمون المعرفة الدينية حسبما يتيسر ، وكان المعلم بابكر بدري قد تجول طول بلدان السودان لأن الإنكليز رغبوا ضبط التعليم في الخلاوى ووضع ميزانيات لها كما ورد في مذكرات المعلم الكبير ، معظم تراث مبدعينا نهض من إرث تعليم الخلاوى، ولكن الصوفية الحقيقيون بعض أولئك، موجودون في الأرض ، بعض ملحها ، وبعض من رحيق أزهار أرضها التي تنبت بلا مُعين . يخففون ظلامات الجبّارين ويدفعون بيسر الكثير من المعضلات الاجتماعية . اكتسبوا المعرفة من الترقي في العبادة ، يقدمون معارفهم بقدر جهدهم ويخاطبون بلطف الأرواح المعذبة . ويستجير بهم الحزانى والفقراء . وبالزاد الذي يتوفر ،يوزعونه بين طلاب الخلاوى والأضياف . ليس كل مؤسسي الخلاوى من المتصوفة وهو أمرٌ معروف ، ولا تنتقل المعرفة عبر الجينات أو الأنساب ، هذا هو الشق الذي ينبغي علينا أن نبحث ، فقد ظلمهم غيرهم كثيراً ، واستباح أهل الظاهر دماءهم أين ما وجدهم ، فانتشروا في الأرض ، رغم أنهم ليسوا بطلاب سلطة أو مال . بعضهم يتخفى ، ولا نعلم بأمره إلا ساعة الكشف ، مبثوثين بين الناس . أيصدق هذا الوصف على الذين يشتغلون بنقش الجباه وإطلاق اللحي ، والمسابح بين أيديهم تزينها ؟ لا أعتقد ذلك . للبسطاء ألا ينعموا بالطيبة أكثر مما يجب ، وليتمهلوا قليلاً : امتلأت الأرض عندنا بأشباههم ، حتى التبس الأمر على العامة والخاصة من الناس ، وأسهم الذين حملوا القرآن على أسنة الرماح أو الذين شغلتهم السلطة والمال ، في تفريخ الأشباه . وهؤلاء المزيفون يرغبون أن يتعجلوا كل شيء . تعرفهم أنت بلهفتهم ، وجوعهم الذي لا يشبع ، وعيونهم التي لا يملؤها إلا التُراب . (3) كانت الدنيا ولما تزل ، تغطُ في نوم عميق ، فأهل الإبداع في كل مكان وزمان سطا باسمهم كثرة من المقلدين ، وتبوؤوا السلطة والمكانة والمال ،ضمن قانون جائر ابتدعته الأذهان التي تعيش على هوامش العلم والمعرفة ، ولكن المقلدين عرفوا النظام الرأسمالي ، أو عرفوا الفوضى التي ليس لها أول ولا آخر ، وقد ضربت أطنابها فيما تبقى من بلادنا ، وانتعش الباحثون عن الرزق عند موائد السلاطين، وأصبح المتصوفة الحقيقيين بعيدين لا تجدهم هناك ، بل يجلسون مع العامة و يقدمون الذي بيدهم فعله ، ولكن سخام النيران أحرقت الأجساد البريئة ، فمن يستطع أن يعيد اليسر من بعد العُسر ؟. (4) نفض المتصوفة الحقيقيون يدهم عما يحدث من فوضى ، أيديهم بيضاء من غير سوء ، ووجههم ناصعة بالرضا والسكينة ، تعرفهم أنت بسيماهم ، يتعففون عن موائد السلطان ، رءوفون على أهلنا . انغرزوا في أطراف الأرض التي يسكنها الناس ، وأجبرهم خُلقهم النبيل أن يكونوا حيث يحتاج العامة والخاصة إليهم. هؤلاء المتصوفة يجدون سكينتهم في خلواتهم ، يلهجون بذكر المولى تجويداً وترويضاً للنفس الأمارة بالسوء ، ودرساً لها أن يكون طعامهم من طعام العامة ، والصوم جزء ركين من حياتهم ، ووضوؤهم عند كل لمحة ونفس ، يغسلون به الشك ، لا تفسده عليهم إلا سِنة النوم ، تستند عليهم الأنفس الضعيفة وتتقوى بهم العزائم . (5) ترى أنت الذي يضع منهم يده على رأس أحد المريدين ، يدعو المولى العزيز أن يعينه على الشفاء ويمدّه بروح منه . ثم تنتظر أنت وتجد المُبتئس كأنه خرج للحياة أول مرة . نسمة العافية تكاد تعود إليه من جديد والروح قد رفرفت جناحيها من الفرح الآتِ. هذه من كنوز المتصوفة المُضمرة في أجسادهم والأرواح . أكانَ المسلك حيَّل يمارسها البعض يا ربي أم لها حقيقة من طلب الشفاء ونواله ؟. تجد الحياة كأنها تدب في أوصال المتعبين ، تخفّف ألام الإنسانية المعذبة . لا ينقص المتصوفة الحقيقيين إلا قليل مران وضبط ما هو موجود من رقة المشاعر والإحساس النابض بالحياة ، فلديهم عطية مولاهم وهبها لهم لتنتفع الإنسانية . تلك الخصلة أيضاً سطا عليها " المرتزقة الجُدد " ، فلم تعُد الحياة هينة رضيّة ، كما عهدنا. (6) أخي أو أختي الضعيفة المعذبة ، أراكم مُبتئسين دائماً ، تأكدا أن شفاء الأمراض ومداواتها ممكن ، وهناك وسيلة للشفاء بدون العقاقير أو الإبر التي تنغرز ،فبداخل كل جسد، قوة لا يعلم كنهها إلا مُنشؤها وموجدها ، وهي الميكانيكا الإرادية وغير الإرادية الصالحة في النظام العصبي . تلك القوى تفوق الكهرباء كرامة وعظمة ولا تكلفك ولا تُكلف المداوي شيء سوى استخدام المخزون من المغناطيسية الحيوية المتوفرة داخل أنفسنا ، ومادتها السيال العصبي ، مادة الحياة وينبوعها الإلهي داخل الأجساد البشرية . (7) لم يهتم كثيرون بترجمة الأسفار التي تتحدث عن أهم فروع العلوم النفسية ، وهو العلاج المغناطيسي . وهو ذلك النظام الذي يؤثر مباشرة على الجهاز العصبي الذي يبلغ بدوره المخ ، وما يناله من التأثير الصحي ، بعكس التنويم الإيحائي ( التنويم المغناطيسي ) الذي يؤثر مباشرة على المخ ثم ينتقل لمجموع الأعصاب والألياف العصبية ، والتنويم الإيحائي يتطلب خضوع المريض التام لمنومه ، أما العلاج المغناطيسي فيتمم غاية أعجوبته العملية بتحويل القوة الحيوية من المعالج إلى المريض وهو نوع من التأثير الروحي إن صحت التسمية ، لذا نرى العلماء الروحانيين من المتصوفة أو الكهنة لهم قوة التأثير الفعال للقيام بالعلاج المغناطيسي دون غيرهم ، لما لهم من خبرة مكتسبة وكثرة المران و الصبر على التعبُد ، ودخولهم السلس بين مسارب الأرواح ، ولرغبتهم التامة في تخفيف آلام البشرية عن المريدين والمريدات . كثير من المتصوفة الحقيقيين لا يعرفون كنه ما في أجسادهم من كنوز ، ولكنهم يؤمنون بأن هنالك هبة مليك مقتدر منحها لهم ، وهي مبذولة من أجل الناس ،يخفونها عن العلن ما وسعهم من سبيل . (8) الأيدي : وضع الأيدي لتخفيف الآلام ، حقيقة نعرفها ، ولا ندرك قوتها الحيوية الحقيقية ، فكل شخص يملك في نفسه قوة موهبة شفاء الأمراض التي تصيبه أو تنتاب غيره باستخدام القوة الحيوية المغناطيسية الكامنة داخل نفسه.إن كل جسم بشري مغناطيسي في حد ذاته . فكل شخص يجذُب ويَنجذب ، ويفعل ذلك دون أن يشعر ، أما العلاج المغناطيسي هو القيام باستعمال تلك القوى بوعي ويقظة ، بحيث يسلطها المُعالج على الآخرين بعزم وقوة حازمة ، فتُحدث الأثر. يجب أن تتأكد أن اليد اليمنى هي الموجبة ، واليد اليسرى هي السالبة ، واليد اليمنى هي الواسطة الروحية لإرسال القوة المغناطيسية منك إلى الإنسان الضعيف ، أما اليد اليُسرى فهي لإتمام الدائرة المغناطيسية . وبمعنى آخر فإن السيال المغناطيسي المندفع منك يسري في جسم المريض من يدك اليمنى إلى أن يعود إلى يدك اليسرى إتماماً للدائرة .وبقدر ما يفقد الطبيب المغناطيسي عند ممارسته تخفيف الآلام التي تصيب إخوانه في الحياة من تلك القوة الكامنة العاملة في داخله ، فإن سيحصل على قوة معادلة عوضاً عنها مما يتجمع لديه من أطعمة ومن الهواء الذي يقوم الجهاز الكيميائي الموجود داخل الجسم بإعادة صناعته ، وبالتالي من المدهش ، بل ومن المستغرب و يستحيل على الشخص الأناني المحب لذاته والخالي من الشعور أن يكون معالجاً مغناطيسياً ناجحاً .، لأن الإحساس القوى العصبي الذي يلزم لدفع تلك الاهتزازات وتسييرها بمنتهى القوة لتغذية السيال العصبي ، يصبح في مثل هذا الشخص متوقفاً عن العمل ، عاطلاً . (9) إن التعاطف الإنساني والمشاركة الوجدانية والثقة بين المُعالج وبين المريض هي الوسيلة الحقيقية التي تساعد على دفع السيال المغناطيسي من شخص لآخر . العينان : العينان وسيلة ليدخل السيال العصبي من خلالهما إلى العين اليُسرى للمريض، أي من المُعالِج إلى الذي يطلب الشفاء، عليه أن يركز نظره بعمق وثبات إلى العين اليُسرى ، و كأنك ترى الذهن من خلالها ، فهي أفضل الوسائل لدخول الدفق العصبي منك ، وعبر أكثر المناطق ضعفاً في جسد المريض ، لسهولة انتقال القوة العصبية إلى الآخر . (10) لو دققت النظر إلى الأدعياء من حولنا ، لعرفت الفرق بين النفس المخادعة التي تتلبس لبُوس الحياة المتصوفة ، وبين النفس الأبيّة التي تعشق الإنسان والإنسانية . ليس في مقدورنا أن نتعرف بسهولة على الأنبياء الكذبة الذين ملئوا الأرض . إن التركيز الذهني والجلوس للصفاء والعبادة والأوراد والذكر : ( الذاكرين الله كثيراً والذاكرات ) ، والصفاء الذي نراه عند المتصوفة الحقيقيين هي نعمة الشفاء مُتجسدة ، وهم يعرفون أن لديهم هبة الخالق ، وهي تأتي من ذوبان مشاعرهم في قضايا الناس ، ومن تهيئة أنفسهم عبر جلسات التعبُد في مكان منعزل ، يحشد فيها الجسد قواه الروحية والوجدانية وتجعله قادر دون غيره متهيئا للتطبيب المغناطيسي . ويمتد ذلك إلى الترويح عن الأرواح القلقة مما يحدث على صفحة الحياة المعقدة ومآسيها ، والبؤس الذي ملأ الأرض . إن تلك الحقائق ليست أحلام يقظة أو تضخيم رآه المريدون ، أو جزء من تراث الكرامات الصوفية المنثور في فلكلور الشعوب ، بل قضية علم وهو أعظم كرامة وأجلّ مرتبة (11) قد يسال سائل : ومن هم المتصوفة الحقيقيون ؟ فنقول هم كالغرباء ، ولكنهم بعض من لُحمة الإنسانية ، وجوههم مكسوة بنور الإصباح ،موجودون ما دام الخير موجود . يُعرَفون بسيماهم . حديثهم لا يشبه حديث الناس . يسمعون أكثر مما يتكلمون . يوجزون ، وتكاد الحكمة أن تتدفق من حديثهم . تخلو عيونهم من نظرات الاشتهاء ، نظراتهم حنونة ومشاعرهم مُتعاطفة ، يتميزون بالصبر ، يوجدون عندما يحتاج لهم الآخرون ، ولا يطلبون لأنفسهم شيئاً. يعرفون لكل مقام مقال . إن نظرت لوجوههم ، كأن الأنوار مُضيئة على الوجوه ، يتبسمون في أحلك اللحظات ، ولا يُغريهم مال ، ولا يشغل بالهم التطلُع إلى ما بين أيدي الناس . صوتهم قوي خفيض . يمشون ببطء ، كرام حيث وجدتهم ، خُلصاء لعامة الناس . عبدالله الشقليني 7 يوليو2015 [email protected]